ميشال شيحا ومنصور الرحباني.. الجنوب المُفتدى والخطر الإسرائيلي

 

     توفيق شومان 

 

يتصدر ميشال شيحا (1891ـ 1954) طليعة المفكرين اللبنانيين الذين أسهموا في بلورة الهوية السياسية والإقتصادية والثقافية للبنان الحديث، ولئن حاول اليمين اللبناني أن يصادره فارتكب اثماً، فاليسار ومن ورثه نبذه فكان مع الآثمين، وهذه القراءة لميشال شيحا تستعيد بعضاً من منظومته الفكرية والسياسية حيال الجنوب اللبناني ونظرته لإسرائيل.

خطاب التنابذ بين الأطراف السياسية اللبنانية، يكاد يُشكّل أداة العمل السياسي شبه الوحيدة في المشهد العام، ربما يقول بعضهم إن التنابذ وبرغم ما يحمله من بذور كراهيات وأحقاد لا يخرج عن تقاليد السياسة، فهو في قلبها وصلبها، ولكن هذا العُرف الذي يكاد يتحول إلى ايديولوجيا يجانب كل ما يتعلق بالسياسة ويتصل بها، على الأقل هذا ما يقوله مبتكرو علم السياسة، فلاسفة اليونان، ذلك أنه من المقولات الخالدات، وكما يرد في “علم الأخلاق” لأرسطو “إن غرض السياسة الخير الحقيقي.. الخير الأعلى للإنسان”.

في فلسفة ميشال شيحا اللبنانية، يُمكن العثور على الكثير من “الخير” تجاه اللبنانيين عموماً وأهالي الجنوب خصوصاً، فيما يرى في إسرائيل دولة مجردة من “الخير” لأنها قامت على الأطماع والتوسع وسوف تستمر بذلك.

أولاً؛ ميشال شيحا والجنوب:

تحت عنوان “الجنوب اللبناني” كتب ميشال شيحا في الأول من حزيران/يونيو 1944 مقالة أعيد إدراجها في كتابه المعروف “في السياسة الداخلية ” أصدرته دار “النهار” عام 2004 ونقله من الفرنسية إلى العربية المؤرخ اللبناني أحمد بيضون مع مقدمة للراحل غسان تويني، وفي هذه المقالة يقول شيحا:

“مجرى المياه الصغير الذي ينساب متعرجاً عند أقدام خرائب الشقيف، الليطاني الأخضر المياه تحفُ به أشجار الدفلى، تلوي في نموها على لا شيء، هو شيء من الفرح يسيل في الوادي الضيق العابق في العطر، وعلى الجبل العاري تنتصب القلعة العتيقة كما في الأيام الخوالي، أو ينتصب ظلها، فالتاريخ في تلك الأصقاع مدرج في المشهد، وكل صخرة ذكرى وكل ضيعة مملكة”.

هل من لوحة حب وإعجاب بالجنوب أكثر من تلك؟

نعم.. في قلب ميشال شيحا وعقله ما هو أكثر، يقول الرجل:

“لبنان الجنوبي لا نعرفه معرفة كافية، ولا نوليه حباً كافياً، وهو قد عانى مدة طويلة نوعاً من فقدان الحظوة، فكأنه قد تعب من ماضيه واعتزل العالم من تلقاء نفسه، وشيئاً فشيئاً وفي غضون ألف عام مضت، أخذنا ننساه، هذه الأرض التي هي لبنان الأزلي، هذا الإمتداد لجبلنا يصل بنا إلى منحنيات الجليل، هذه التخوم نفضي إليها من صور وصيدون ويتجاوب فيها إلى اليوم وقع خطى مقدسة (خطى السيد المسيح) لا بد لنا من العودة إليها بكل طاقاتنا الروحية، ذاك واجب على كل اللبنانيين ويزداد إلحاحاً في كل يوم”.

يضيف ميشال شيحا ويزيد:

“ثغورنا الجنوبية (لاحظ ثغورنا) تزداد أهميتها كل يوم ويترسخ موقعها الحيوي من بلادنا، والإستيطان (الإسرائيلي) الذي يتوق غيرنا إلى مباشرته فيها، نحن أولى بالشروع فيه، والبرتقال الذي يمكن استنباته فيها، نحن أولى بغرسه على طول ذاك الساحل الرائع، ومعه زراعات كثيرة تتقبلها تلك الأرض التي يحاصرها من المطامع (الإسرائيلية) ما نعلم”.

وفي ما يشبه الوصية المُبكّرة يختم شيحا:

“لبنان عليه واجبات حيال الجنوب وحيال البقاع أيضاً، وكلاهما مهمل إلى حد لا يجوز قبوله (…) كرمى لمستقبل لبنان يجب على كل منّا أن يعلم هذا وأن يتذكره”.

ثانياً؛ ميشال شيحا وإسرائيل:

لميشال شيحا كتاب ذائع الصيت عنوانه “لبنان في شخصيته وحضوره” أصرته دار “الندوة اللبنانية” عام 1962، وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات ألقاها في أوقات متفاوتة، وقام بتعريبها فؤاد كنعان، وإحداها بعنوان “عالم اليوم” يعود تاريخ القائها إلى السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 1950، وفيها يقول:

“لئن كان للإستعمار معنى، ومعنى للعنصرية، فإن إسرائيل هي بالتحديد الدولة الأشد عنصرية والأشد استعماراً على وجه الأرض، هذه الإسرائيل التي عادت إلينا، سياسياً، جاراً كانته لفينيقيا في غابر الأزمان، هذه الإسرائيل التي تتمدد وتسترسل من يستطيع إنكار طابعها العالمي ومقدار نفوذها (…) ما من أحد أكثر مني حذّر من مخاطر جوارهم (بني اسرائيل) الخطير”.

وفي محاضرة أخرى (17 ـ 12 ـ 1951) أعطاها عنوان “لبنان في العالم/ الواقع والمرتجى” منشورة في الكتاب نفسه، يقول شيحا:

“في الجنوب، هناك إسرائيل بدعة الأرض وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دوياً، إسرائيل ليست في الوقع بلداً كالبلدان، فمن يتاخمها يتاخم دولة عالمية نسيج وحدها، مشتلاً للعنصرية في صميمها، حيث المواطنية يرسم حدودها الدين، ويتاخم مختبراً بشرياً ومطامع مختلة تغلي أبداً وتفور، ففي جنوب لبنان وعلى عتبة بابنا بالذات، ينصب الجهد على تجربة سياسية ولا أغرب، ذلك أن إسرائيل إذ تصبح دولة تصبح عاصمة لليهودية جمعاء (…) حسبنا أن نتأمل ما لهذه الدولة المنافية للتاريخ من طابع فريد، حتى نبرز للعيان ما تثيره للبنان من هموم سياسية واقتصادية واجتماعية بات لا يجوز أن يجهلها اللبناني الواعي”.

بقليل من التمعن بـ”لا يجوز” وهو تعبير يجدر التأمل والتفكر به، وكأن بـ”لا يجوز” يرمي شيحا “الحُرم” على من لا يعي حقيقة إسرائيل، ثم يتابع عدم تجويزه وبما يمكن اعتبار ما سيقوله هذه المرة استشرافا للمخاطر الإسرائيلية المحدقة بلبنان:

“من جهتي، قلتُ وكتبتُ عشرات المرات ما أحسبه الحقيقة عن إسرائيل، فحذار حذار جارتنا الجديدة، لأن جارتنا الجديدة ستطالعنا بالأخطار على صنوفها، سواء أكانت تتقدم في خط مطامحها تقدماً ميسور الإطراد، أم كانت تعاني من الضيق، ونحن مهما عملنا، فلن نؤتى الراحة بعد اليوم، أو لن نؤتاها طويلة الأمد على الأقل، هذا ما ينبغي أن نجاهر اللبنانيين به، لأنه الحقيقة بعينها”.

لا يقف شيحا عند حدود التحذير والتنبيه تلك، بل يذهب إلى ما هو أبعد من الحدود ليجعلها مساحة يقرع في مداها أجراس المخاطر، منذراً وقائلاً:

“للحضور الإسرائيلي بالقرب منا، عواقب لا حد لها، تتناول مستقبلنا السياسي والإجتماعي والإقتصادي، ناهيك بعواقبه على الصعيد الدولي (…) وسواء كان الأمر أمر دفاع وطني أو صناعة أو تجارة أو زراعة أو مال، وسواء كانت الحدود موصدة أو مشرّعة، فكلها معضلات تجابهنا بحُكم جوار إسرائيل، لأن إسرائيل جعلت من التوطين الممنهج والإعمار الحثيث محوراً لسياسة احتلال وانبساط ومدى حيوي، فكلما زاد سكانها زاد ثقلها على الحدود، وباتت الحدود بحاجة لمزيد من الحماية”.

ميشال شيحا: يبدو مستقبل لبنان، حيال إسرائيل، مستقبلاً حالك الجوانب، ولنا ما يدعو حقاً إلى المخاوف، في السلم أو في الحرب على السواء، فإذا نحن لم نتعمق في تقليب المعضلة وفهمها، ولم يتعمق في تقليبها وفهمها الذين يصنعون المصير، فقد تتحقق يوماً كل مخاوفنا، حتى أبعدها خطراً، لعل في ذلك ضرباً من الغيب سره في ضمير الأنبياء

كيف يشرح ميشال شيحا الأخطار الإسرائيلية تجاه لبنان والمرتبطة بالتجارة والمال والإقتصاد؟ في شروحاته ما يلي:

“إن استدعاء السكان إلى إسرائيل وحشدهم فيها هو (مشروع) عالمي مثلما هي عالمية، وهو عنصري مثلما هي عنصرية، إنه يتبدى في آن معاً، بتجنيد عسكري شامل، والجيش الذي يحمي إسرائيل قوامه يهود أجانب، تؤججهم مطامع أدهى من مطامع الغرب (…) وأما على الصعيد الإقتصادي، فإسرائيل لا يلين لها العيش دون صناعة ضخمة، فإذا هي صنّعت نفسها بما لديها من وسائل تقنية ومالية، اكتسحت جوراها بأسره وقضت على كل شيء، وإسرائيل لا تستطيع التنفس دون تجارة خارجية مكثفة، وتجارتها تستفيد من علاقات وصلات وحضور في العالم والأسواق، من استلافات شتى وتيسيرات، وأخالكم تدركون الأولويات والإمتيازات التي تنشأ وسوف تنشأ من وحدة متينة في المطامح والمصالح، وسوف تكون التجارة الإسرائيلية في شرق المتوسط تحدياً لا مناص منه، لكل المشروعات ولكل المرافىء ولكل التجارات والوكالات ولكل المهن التي تقتضي خدمة معينة”.

يقول ميشال شيحا إن إسرائيل “بلد مدجج ويزداد تدججاً يوماً بعد يوم، إنه مشروع للمستقبل ينفث روح العنف والغزوات، إنه جموح مطامح يرد ذرائعه إلى تلك الأيام البُعاد، أيام داوود وسليمان، إنه خمسة عشر مليون نسمة يضرمون النار المقدسة أو هذا اللهب في معظم بلدان الأرض (…) وما دامت إسرائيل ماضية في نهجها هذا، فنهجها هذا معناه أنها تستبيح دمار الأرض في سبيل خلاصها”.

هل كان ميشال شيحا يخشى على مستقبل لبنان نتيجة وقوع إسرائيل على حدوده؟

نعم.. وهذا قوله:

“يبدو مستقبل لبنان، حيال إسرائيل، مستقبلاً حالك الجوانب، ولنا ما يدعو حقاً إلى المخاوف، في السلم أو في الحرب على السواء، فإذا نحن لم نتعمق في تقليب المعضلة وفهمها، ولم يتعمق في تقليبها وفهمها الذين يصنعون المصير، فقد تتحقق يوماً كل مخاوفنا، حتى أبعدها خطراً، لعل في ذلك ضرباً من الغيب سره في ضمير الأنبياء”.

من أقوال ميشال شيحا:

ـ إسرائيل خميرة فاسدة تعتمل فيها ريحة فتنة.

ـ إسرائيل دولة منافية للتاريخ.

ـ الأمم المتحدة لا تفرض حدوداً وحواجز على ادعاءات إسرائيل ومطامعها.

منصور الرحباني: “أهالي الجنوب وقفوا وحدهم في أرضهم مثل السنديانة، انزرعوا في التراب مثل الأرز، لم يدعمهم أحد، لكنهم بقيوا صامدين ويقاومون، المقاومة حدث مهم في حياتنا والكل يجب أن يساعدها، هناك شباب يموتون من أجل الأطفال والنساء ويموتون على تراب الوطن، المسيح يقول: أي حب أعظم من أن يموت إنسان فداء عن أحبائه”؟

ثالثاً وأخيراً؛ من ميشال شيحا إلى الرحابنة:

في إحدى حلقات برنامج “الليل المفتوح” الذي كانت تبثه قناة “المستقبل” عام 1995 قال أحد أعمدة لبنان منصور الرحباني: “توجد هذه الأرض التي إسمها سوريا ولبنان أو أرض كنعان، ويوجد ذاك التواطؤ بين إله اسرائيل وشعبه لتمليكهم هذه الأرض، هذه يجب ألا يغيب عنا، اليهود تعلموا العمل بصمت، وكان واحدهم حين يلقي السلام على آخر يقول له: نراك في القدس السنة المقبلة، الى أن رجعوا إلى القدس، لا أحد يقول لكم إن حلمهم انتهى، حدود إسرائيل الشمالية غير محددة، عيّنوا كل حدودهم إلا الحدود الشمالية، يعني بيننا وبينهم، لماذا؟ لأنهم يطمعون بالماء والمناخ والثلج والأرض، هم يطمعون بالأرض التي يعدونها إسرائيل الكبرى، ولبنان هو باب الحلم الكبير”. يختم منصور الرحباني بالقول: “أهالي الجنوب وقفوا وحدهم في أرضهم مثل السنديانة، انزرعوا في التراب مثل الأرز، لم يدعمهم أحد، لكنهم بقيوا صامدين ويقاومون، المقاومة حدث مهم في حياتنا والكل يجب أن يساعدها، هناك شباب يموتون من أجل الأطفال والنساء ويموتون على تراب الوطن، المسيح يقول: أي حب أعظم من أن يموت إنسان فداء عن أحبائه”؟ من يُعيد قراءة ميشال شيحا؟ من يُعيد الإستماع إلى منصور الرحباني وعاصي وفيروز؟

 

شاهد أيضاً

عن “الجماعة الإسلامية” ودعم فلسطين وخيار المقا ومة

كتب قاسم قصير : يستغرب بعض الكتاب والمحللين والإعلاميين ان تأخذ الجماعة الإسلامية في لبنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *