رواية ماركيز الأخيرة… هل هي صالحة للنشر؟

حسن داوود

لم يكن غارسيا ماركيز راضيا بالوجهة التي سيوصل بطلة روايته «حتى أغسطس» إليها. كان ذلك بسبب تشوشه الذي لازم تضعضع ذاكرته. قال في بداية معاناته لذلك أنه لن يتمكن من الكتابة دون القدرة على التذكّر. لم يشر إلى علاقة ذلك بضعف التركيز، ذاك الذي جعله يعيد كتابة روايته الأخيرة تلك خمس مرات، مغيّرا خلالها مصير بطلته أنا ماجدالينا باخ، تلك التي كانت تتخذ لنفسها عشيقا جديدا في كل عام، رغم كونها متزوّجة. أما التوقيت السنوي لمغامرات عشقها فمرتبط بزيارتها إلى جزر الكاريبي في كل ذكرى سنوية لضريح أمها هناك.
الرواية التي ستصدر هذا الشهر، حسب التحقيق الذي نشرته ألكسندرا ألتر في «نيويورك تايمز بوك ريفيو» هي عمل ماركيز الأخير، وهي باتت جاهزة للنشر بعد عشر سنوات من رحيله (في 2014). لم يكن موافقا على نشرها، وكان قد قال لابنه الأصغر غونزالو غارسيا بارشا، أن الأولى بها أن تختفي، معيدا بذلك ما كانت تدلّ عليه مراجعتها من قبله، بل إعادة كتابتها، خمس مرّات، جميعها كثيرة الحذف وامتلاء الهوامش بالتصحيحات وتغيير الكلمات الدالة على الصفات المتعلّقة بشكل المرأة (البطلة) وطبيعتها وتصرّفاتها. من ذلك مثلا ما ذكره من اطّلعوا على النسخ المختلفة عن الاختلاف بينهم حيال سنّ بطلتها بين نسخة وأخرى، فمرة هي في الأربعين ومرة تظهر وقد وضعت قدما في الكهولة. لكن، رغم ذلك، قرّر ابنا الكاتب كلاهما نشر الرواية، رغم تشكّك أبيهما بارتقائها إلى مستوى أعماله السابقة، التي خصّت الصحافة ناشرة التحقيق اثنين منها هما «مئة عام من العزلة» و»العشق في زمن الكوليرا».
ولم يوسع التحقيق كشفه في تفاصيل الرواية أو محتواها، إذ لم يذهب إلى أبعد من التعريف ببطلتها. لقد انصبّ الاهتمام فيه على التضارب في وجهات النظر حيال جواز نشرها أو عدمه. هذا ويُذكر في التحقيق حالات مماثلة جرى فيها الغضّ عن رأي الكاتب في ما يتعلٌّق بنشر أعماله. بدأ ذلك، في ما أشارت إليه الصحافية الكاتبة، مع الشاعر فرجيل الذي، بعد رحيله، نُشر كتابه، فيما كانت رغبته أن تُمزّق صفحاته. فلاديمر نابوكوف نشر ابنُه، بعد ثلاثين سنة من وفاته، روايته الأخيرة التي كان الأب الكاتب قد أتلف مخطوطا لها بيديه. أما فرانز كافكا فأوصى ماكس برود، صديقه وناشره، بأن تحرق كل كتبه، تلك التي كانت فاتحة للسخرية السوداء في رواية العالم.
عدد من الكتاّب نعتوا فعلة برود بالخيانة، وقالوا إن وازعه لنشر أعمال كافكا كان الجشع. هذا ما اتّهم به ابنا غارسيا ماركيز أيضا، اللذان قرّرا، بعد عشر سنوات من رحيله، أن الرواية تظهر عن جانب من شخصية أبيهما وكتابته ينبغي عدم إغفالها. آخرون من محبذي نشر الكتاب قالوا إنها المرة الأولى في روايات ماركيز التي تكون فيها الراوية وبطلة الرواية امرأة، وهذا ما يستحقّ أن ينشر ويقرأ.
الآراء المعروضة في التحقيق لم تتعدّ كثيرا السجال القانوني حول إن كان ينبغي تجاهل رأي الكاتب أم لا. أما الكلام الذي يدفع إلى التوقف عنده ولم يلتفت إليه التحقيق، فهو نزاع غارسيا ماركيز مع نفسه. ذاك الإصرار على أن يظل كاتبا في وقت ما كان التخيّل والإبداع يعاندان. لا يكفي ذلك التراث الضخم المتمثّل بأعمال بلغ عدد نسخها الموزعة في العالم ما يتعدى الخمسين مليون نسخة، لأن يتقاعد الكاتب عن الكتابة. فإذ يقال إن الكاتب هو كتابه الأخير فذلك يوصل إلى أن الكاتب يتوقّف عن أن يظل كذلك إن لم يكن لديه شيء يكتبه. هذه المرارة التي تترافق مع التقدّم في العمر، دفعت أرنست همنغواي إلى الانتحار.
أتخيّل غارسيا ماركيز وهو يقوم بعد عمل ساعات معلنا لنفسه، أن هذا الذي كتبه لا يستحق أن يبقى. إذ ليس هذا الذي يعيد قراءته من موهبته ولا من قريحته. وهذه ليست معاناة لمرة واحدة، فقد ظل كاتبنا مستمرّا في عناده لسنوات كانت قدرته خلالها تتراجع باطراد. التعديلات التي قال العاملون على مراجعة الرواية أنها لم تعد تُفهم هي تلك التي تضمها نسخة المخطوط الخامس. وهذا ينبغي عدم اعتماده على أي حال، طالما أنه الحصيلة الختامية لما أوصل إليه النسيان والتخبّط وعدم الرضى. قبل رحيله، كما يُذكر في التحقيق، بلغ تراجع ماركيز مرحلته الأقصى، إذ كان كاتب الواقعية السحرية قد توقّف عن التعرّف على المحيطين به، ومن بينهم ابناه. فقط زوجته مارسيدس التي كان يأخذ هيئة المصغي حين تكلّمه.

عن السجال الذي دار حول نشر رواية غابرييل غارسيا ماركيز الأخيرة « Until August» بعد عشر سنوات من رحيله. ربما تكون الرواية قد صدرت الأن ووزعت في البلدان الثلاثين كما سبق أن أعلن ناشروها.

كاتب لبناني

شاهد أيضاً

شباب لبنان …شباب العلم

/ابراهيم ديب أسعد شبابٌ إلى العلياءِ شدّوا وأوثقوا وطاروا بأسبابِ العلومِ وحلّقوا وقد ضمّهم لبنانُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *