تراجيديا السّلطة” في لوحة الرسّام شوقي دلال

بقلم الدكتور *رفيق ابو غوش                                                

 الفن والسياسة توأمان سياميان، لكنّهما ينفصلان بسهولة، فالفن يمتلك قوّته الخاصة وفرادته، وهو قادرٌ أن يشكّل قوّةَ في لعبة السّلطة. غير أن بعضَ النّقاد يعتقدون أن الفن لا فائدة منه في التّغيير السّياسي بخاصّة عندما يتعلّقُ الأمرُ بظواهر سياسيّة معقّدة. وهنا لا بدَّ من طرح الإشكاليّة التي تحدّثَ عنها الكاتب الثّوريّ البريطاني جون مولينو التي تقول: هل الفنّ هو الّذي يبعدُ نفسه عن السّياسة، أم هو الّذي يبدأ بها؟ إلا أنه يخلص إلى أن الفن يمكن أن يشكّل رافعة السّياسة في بعض الأحايين، وبخاصّة عندما يتعلّق الأمر بظواهر التّحرّر ونبذ العنف، ومحاربة الظّلم والاستبداد، فربّ قصيدةٍ أو لوحةٍ تفعلُ ما يعجزُ عنه منظّرون إذا ما توفّرت لها عناصر مساعدة.

 

 

وإذا كانت السّياسة فنّ الممكن، فالفن هو فن التجاوز والمستحيل، وعليه فإن الفن يصوّب بضراوة على الهدف عندما لا يعود ينفع الممكن، وعندما ينكفئ السياسيون إلى المقاعد الخلفيّة تاركين الأمور في عهدة الميدان.

  من هنا ينخرط الفن في مقاربة السّياسة، وينخرط الفنّان شوقي دلال في هذا الجهاد وهو الّذي قلّما يكتب (يرسم) في السّياسة أو يقارب مأزوميّتها ومندرجاتها وبخاصّة عندما تبتعد عن الممارسات الأخلاقيّة. فإذا كان الفنّ فعلاً أخلاقيّاً وسلوكًا إبداعيًّا، فإن السّياسة لا علاقة لها بمنظومة الأخلاق لأنّها محكومةٌ بالمصالح وبالنفعيّة وبالميكافيليّة المتقدّمة، في حين أن الفنّ هو إبن الجمال المحسوس والتخيّل الذي هو فعلُ انعكاسٍ للجمال العلويّ النورانيّ. والجمالُ المحسوس ما هو إلا غابة من الرّموز التي ترتبط بعالم الرّوح كما يرى بودلير، الأمر الّذي لا يتوفّر للسياسة. لكنّ الفنّان، وهو يعبرُ جسر الرّموز إنما يعبّرُ عن موقفٍ فكريّ، فيأخذ وضعيّة المراقب الإيجابي ويبحثُ عن مساحة أمانٍ وخلاص، لأنه كلّما زادت مساحةُ الفنّ، اتّسعت مساحة الحرّيّة. فعملُ الفناّن إذًا ضرورةٌ للاهتمام بما يدورُ حولهُ في المجتمع والأمّة، والتّأثير في مجرى الأحداث، ومقاومة الباطل بوصف الفنّ أكثر أشكال الفردانيّة في العالم كما يقول الشّاعر والرّوائي الإنكليزي أوسكار وايلد.

  من هذه الزّاوية الفردانيّة الدّلاليّة ندخلُ إلى لوحة شوقي دلال المترعة بالأقنعة التي تحملُ مخزونًا دلاليًّا وفيضًا من المعاناة الصّادقة، في تراجيديّة تفصحُ عن مدى الانكسار والإنهاك والانتهاك لأبسط حقوق الشّعوب في حريّتها وسلامها.  اللوحة مفتوحة على التّأويلات وضاجّةٌ بسطوع الألوان والخيوط والتّوزيع الظّلّي للأفكار المنوي إيصالها لأنها متماهية مع قوّة الحقّ الذي لا يحجبهُ دهاء السّياسة. من هنا فهي متشظّية وموزّعة بشكلٍ سيمفونيّ تتساند وتتعامد لإبراز الخلل الماثل في المقاربات السّياسيّة. فالجسد الذي يستحوذ على معظم اللوحة ويتقاسمها بنسبة الثلثين إلى الثّلث يؤشّرُ إلى طبيعة الأزمة التي تعيشها الجماعة من انحدارٍ للقيم الإنسانيّة، وسيادة منظومة الظلم والتّعسّف والاستعباد فالمسطّحات اللونيّة، والبقع المتفرّقة في الوجه ما هي إلا إدانة لسلوك الإنسان المعاصر  بتسلّطه وصراعاته القديمة الجديدة. وهذه التنظيميّة القصديّة في توزّع الألوان إنما تقومُ بعمليّة الرّبط ما بين حريّة الفنّان وبين حركته في فضاء اللوحة بحيث يمكن للبصر أن يوحي بأكثر من شكل. وقد يشعر المتأمّل بسيطرة العينين وتأثيرهما في تعميق الأزمة، وبأن هناك استخدامًا لحاسّة النّظر على حساب حاسّة السّمع شبه الغائبة لمصلحة الأصبع الغليظة التي تختصرُ سياسة العصا التي تمارسها القوى المتسلّطة ضدّ الشّعوب المقهورة من خلال المربّعات والمستطيلات المعلّقة في يمين اللوحة وكأنّها شهودٌ على حدّة الزّوايا واستحالة تدويرها في هذا العالم الأحادي.

  وتحدّد الخيوط الهندسيّة خريطة الطّريق من أمام حيث يبدو الجسد في وضع المواجهة المفتوحة متمظهرًا في أجزاء ثلاثة: الرّأس ذو الملامح القاسية والمراوِغة، والشّكل البيضاوي ذو النتؤات البارزة والوظائف المتعدّدة، في حين يظهرُ الجذع على شكل يدٍ كبيرة تعلوها إصبعٌ غليظة تمثّل فيتواتٍ كثيرةٍ في هذا العالم، وتتوسط البدن بقعةٌ مستطيلة تغرقُ فيها سمكاتٌ ترفضُ الموتَ وتتمسّك بالحياة من خلال الأوكسجين المتصاعد رغم أنف الجسد، ثم الجزء السّفلي الذي يبدو وكأنه أسيرٌ ومعتقلٌ من خلال وضعية القدمين الفاقدتين مرونة الحركة.

  ويطلُّ الأزرق الساطع بقوة في اللوحة لتنقسمَ إلى لونين أساسيين: الأزرق الرّامز إلى الفضاء المفتوح والحرّية، والأخضر الرّامز إلى التّجدّد والحياة.

  وبعد، فما أثرتهُ في البداية من أن الفنّ كقوّةٍ وازنة في لعبة السّياسة يتظهّرُ من خلال هذه اللوحة، فالفنّان صوّب فأصاب، وأعطى المواجهة وجهًا مشرقًا نابضًا بكلّ ألوان الطّيف الجميل، وبسلاح الرّيشة التي ترسم الحياة وتؤسّس المستقبل.

* الدكتور رفيق أبو غوش: شاعر وأديب واستاذ جامعي لبنان

شاهد أيضاً

كل يومٍ وأنتم الخالدون الأحياء أيها القديسون الشهداء!

بقلم د. حسن أحمد حسن باقتان من غارٍ وياسمين عطرتا أجواء دمشق وبيروت… كوكبتان من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *