النقلُ الإبداعي للفعل في رواية رحلة هروب للكاتبة اللبنانية زينب نعمة مروّه



إبراهيم رسول

النقلُ الإبداعي الذي أعنيه في هذه القراءة المقالية هو : قصٌ لفعلٍ واقعيٍ, والقصُّ يشمل العناصر الكاملة ليثبت هُويته, فالكاتبةُ تنقلُ لنا الحديث الواقعي الذي عاصرناهُ وعايشنا تداعياتهُ عبر الصحافة المرئية والمسموعة وآراء الناس , فالسؤالُ الذي قد يُثار هنا لماذا هذه التجربة تُبادر بهذه السرعة لتدوين هذا الحدث الفظيع روائيًا؟ الطريقةُ التي نقلت من خلالها الحدث هي التي نعني بها في قراءةِ هذه الرواية. الميزةُ الواضحةُ في طريقة السرد في هذه الرواية, انّ الكاتبةَ تعتمد النقل الإبداعي لا نقل الصورة كما هي أيّ صورة الحدث كما حصل في الواقع, فهي تمرر الحدث إلى خيالها ومن ثمَ يدخل في مراحل البناء التخييلي ليخرج بعد صقلٍ وتأمّلٍ بهذه الصورة التي خرجت مكتملة في منظور الكاتبة ورؤاها الذاتية.
الجوابُ على هذا السؤال ليسَ بالسهولةِ المستهلكة ولا بالصعوبةِ الغامضة, فهو جوابٌ من صميمِ الأدب الروائي بالتحديد, ولعلَّ رواية الجريمة للروائي المصري نجيب محفوظ تتشابهُ مع رواية رحلة هروب من حيث أنّهما جاءا بعد حادثةٍ واقعيةٍ حدثت بالقرب من عين وأذن الأديب, فسجلّ نجيب محفوظ في روايتهِ الجريمة , حادثة جريمة حصلت ووضع لها العنوان الذي يقترب مع ثيمتها تمامًا, أما في رواية رحلة هروب الصادرة عن منتدى شواطئ الأدب _ بشامون سنة 2023, فهي أيضًا تدوّنٌ فعلٌ حصل بالقرب منها حسّيًا. فالروايةُ تنقل لنا الحدث المرعب والمدوّي الذي أخذ حيّزًا محليًا وعربيًا وعالميًا. الانفجارُ الذي حصل في بيروت أي انفجار مرفأ بيروت , هو الحدثُ الذي يمثل ثيمة رئيسة من ثيمات الرواية, ونحن نقرأ هذا الحدث عبر آلية النقل الذي نقلته الكاتبة المبدعة.

 

قد نجحت الكاتبة في العنوانِ , وهو عتبةٌ مهمةٌ من العتبات النصيّة في أيّ عملٍ أدبيٍ ولا سيما الرواية التي نقرأها, الهروبُ الذي عاشته الشخصية المركزية ( ساندي) هو العنوان الذي وُفِقت المبدعة في خلقهِ وإيجادهِ وإطلاقهِ على الرواية كلها, فهو هروبٌ غيرَ معلوم في سبيل الحصولِ على الأمن, الوطن, العمل, الهُوية, السند ( الذي كان يمثله الأخ , البطل الرياضيّ الذي قتل في انفجار المرفأ).
النقلُ الذي نقلت من خلالهِ الحدث الرهيب هذا, هو الخلق الإبداعي, فأنت لا تقرأ تقريراً صحفيًا أو مقالة وصفية, بل هو النقل الإبداعي الذي يعني خلق وابتكار, حالةُ الربط بين الحدث والهروب الذاتي للشخصية هو موطن هذا الخلق الابتكاري الذي نصف به هذه الرواية .
المتأملُ في صورة الغلاف, يجدُ أنّ دُخانًا كبيرًا يرتفع من الأرض نحو السماء بكثافةٍ واضحةٍ حتّى كادت أن تعتّم الرؤية, تبدو النار في الغلاف صاعدة هي أيضًا نحو الأعلى إشارة إلى هول الانفجار وكثافتهِ, وهناك في أسفل لوحة الغلاف تظهر صورة احتضان, وهي إشارة إلى لحظة احتواء, هذا الحضن يقترب من معنى مفردة الرحلة الهاربة , فهذه رحلة الهروب لا بدَّ أنّها كانت مليئة بالمخاطر والمغامرةِ , كأنّ العودةَ أو الرجوع إلى الانتماء الأوّل إلى الحضن, إلى السند…. فالكاتبةُ المبدعةُ جمعت الضدّين في لوحةٍ واحدةٍ, الانفجار هو لحظة الموت, العدم, الدمار, الانكسار, بينما صورة الحضن هي إشارة إلى الأمل, الاحتواء, الأمن, السند, المستقبل… لوحةُ الغلاف تتماثل مع السرد في المتن الداخلي لتشكل هذه الثلاثية ( العنوان الرئيس, لوحة الغلاف, المتن الداخلي) الفكرة الواحدة المُراد تدوّينها سرديًا. القصةُ جديدةٌ كلّ الجِدة, وهي تحمل موضوعةً تراجيديا وفيها من الحكمة الشيء الكثير, المُتتبعُ لقضيةِ الانفجار الذي حصل في بيروت, يكاد أن يعرف الكثير من تفاصيلهِ الكبيرة والصغيرة, لكن السؤال الذي يلوح في الذهن لأولِ وهلةٍ هو؛ ما الحاجة لتدوينِ حدثٍ أشبعَ تغطية إعلامية وغيرها؟ يكمن الجوابُ في صعوبة الكتابة السردية في موضوعٍ واقعيٍ كهذا, إلا أن المهارةَ الإبداعية والخلق في بثِّ روح الأديبة في الحدث جعل من الحدث يبدو أكثر مقبولية عند المتلقي, فالتدوينُ لحكاية الوطن هو بث روحية الأدب في النصّ ليكون قريبًا من القرّاء في مختلف الأماكن والأزمان, فأنت ستقرأ الرواية وأنت تتفاعلُ مع حدثٍ كهذا وتتعاطف مع شخصيةِ ساندي الإنسانية. لا تبدو المبدعة زينب نعمة مروّه في هذه الرواية وكأنّها تنقلُ نقلاً فوتوغرافيًا آليًا, بل هي تنقلُ الحدث عبر مرآتها الذاتية والوجدانية معتمدة على حُسنِ مهارتها في إعادةِ الخلق من جديد, وهي مهارةٌ واضحةٌ في طريقة سردها لهذه القصّة التي أخذت حيّزها في ضمير المبدعة وضمير كل القرّاء الذين تعاطفوا مع الأزمة الكبيرة التي سببها الانفجار .
الكاتبةُ تنقلُ لنا حكاية الوطن وما خلّفته السياسة فيه من عبثٍ كبير وتدميرٍ ممنهج ومقصود, الكاتبةُ تعبرُ بلسان اللبنانيين عامةً , وهم يشاهدون الحال من سيءٍ إلى أسوأ وكأنّ العقول أجدبت ولا حلّ يلوّح في الأفقِ لإنقاذ البلد من انهيارهِ المروّع, في تبدأ مقدمةِ الرواية بإهداءٍ فيه من فيض المشاعر الوطنية الشيء الكثير فتقول: لبنان وطني.. من أقصى جنوبهِ إلى أقصى شمالهِ مرورًا بقلبهِ بيروت التي أدمت قلوبنا وقطّعت نياطها.. ( الرواية صفحة: 5), هذا ويستمر الحديث عن الإنسان اللبناني بأوجاعهِ وآلامهِ,
تبدأ الرواية من عنوان فصلها الأوّل (قرار حاسم) بدايةً تُدخلك إلى عمق الرواية وتغوص معك في متاهتها, فالبدايةُ كانت عبر وصفِ حدثٍ وتستعمل المفردات التي تدلُ على هول الحدث وأثرهِ تقول : دويّ انفجار ضخم صعق له كلَّ شيء, أو لعلها هزةٌ أرضية أو زلزالٌ ثار وغضب بعد طول خمود. لم تعرف ساندي للوهلة الأولى ماذا حدث, لكن من الواضح أنّه شيءٌ مهول عظيم. ( الرواية صفحة :9), الترجيح بين أن يكون هذا الدوّي لا يهم, المهمُ أنّه هذا الدوّي ( شيء مهول عظيم). أنْ تبدأْ الرواية بهكذا بداية هو الشيء الصحيح في البداية, لأنّ الحدث المهول المرعب المروّع لا يحتمل أن تكون البداية وصفية, فهي تدخلك في صميم الحدث والبداية جعلت من الرواية تبدو مشوّقة للمتلقي, لأنّ عنصرَ الفضول لمعرفة تداعيات هذا الحدث وخلفياتهِ, شكّلت عنوانات الفصول أهمية في إبعاد الصفة التقريرية عن البناء الفنّي للرواية, فهي مخلوقةٌ عبر خيالٍ خصبٍ إبداعيٍّ ومنقولة بالنقل الابتكاري الذي اعتمد على الخيال المُدعم بمعلوماتٍ تامّةٍ, هذه المعرفةُ في كل ما يتعلق بمعلومات الحدث , أضافت للمخيلة الإبداعية الكثير وأعطت المساحة الواسعة للتخييل والإبداع, فلو نقلتْ الحدث عبر النقل الآلي الفوتوغرافي لكانت الرواية مُستهلكة في أوّلِ قراءةٍ لها, إلا أنّ النقلَ الإبداعي الذي اعتمدته الكاتبة هو الذي أعطى للعمل الفنّي صفة الأدب, فالأديبةُ المبدعةُ كانت خالقة لا مجرد عاكسة, وعملية الخلق ليست بالشيء الهيّن, إلا أنّ الموهبة الأدبية المُدعومة بالمعلومات الكثيرة تجعل الخيال يكون واسعًا في تخييله, الفصولُ الغنّية بالصورِ الفنّية ساهمت في منحِ الرّواية عنصر الفنّ الذي اتصفت به كصفة ملازمة لهُويتها.
البناءُ الفنّي أو طريقة السرد للحدث الرئيس هي مبتكرةٌ, فيها من خيال الكاتبة ما أسبغَ على الحدث صفة الفنّ, تُصنّف هذه الرواية من الروايات الوطنية التي تُحاولُ أن تعطي للوطن, فهي تحكي قصة هذا الوطن وما أصابه من جرّاء هذا الانفجار المهول العظيم, تناوبُ صوت الكاتبة مع صوت الشخصية كان موفقًا إلا أنّ الكاتبة تأخذ الصوت الأعلى في السرد وربما يكون هذا عبر اللاوعي الذي يُسيطر على تفكيرها, فهي تملك المعلومات وربما شاهدت الحدث واقعيًا ولكن طريقة نقله عبر الأدب هي المهمة الأصعب, لأنّها تكون بين الخيال الذي يعرف الواقعة تمامًا وبين الخيال الذي يُراد له أن يتصوّر الحدث عبر منظورٍ تخييليٍ . ​

شاهد أيضاً

عصابة “التيك توكرز”… تعرفوا على ممولها ورأسها المدبر!

في جديد تفاصيل عصابة “التيك توكرز” لاغتصاب الاطفال والاتجار بهم افادت قناة “او تي في”، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *