التأصيلُ والتطبيقُ في المصطلح النقدي في كتاب قصيدة السرد للناقد د. رحمن غركَان

إبراهيم رسول

وتستمرُّ السلسلةُ النقديةُ التي بدأ بها الناقد العراقي المهم د. رحمن غركَان في التجديد والتأصيل في اجتراح وتأصيل لمصطلحاتٍ نقدية جديدة, وهذه الابتكاراتُ التي يأتي بها الناقد هي من قراءاتهِ المعمقة في الشعر الجديد, والعيناتُ التي ينتقيها الناقد يتمثلُ فيها المصطلح تمثيلًا مميزًا.

 

التأصيلُ وفق القراءة التي قرأنا بها كتاب قصيدة السرد في مجموعة ( أغنية لعبور النهر مرتين للشاعر محمد عبد الباري) للناقد د. رحمن غركَان هو تأسيسٌ لمصطلحٍ نقديٍ تعريفًا تنظيريًا وتطبيقيًا. وهذا هو ديدنُ الناقد ابن غركَان في تأصيلهِ للعنوان النقدي الذي يُنظرَ له ويُطبق عليه عينة شعرية جديدة. فالتأصيلُ هو وضعُ قاعة عامة لها شروطها التي تنطبق عليها, وما نجده في كتاب قصيدة السرد الصادر عن دار تموز ديموزي في طبعتهِ الأولى سنة 2023, يُرسّخ ويؤسس لقاعةٍ عامةٍ لهذا المصطلح, فالتأصيلُ الذي قرأ فيه الناقد العينة الشعرية لها شواهد تنطبق على قواعدهِ العامة التي منها المجموعة العينة ( أغنية لعبور النهر مرتين). لعلَّ المقدمة الأولى للكتاب تُبيّن الرؤى النقدية التي يتميز بها الناقد في نقودهِ الجديدة, فهو يقول: لو أن كلَّ إنسان استثمر كلَّ تجربة, يعيشها استثمارًا إبداعيًا؛ يعيد في خلقها, ويبثُ فيها من لدنه معاني دائمة الاخضرار, لما نال الموت من أيامنا..( الكتاب صفحة: 9) في هذه المقدمة المهمة, يُشير الناقد إلى كلِّ إنسان ويستخدم حرف الشرط ( لو) الذي يدل يستعمل في الامتناع أو غير الإمكان أن يستثمرَ وجوده إبداعيًا ليمكث أكثر في الأرض, لأنَّ الإنسان ما هو إلا أثر فليكن هذا الأثر طيبًا ليبقى ماكثًا في الأرضِ, والمبدعون هم الذي يستثمرون الثواني ويستغلّون كل الفرص ليتركوا أثرًا يدلُ على مكوثهم مدة أطول في ذاكرة الناس, والعينةُ التي طُبق عليها النقد هي نموذج للاستثمار المفيد والنافع, إذ يقول الناقد: وحسنًا فعل صديقي الشاعر الكبير محمد عبد الباري حين تأمل إقامته في مدينةِ نيويورك بدءًا من يومها الأول وشهرها الأول …( الكتاب: 10).
إذن, فالعينةُ هي رحلةٌ إلى مدينة نيويورك مكث فيها الشاعر هناك أربعة فصولٍ, وخلال هذه المدة التي كان فيها هناك, استثمر مكانه وكتب القصيدة التي عنونَ لها الناقد العنوان النقدي ( قصيدة السرد). السؤال الأول الذي يطلقه القارئ هو عن التقارب ما بين الأجناس الأدبية, فالعنوان يحمل شقين اثنين, شقٌ يخص الشعر والآخر يخص النثر, أيكون هذا العنوان إشارة إلى ضرب نظرية الأجناس؟ أم هو وسيلة لنظرية غير ضدية بل تقاربية ؟ والقارئ للكتاب سيجد أن السؤال الذي أثاره سيجب عنه الناقد في المقدمة ذاتها قبل أن يدخل إلى الفصل الأول من الكتاب.
واضحٌ جدًا, أن الناقدَ يُفرقُ بين المصطلحين وتتصفُ نقود د. رحمن غركَان بالدقةِ في توظيفِ المصطلح النقدي في مكانهِ المناسب في العينة المناسبة جدًا, وحتّة لا يتخبط القارئ في السؤال بين السرد والشعر, يقول الناقد في الجواب على السؤال بقوله: يتمثل الشاعر كثيرًا من إحساس السارد وهو يكتب قصيدته, مع أن فائض الخيال المنجز للمعنى يصدر عن بنيات مجازية وانزياحية تمسك بالمعنى شعريًا على حافة السرد, ولا تستغرق تقنياته إلا قليلًا..( الكتاب: 17), هنا يتضح المقصود من العنوان وتنكشف أولى التساؤلات, فالقصيدة لا تأخذ من السرد إلا بعض التقنيات, لأنَّ السرد أصبح علمًا له أدواته ونظامه, لكن تقنياتهُ ليست حكرًا عليه, فالأدب حمّال أوجه, والأدب شيء يشتغل للإنسان لذا, تجد كل شيء له صلة قرابة, كلٌ يأخذ عن الآخر ما ينفعه, فالشعر أخذ من السرد الحوار والأصوات والمكان, وأخذ السرد من الشعر لغته , إذن, فالعمليةُ هي محض إبداع, يستطيع أن يخلقه الأديب المبدع, فعمليةُ الخلق هي جوهر التأصيل الذي نقرأ به هذا الكتاب, فالناقدُ انطلق في قراءتهِ النقدية من العينة التي يُطبق عليها رؤاه النقدية, التأصيلُ للمصلح, هو عملية غرسه وتثبيته بين مصطلحات الدرس النقدي, والمصطلح يثبت إذا تحلّى بصفتين, صفة التنظير وصفة التطبيق, إذ المصطلح لوحده لا يكفي, بل سيموت ويتلاشى من بين مصطلحات الدرس النقدي, لأنّ الأصل أو الأساس هو للنص الإبداعي, والنقد الأدبي يقوم بدراسةِ النص الإبداعي واختراع نظريات وابتكار مصطلحات كلّها تقوم على النصّ الأصل ( الإبداعي ), المميزُ في ابتكارات وقراءات الناقد د. رحمن غركَان, انّها تُنظرُ وتُطبق في الوقت ذاته, وهذه النقود هي التي تأتي بالثمر الجيد والتطور في الدرس النقدي, وإلا أصبح النقد الأدبي عبارة عن مادة لا فائدة منها.
مُقدمة وأربعة فصولٍ, قدّم فيها الناقد رؤاه النقدية في مجموعة ( أغنية لعبور النهر مرتين), المقدمة هي الفكرةُ من مقالنا هذا, فالطريقةُ النقديةُ التي سلكها الناقد في نقدهِ هذا, هي الطريقةُ المنهجيةُ المثمرةُ التي تُعطي للدرس النقدي إضافة نوعية في القراءة.
المنهجيةُ هي الصفةُ المميزةُ في نقودِ د. رحمن غركَان, ولمّا كانتصفة المنهجية لازمة له, فهو قد قدّم بمقدمةٍ تمهيدةٍ كان عنوانها ( قصيدة السرد رؤية في المصطلح) عرّف بالعنوانِ كان عنوانًا عامًا للكاتب, وفصّل القول في رؤيته النقدية لهذا المصطلح, ومن بعدها جاءت الفصول لتكون المادة التطبيقية التي يُطبق عليها رؤاه النقدية في المصطلح, ونستطيع إذن أن نقول: إنّ المقدمة هي الجزء التنظيري في الكتاب, والفصول هي التطبيق لهذا التنظير, فجاءَ الفصلُ الأوّل بعنوان ( أغنيات فصل الصيف), الذي يمثل الجزء الأوّل من أربعةِ أجزاء, أيّ أنّه الربع الأوّل من المجموعة العينية, وهذا يعني أنّه القسم الأوّل من رحلةٍ سرديةٍ مكوّنة من أربع فصول على عدد فوصل السنة, فوضع الناقد ثلاث لوحات استقاها من العينة ذاتها, فيقول: جاءت اللوحات الثلاث الأُول من أغنية لعبور النهرمرتين) استشرافًا شعريًا للمكوث في الصيف؛ في خصوصيته طبيعةً, وفي معانيه المجتمعية, وفي متخيلاتهِ الحضارية, وفي الصلة التي نبتت له في أرض الشاعر, ومن ثمة فهي تعبر نهر الصيف مرارًا بحسب التكنية ( بمرتين) عن الاستمرار والجريان في الزمكان( الكتاب: 30), إذن, البدايةُ من فصل الصيف, الفصل الأول من فصول السنة الأربعة, فالقصيدةُ جاءت استشرافًا بصورةٍ شعرية عن مدة مكوث المبدع في الصيف, فالمحصلةُ في هذا الفصل أو الخاتمة التي جاء كنتيجة للقراءة, هو أن فصل الصيف جزء من سردية القصيدة التي توزعت على أربعةِ فصول كان الصيف أوّلها.
وجاءَ الفصل الثاني بعنوان ( أغنيات فصل الخريف), وضمّ ثلاث لوحات, اللوحة الرابعة والخامسة والسادسة.
ينتقل الشاعر في هذا القسم الثاني إلى فصلٍ ثانٍ وهو الخريف, ويستهل هذا القسم بعتبتين هما المقولة, واللوحة التشكيلية ( الكتاب: 62). فالشاعرُ مسكونٌ بعالم الماء مجازًا ( الكتاب: 62), هذا القسم الثاني الذي جاء لجزء فصل الخريف, وفيه عنى الشاعر بالكلمة بوصفها عالم الأشياء.
وجاء الفصل الثالث بعنوان( أغنيات فصل الشتاء), وضمّ : اللوحة السابعة والثامنة والتاسعة, تضمنت أغاني فصل الشتاء ثلاث عتبات هي: عتبة المقولة أولاً, وعتبة اللوحة التشكيلية ثانيًا, وعتبة القصيدة أخيرًا( الكتاب: 104).
أما الفصل الرابع والأخير فجاء بعنوان( أغنيات فصل الربيع), وضمّ اللوحات الأخيرة وهي, اللوحة العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. تكون هذا الفصل : الربيع, من ست لوحات أيضاً, ثلاث مرسومة بالألفاظ هي القصائد والتزم فيها الشاعر بنهج: القصيدة , اللوحة, وعنها صدرت اللوحات التشكيلية الثلاث وقد استهلها كلها بمقولة دلالية في فصل الربيع من نصين متتابعين من لسان العرب مادة ( ربع) ( الكتاب: 148).
الفصولُ الأربعةُ هي المادة التي أصّل لها في المقدمة, ولأنَّ الدرسَ النقدي الذي يعتمد المنهجية في قراءتهِ لأيِّ عينةٍ, نجد في هذا الكتاب, المنهجية متسلسلةٌ من أوّلهِ حتى آخرهِ.
الذي نخرج منه في قراءةِ هذا الكتاب هو: أن قصيدة السرد الذي هي ثيمة الكتاب الكبرى, ليست بمعنى السرد, أي أنه سردٌ خالصٌ وفق تقنياتهِ المعروفة, بل هو السرد الذي يأخذ من الشعر والشعر الذي يأخذ من السرد, يوجدُ في الشعر الكثير من السرد ويوجد في السرد الكثير من الشعر, والقراءة تنطلق وفق هذه الرؤية التي تمثلت في عينة الشاعرة محمد عبد الباري. خلاصة الختام في قراءة كتاب قصيدة السرد, أنّه معنيٌ بالقراءةِ التفصيلية في ثيمةٍ هيمنت على العينة المُطبق عليها, وهذه القراءة أشبعت الموضوع وألمّت به من كافةِ الجوانب , وتميّزت لقراءة بأنّها تفصيليةٌ من حيث التزام الناقد بثيمة الكتاب ألا وهو قصيدة السرد.
يبقى السؤال الأهم, ماذا أضاف الناقد في كتابهِ هذا إلى الدرس النقدي؟ الإضافةُ تبدو واضحة من تأصيلهِ للمصطلح تنظريًا ومن حيث تطبيقهِ على عينةٍ ينطبق عليها التعريف النظري التأصيلي.

شاهد أيضاً

وفاة النجم العالمي برنارد هيل قبطان فيلم «تايتنك»

توفى الفنان العالمي برنارد هيل، الذي اشتهر بالمشاركة في بطولة فيلمي Titanic، وLord of the …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *