الغرب.. وحرية التدين

بقلم: زاهر بن حارث المحروقي

 

في الأمثال الشعبية قالوا: «إيش جابرك على المرّ؟ قال: اللي أمرّ منه». يُروى المثل بأكثر من صيغة، لكن المضمون واحد وإن اختلفت بعض الكلمات من بلد لآخر. استحضرتُ هذا المثل، وأنا أقرأ خبرين من مكانين مختلفين يتعلقان بقضية واحدة هي أحوال التلاميذ المسلمين في الغرب. الخبر الأول من فرنسا والثاني من كندا؛ ففي الخبر الأول الذي أوردته وسائل إعلام فرنسية متعددة، قام خمسة عشر تلميذًا في خمس مدارس ابتدائية في مدينة «نيس» بجنوب فرنسا بأداء صلاة الظهر، قيل إنّ أعمارهم تراوحت بين تسعة وعشرة أعوام.

لم يكن هؤلاء التلاميذ يعلمون بأنهم – بصلاتهم تلك – سيثيرون كلّ تلك الضجة، حيث وُصفت تلك الصلاة بأنها «تمثل وقائع خطيرة للغاية»؛ وشارك في إثارة الضجة كريستيان إستروزي عمدة مدينة نيس الذي استنكر «محاولات اقتحام الدين لمقدسات الجمهورية»، متحدثًا عن «حقائق بالغة الخطورة تقوّض علمانية المدرسة بفرنسا»، وأصدر العمدة بيانا مشتركا مع باب ندياي وزير التربية والتعليم الفرنسي واصفًا صلاة التلاميذ بالهجمة الخطيرة للغاية على مبدأ العلمانية لا تطاق، «ويجب أن تخضع لرد جماعي وحازم». وجاء في البيان أنّ «مدرسة الجمهورية هي ملاذ لجميع أطفال فرنسا، ومن الواجب حمايتهم من أيّ توجه ديني». والذي جرى عقب ذلك هو استدعاء آباء التلاميذ، وتذكيرهم بالالتزامات المتعلقة بالحياد الديني، «وتم تنظيم جلسات العلمانية للطلاب في هذه المدارس»، كما أشار إلى ذلك وزير التعليم، وفُتح تحقيق إداري من قبل المفتشية العامة «لإثبات الحقائق بدقة واستخلاص استنتاجات مفيدة». ولم يكن إريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريين» اليميني، بعيدًا عن الضجة، عندما قال إنّ «هناك حقائق خطيرة تحدث في المدارس.. وإنه يجب على الدولة التدخل بشكل عاجل»، فيما تقول تفاصيل الخبر إنّ الأمر أثار حفيظة عثمان عيساوي، الذي يدير «مسجد الرحمة» بشرق مدينة نيس واتحاد المسلمين في منطقة «ألب ماريتيم» التي تتبع لها المدينة، إذ شدّد على أنه لا يمكن لأيّ إمام أن يدعو أطفالًا ليؤدوا الصلاة في المدرسة، فـ «لا صلاة قبل البلوغ»، وأنهم (الأئمة) يدعون إلى الاحترام المطلق لقوانين الجمهورية والعلمانية وقانون 1905.
أما الخبر الثاني فمن كندا، ويتعلق برسالة كتبها أولياء أمور التلاميذ المسلمين إلى المشرفين على قطاع التربية والتعليم في ذلك البلد، محذرين من المسّ بثوابت الدين الإسلامي في العمق، عبر الأطفال والتلاميذ، وذلك بإدخال مواد التربية الجنسية في مدارس الأطفال، وفتح موضوع الشذوذ الجنسي. ويذكر الكاتب محمد مصطفى حابس الذي ترجم نص الرسالة في صحيفة «رأي اليوم» أنّ أولياء الأمور طالبوا بحقوقهم الدستورية؛ فوفقًا للقرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة وسير السلف، لا يُسمح للطلاب المسلمين بالمشاركة أو الاحتفال بأيّ أنشطة تتمحور حول الشذوذ والشواذ، بما في ذلك – على سبيل المثال لا الحصر – ارتداء الملابس غير اللائقة؛ «فمثل هذه الأنشطة ممنوعة منعًا باتًا في الإسلام. ولا يمكن إعادة تفسيره أو تشويهه بمفهومات مغلوطة من قبل مديري المدارس العامة أو المعلمين الذين يميلون لطرح الشواذ»، ويشير بذلك أولياء الأمور إلى إجبار الطلاب المسلمين على المشاركة في الأنشطة التي تركز على الشذوذ في مناهج الفصل الدراسي بطريقة تخالف المعتقدات الدينية للطلاب المسلمين بل والفطرة الإنسانية، مع تجاهل موافقة الوالدين وحرمان الآباء والأطفال من فرصة التعبير عن عدم قبولهم للأمر، وهو – كما يرى الآباء – «انتهاك صارخ لحقوق الإنسان والحريات الدينية التي يحميها الدستور الكندي». وجاء في الرسالة «نطلب بكلّ احترام إعفاء أطفالنا من أيّ أنشطة أو معلومات تتعارض مع معتقداتهم الدينية، فوفقًا لميثاق حقوق الأطفال وقانون حقوق الإنسان، فإنّ الحرية الدينية والمعتقد هي حقوق أساسية يجب احترامها ودعمها من قبل المؤسسات التعليمية»، والذي يبدو من الرسالة أنّ الأمر لم يقتصر على نشر الشذوذ فقط، بل تعدى ذلك إلى تعليم النشء معلومات كاذبة عن الإسلام، لذا طالبوا بوضع حد فوري لأيّ تعليم أو ترويج لمعلومات غير دقيقة عن الإسلام.
لا يملك الإنسان إلا أن يتعاطف مع المهاجرين المسلمين في بقاع الأرض المختلفة، لا سيما العرب منهم؛ فهم أشبه بالمستجير بالرمضاء من النار؛ ففي الوقت الذي عانوا في بلدانهم صنوف العذاب، واعتقدوا أنّ في مهجرهم سيجدون الحياة الكريمة المفقودة، وضحّوا في سبيل الهجرة بالغالي والنفيس، وغرقت السفن بالكثيرين منهم في البحار، إذا هم يجدون أنفسهم في نار وصلت إلى شريعتهم ومعتقداتهم؛ فلا شعروا بالأمان، وما استطاعوا الاندماج مع مجتمعاتهم الجديدة، لأنهم يشعرون بأنهم محاربون في معتقداتهم، وأنّ قيمهم الدينية تُستهدف علنًا، في الوقت الذي كان من المفروض، أن يتوفر لهم شعورٌ بالأمان، لكن الأمان أصبح مطلبًا صعبًا الآن، وصار كثيرون من المهاجرين مشتتين بين المُر والأمرّ منه؛ فالعودة إلى أوطانهم أصبحت صعبة وقد تكون مستحيلة، إذ لا أوطان لهم الآن؛ والاستمرار في هذا الذل والجحيم أصبح غير مطاق، وعندما يعبّرون عن أوضاعهم يُقال لهم بلسان الحال: «اقبلوا بنا كما نحن، أو عودوا من حيث أتيتم»؛ وهم بين نارين، إما أن يقبلوا بكلّ شيء حتى لو كان على حساب دينهم، أو يرفضوا كلّ شيء، وفي هذه الحالة فإنهم قد يخسرون المكتسبات التي نالوها في هجرتهم ولم يحصلوا على أقل القليل منها في أوطانهم.
إنّ المآسي التي يعاني منها المهاجرون العرب تتحمل مسؤوليتها الحكومات العربية، فهي التي أوصلت الشعوب إلى ما وصلوا إليه من ذل ومهانة؛ والتقارير تشير إلى ازدياد الهجرة من الوطن العربي بعد أحداث عام 2011، التي سميت زورا بالربيع العربي، إذ أنّ الدول التي صار فيها التغيير هي من أكثر الدول هجرة من أبنائها، هذا غير الهجرات غير الشرعية التي تؤدي إلى غرق المئات في البحار. ولن يكون غرقُ المركب الذي كان يحمل 750 من المهاجرين العرب قرب السواحل اليونانية يوم الخميس الماضي الخامس عشر من يونيو الغرق الأخير، بل هو ضمن تلك السلسلة التي تضم الغارقين الهاربين من جحيم حياتهم إلى جحيم آخر أشد حرقًا، فهؤلاء لم يذهبوا إلى الموت إلا هروبًا من جحيم حياتهم الذي دفعهم للمغامرة، فلا ينبغي أن يقع اللوم فقط على خفر السواحل اليوناني لتقصيره في الإنقاذ، ولا ينبغي فقط لوم مدينة نيس على منع صلوات الطلبة المسلمين، ولا ينبغي الاقتصار على لوم كندا وأمريكا وغيرها من البلدان فقط، بسنها قوانين تبيح الشذوذ، بل يجب أيضًا – وقبل لوم هؤلاء – لوم من تسبّب في تلك الهجرات وما تبعها من ذل ومهانة للمواطنين العرب والمسلمين.
ومع موجة وموضة المناداة بالشذوذ علنًا، يحق لنا أن نتساءل: ماذا ستفعل الدول العربية والإسلامية – التي تعودت أخذ أوامرها من واشنطن – إذا فُرض عليها الشذوذ، وفرض عليها تغيير مناهجها؟ فإدارة الرئيس بايدن، لم تكتف فقط بالترويج للمِثليين؛ لكنها تُريد فرض ذلك على الدُول العربية والإسلاميّة، حيث وصلت إلى حدّ المُجاهرة بالتزامن مع إعلان بايدن بأنّ بلاده «أمّة المِثليين»، برفع علم المثليّة في كلّ من سفارتها في لبنان وقنصليّتها في تركيا، وسبق أن رفعت السفارتان الأميركية والبريطانية في شهر يونيو من العام الماضي، راية «المثليين» إلى جانب أعلامها الوطنية، في أكثر من عاصمة عربية، ممّا جعل البرلمان العربي يدعو إلى «احترام خصوصية وثقافة المجتمعات العربية، وعدم المساس بقيمها الدينية وثوابتها المجتمعية والثقافية، في الوقت الذي تحترم فيه الدول العربية خصوصية وثقافة المجتمعات الأخرى ولا تتدخل فيها».
ليفعل الغرب ما يشاء، ولا شأن لنا بذلك، طالما أنّ الأمر بعيدٌ عنا، أما الخوف الأكبر فهو في فرض هذه الآفة على العرب والمسلمين؛ فالأمر أكبر من مجرد رفع علم فوق سارية؛ رغم أنّ ذلك يتناقض في الأساس مع احترام القيم الدينية والمجتمعية للدول، علاوة على مخالفة القواعد والأعراف المعمول بها في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ويستر الله من القادم.
****
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»

شاهد أيضاً

نقيب المقاولين في لبنان المهندس مارون حلو

لإطلاق نظام مصرفي جديد بعد إعادة هيكلة المصارف! الإنفاق العام وحده يعيد النشاط الى قطاع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *