المنهجيةُ النقديةُ في كتاب قصيدة العائلة للناقد د. رحمن غركان

إبراهيم رسول

لعلَّ التعريف بمفردة المنهجية , يبدو واضحًا كلّ الوضوح ولا يحتاج إلى تعريفٍ دلاليٍ, فهو بكلِّ بساطة, الطريقة التي يتخذها الناقد في قراءته النقدية للعينة التي نَظرَ وطبقَ عليها رؤاه النقدية, وهذا التعريف ينطبق على كتاب قصيدة العائلة.
تستمرُ السلسلة النقدية التي اشتغل عليها الناقد العراقي المجتهد د. رحمن غركَان في تتابعها وقراءتها النقدية, وهي تبحثُ عن النوعي والجيّد من العينات الشعرية التي تصدر حديثًا لشعراء حققوا لأنفسهم المكانة الشعرية التي تجعل من إبداعهم عينة لتأصيلٍ نقديٍ يبتكرهُ الناقد الجاد والقارئ النوعي كالناقد د. رحمن غركَان. قصائد العائلة بحسب التعريف الواضح والمُبسط, هي القصائدُ التي تكون ثيمتها العائلة بما فيها من ( أب, أم , أخ, أخت, ابن , ابنة) , ولأنّ صفةَ الدرس النقدي هي المنهجية المنظمة. مارسَ الناقد في هذا الكتاب منهجيةً جاءت نتائجها مثمرة ومفيدة في قراءة قصيدة العائلة. كعادتهِ في قراءته النقدية, يتخذ الناقد منهجًا يبدأه بالتنظير الذي هو التعريف على الآلية التي سيقرأ بها العينة الشعرية, ومن بعدها يأتي التطبيق, لكن يتبادر إلى المخيلة السؤال المهم, أيّهما أسبق التنظير النقدي أم النص الإبداعي؟ في هذا السؤال غير النمطي نحتاج إلى إجابةٍ غير نمطية, الجوابُ بكلِّ سهولةٍ هو , إذا كان الإبداع هو الأصل وجب أن يكون النقد تاليًا له, والسؤال الأكثر أهمية هو, أين نجد الناقد د. رحمن غركَان في هذا؟ من خلال القراءة التي قرأها الناقد لتجارب شعرية جديدة, وجدناه يقرأ العينة قراءة مفصلة واعية, فيكتشف بها الشيء المميز الذي تميزت به, يكون هذا الشيء اللافت أو المميز هو الموضوع النقدي الذي يشتغل عليه في مشغلهِ النقدي, ولكن يبحثه بحثًا شموليًا بحيث أنّه يُشبعُ البحث من كافة جوانبه ويحاول أن يلم بكلِّ ما يتعلق به ولا يدع شاردة أو واردة إلا وضمنها في بحثهِ النقدي. أوّل ما يبدأ به الناقد هو الاهتمام بما يُسمى ( أنا الشاعر), التي هي أسّ الموضوع, ويقول الناقد في هذه الأنا ما نصّه: يصدر الشعر عن نزعة فردية عالية, عن ( أنا) فاعلة, تنزع إلى التميّز وتنشد الحضور في خلال العناية بذلك الثراء الفني الذي تفيض به ( أنا) الشاعر, بما يجعل تلك ( الأنا) في تميّزها والتصاقها لمتبنياتها الفنية الخالصة والموضوعية المحيطة , تنطلق من المحدود إلى اللامحدود( الكتاب صفحة 17), فهذه الأنا هي النواة الأولى لما يُسمى لاحقًا قصيدة عائلة, فهذه الأنا هو التي تميّز المبدع الذي ينتقل من أناه إلى أنوات الآخرين, ويحدث التواصل الإيجابي بين منتجٍ ومتلقٍ. الناقدُ يبدأ من هذه الأنا ( النواة الأولى) يقرأ العينة قراءة شاملة تامّة, فهذه المنهجية في القراءة النقدية تُحسب للناقد أنّها نقطةٌ إيجابيةٌ في كشوفاتهِ وحفرياتهِ النقديّة. القراءة النقدية تبدأ عند الناقد تبدأ من الجزئي إلى الكُلي الشمولي كما المبدع من النواة البسيطة التي هي ( الأنا) إلى عالم القصيدة الأرحب, فمنهجية الناقد تؤصل للبدايات تأصيلًا يجعل منها مرسومة بخط مستقيم منتظم, وميزة القراءة النقدية أن تكون منتظمة متسلسلة وممنهجة بترتيب. المعرفة العشوائية غير المنظمة لا تقدم الشيء النافع للناس, منهج الناقد في القراءة هذه, يبدأ من النواة الأولى حتى لحظة التكوين النهائي, فيبدأ بتعريف المفهوم ويشدد على المصطلح, فهو يفرق بين مفهومي أو مصطلحي ( الأسرة والعائلة) فهو معنّيٌ بالعائلة لا الأسرة, يجعل الفصل الأوّل في تتبع الجذور الأولى لقصيدة العائلة من العصر الجاهلي ومن ثمَ مفهومها في الشعر المعاصر ومن ثمَ متبنياتها عند الشاعر المعاصر, فهو يُسمي الفصل الأول ( الفصل التنظيري) وهذه هي صفة القراءة النقدية عند د. رحمن غركَان, فهو يعرّف يؤسس للقراءة النقدية تنظيرًا ومن بعدها يبدأ التطبيق على التنظير, في هذا الفصل تكمن شخصية ووعي الناقد. اتخذَ عينة الشاعر العراقي عارف الساعدي كنموذجاً في قراءتهِ لقصيدة العائلة المعاصرة. تبدأ القراءة من التعريف بالمصطلح النقدي تعريفًا لغويًا , يُرجعه إلى أصلهِ واشتقاقهِ, ويستند في هذا إلى كتاب لسان العرب للعلامة اللغوي المشهور ابن منظور, ويفرق الناقد بين مصطلحي العائلة والأسرة حتى على الصعيد المكاني وهذه إشارة مهمة ركّزَ عليها, فهو يقول : المحدد المكاني للعائلة هو بيتها, والمحدد المكاني للأسرة هو صلة النسب بين أعضائها( الكتاب صفحة 26), وأهمية هذا التمييز يرجع إلى التناول الإبداعي للقصيدة عن الشاعر المبدع, إذ يوضح الناقد أيضًا في ذات الفكرة بقوله: ولهذا فإن دراسة المكان في قصيدة العائلة لا يُحدده الموضع الجغرافي إنما آثار ذلك الموضع في ثقافة أعضائها ووعيهم, وهذا الفهم يستشرف أن المكان المجازي ومنه الرمزي في هذا الاتجاه شأن متوقعٌ شائع, هو ما ستقف عنده المنهجية التطبيقية, وبخاصة أن الشعراء لا يقلد بعضهم بعضًا في هذا النهج.( الكتاب صفحة 26).
القراءةُ النقدية عند الناقد في كتابهِ ( التنظيري/ التطبيقي) هذا, تلتزم منهجيةً كأنّها خطٌ مستقيمٌ, تبدأ من الوحدة الجزئية الأصغر صعودًا نحو الوحدة الأكبر التي تكتمل بها القصيدة الاكتمال التام, فالعنوانُ الذي جاء بعد الفصل الأوّل التنظيري هو ( مكونات قصيدة العائلة), إذ وضع ثلاث عنوانات فرعية مفصّلة للعنوان الكبير التي هي: أولاً: المعجم الشعري لقصيدة العائلة, ثانيًا: الصورة الشعرية لقصيدة العائلة, ثالثًا: التراكيب الشعرية لقصيدة العائلة, رابعًا: البناء الشعري لقصيدة العائلة. هذا الفصلُ انتقل من الوحدة الأصغر إلى الوحدة الأكبر, وهو انتقالٌ منهجيٌ, تستدعيه القراءة الواعية الناقدة للعينة الشعرية, فتأخذ قصيدة العائلة الشيء الذي يميزها فتنفرد به, وتترك ما يجمعها مع غيرها من الثيمات الشعرية, يقول الناقد ما نصّه: لما كانت قصيدة العائلة اتجاهًا فإنّ لها مكونات تميّزها من سواها, وأخرى تشترك فيها مع سواها فيما هو مشتركٌ في الجنس الفنّي( الكتاب صفحة 67), يلتفت الناقد ويشيرُ إشارة مهمة إلى غياب عنصري الإيقاع والمعنى الشعري, ويُرجع هذا الغياب إلى هيمنة قصيدة النثر على هذه التجربة( الكتاب صفحة 67), في هذه القراءة المهمة, يضع الناقد نصب عينيه الشيء الذي يُوجد والشيء الذي غاب, ويعطي الرّأي النقدي في الاثنين معًا, وهذه ترجع إلى ثقافتهِ النقدية وموسوعية رؤيته . يقرأ الناقد في الفصل الثاني , قراءة القصيدة قراءة تستوعب شكلها الخارجي والداخلي معًا, ويحلل أبياتها التحليل الذي يغوص في باطن المعنى, ويقسّم الثيمات التي تناولتها القصيدة تقسيمًا مفصلًا ويقرأ كلّ منهما قراءة تحليلية معمقة كما حصل في قراءته لنص ( مدونة الحياة/ مشغول) فقد فصّلة التفصيل الذي حقق فيه مقولته بأنّه لا يترك شاردة أو واردة إلا وأخضعها لبحثهِ النقدي, فهو نظرَ في فصلهِ الأوّل وجاء الفصل الثاني ليطبق ما نظّر له أ, لنقلْ قعّدَ القواعد له, وميزة الناقد الممتاز, هو هذه الصفة التي تجمع بين الاثنين معًا, وهي صفة التنظير والتطبيق, وهذه الصفة هي ميزةٌ من مميزات السلسلة النقدية التي خصصها الناقد العراقي د. رحمن غركَان في نقودهِ التي طبقها على نماذج شعرية جديدة لتجارب شعرية مهمة في المشهد الشعري العام. فالخلاصةُ التي نجدها في طريقة الناقد د. رحمن غركَان, هي أنّه يُجزئُ الأشياء, ويضع القواعد او الشروط النقدية ومن ثمَ يأتي إلى العينة ليطبق عليها قواعده النقدية, فهو بهذا يُقدم خدمة للأدب والنقد على نّحوٍ أخصّ, كونه جعل من الدرس النقدي يكون مثمرًا, ينهض بالأدب ليرقى بالصورة التي تجعله مشوّقًا عذبًا عند الناس, فهذه الطريقة هي الأنفع في الدرس النقدي, وما أحوج الأدب اليوم إلى قراءةٍ تُعيد له هذه الصفة التي تجعله يسهم في رُقيّ الأدب ( الإبداعي), وخلاصة الختام, نسأل هل حقق الناقد نبوءته أو مقولته في أنّه لا يترك جزيئة من جزيئات القراءة إلا وأشبعها تفصيلًا وتناولها التناول الذي يجعلها لا تحتاج إلى قراءةِ باحثٍ آخر ليضيف عليها ! والجوابُ على هذا يكون بقراءةِ الفصول الأربع مع الخاتمة, فالجوابُ يبدو بالأمرِ البديهي الذي لا يحتاج إلى جوابٍ مباشرٍ, فالقراءةُ هي بفصولها الأربع هي الجواب الدقيق على سؤالٍ غير نمطي.

شاهد أيضاً

الشيخ الرشيدي:”متمسكون بخيار المقاومة والبندقية، سبيلًا وحيدًا لاستكمال تحرير الأرض والمقدسات”

أكَّد نائب الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان الشيخ خضر الرشيدي: “أننا، كوننا لبنانيين، لا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *