اللعبةُ السردية في حديث الأشجار لفؤاد التكرلي

إبراهيم رسول

يبني الأديب فؤاد التكرلي عالمه الروائي بتقنيةٍ تميزه, وسنقرأ مجموعته حديث الأشجار الصادرة عن دار المدى بطبعتها الأولى في سنة 2007 قراءة جزئية تعّنى في مسألة البدايات التشويقية والنهايات المفتوحة وسنأخذ قصة ( سر الطفل) كعينة نموذجية لما نروم قراءته. اللعبةُ أو فن اللعبة, هو مصطلح نعني به, أن يمارسَ المبدع مع قارئهِ لعبة مخاتلة مشوّقة, يكسر بها النمطية المتوقعة, فهو يبني لها القصة ويخلق التصوير في ذهن القارئ, ليتصوّر القارئ ويشترك مع المبدع في النصّ, إلا أنّ المبدعَ يتلاعب في التوقعات ويكسرها ويلجأ إلى النهايات غير المتوقعة( الصادمة) التي تُثير المتعة وتكسر الرتابة في تسلسل الأحداث في مخيلة القارئ.

 

فالمتأملُ في البدايات أو الافتتاحيات التي يفتح بها قصصه يجدها تكاد تجتمع على شيءٍ مميزٍ وهو الاعتماد الكُلي على عنصرين اثنين, الأول: عنصر التخييل, والثاني: عنصر التشويق. فالأولُ له من الأهمية ما يجعله يأخذ القارئ إلى الثاني وهكذا تبدو عملية التواصل الايجابي بين الطرفيين( المؤلف/ المتلقي) وهذه العملية التواصلية تحتاج العنصرين معًا. التخييل الذي يبدأ به القاص يأخذنا فيه نحو عوالم واقعية صِرفة قريبة لكنه يعتمد على لغته الإبداعية في تحويل الأشياء الواقعية أثناء الكتابة إلى أشياء تخييلية, فالإبداعُ يتم في خلق الصورة أو يتم الخلق الإبداعي في عملية نقل الصورة الواقعية التي اختمرت في مخيلتهِ إلى صورة خيالية مكتوبة على الورق إلى المتلقي. ولولا عنصر التخييل لكان الأدب ماديًا وأصابه الذبول والموت النهائي, فطراوته ومرونته وجاذبيته تكمن في قوة التخييل التي يبدع فيها كاتبٌ ما ويخفق فيها كاتبٌ آخر. تبدأ القصة الأولى ( سر الطفل) بالفعلِ كان وهو استرجاعٌ له ما يُبررهُ, فليس كلّ استرجاع يمثل ماضيًا فبعض القصص لا تحتاج أن يعودَ بها المبدع إلى الوراء ليشحذ قريحته التخييلية للكتابة, لكن هذه القصة, كان الفلاش باك فيها موفقًا وضروريًا, كون الثيمة تعتمد على ماضٍ ونقطة الانطلاق ستبدأ منه, البداية بالفعل الماضي الناقص هي النقطة التي ستبني العالم التخييلي للقصة, البدايةُ الوصفيةُ هي بدايةٌ كلاسيكية وليس عيبًا أن تبدأ القصة بالنمط التقليدي ! البداية الوصفية تساعد على أن تكون الصورة التشكيلية التخييلة في مخيلة المتلقي, يبدو أن الصوتين الرئيسيين يتناوبانِ في عملية السرد , قال سامي:
_ أنظر يا أبي, ما رأيك أن نكتب قصة.. أنت وأنا؟ ها؟ فكرة عظيمة. أليس كذلك؟ قلْ لي.
يستعير الروائي الفكرةَ من ابنهِ, ويبدو هو في هذه القصة مجرد ناقلٍ وهنا يكمن إبداعه, فالأديبُ ليسَ ناقلاً فحسب بل هو خالقٌ لصورةٍ جديدة حتّى إنْ كانت منقولة, فالأدبُ هو الخلق من جديد أو تشكيل شيء من اثنين عبر إعادة التركيب أو الترتيب أو المزج . فالخلقُ هو ما يُميز المبدع عن غيره. البدايةُ الوصفيةُ كوّنت صورة نمطية حتّى تضمنت ثيمة أخرى, فالقصةُ الواحدةُ تشكلت منها قصة في باطنها, وهي أن المبطنة صارت هي المُلهمة والأصل وأصبحت الأول الشكلية هي الثانية من حيث التسلسل, مركزية القصة تعتمد على أهميتها في السرد, فلو تأملنا القصتين معًا, لأدركنا أن قصة أحمد مع أمه هي الأهم فلو أسقطناها من القصة الكبيرة لأصبحت القصة عبارة عن سرد لا غير.
من خلال التسلسل التدريجي الذي جاءَ بأسلوبٍ يقترب من الواقعية لكنّه تمَّ عِبرَ لغةٍ تخييلية صرفة, فالحوارُ بين سامي ووالده, هو حوارٌ تعريفيٌ تشويقيٌ بالقصةِ الأصل, والتمهيدُ والبدايات هي التي ترسمُ معالم هذه القصة. التناوبُ السردي هو الذي أعطى فنّية إضافية للتخييل كونه كسر الزمن السردي وكسر الرتابة والتسلسل النمطي في السرد, لذا, فالاعتمادُ على لغةٍ غير مباشرة هو الذي مكّن من عملية التواصل بين قطبين اثنين( قطب المبدع/ قطب المتلقي).
أما الثاني الذي هو عنصر التشويق, فنجده في طريقة التتابع السردي بين الابن ووالده, قصة الابن هي المُبطنة لكنهما لم يسردا القصة كاملة, فالقارئ يتطلع إلى معرفة طبيعة قصة ( سامي مع والدته) ويحاول القارئ أن يلجأ إلى علمِ النفس والتحليل النفسي لتفسير هذه العلاقة, لكن وبعد سردٍ تشويقيٍ ونحن نأمل أن نصل إلى كنه هذه القصة , نُفاجئ بأن الكاتب يتركها مفتوحة وكأنّه يريدُ أن يقول أنّها جاءت لأجل التشويق فقط! وهذا يصحُ على القصة كاملة, لأنّ الفكرةَ التي أرادها الكاتب هي تبيان مقدرته التخييلية في الحكي, وهو بارعٌ في الحكي الذي جاءَ طبيعيًا دون تصنّعٍ, القارئ الضمني استوعبَ القصّة وتفاعل معها لكن الدهشة تجلّت بالنهاية غير المتوقعة, لأنّ طبيعة التتابع الذي سُرِدَ , يشي بأن الثيمة المركزية هي العلاقة الشاذة بين الابن وأمهِ! لكن القاص يتلاعب في مخيلة القارئ وتوقعاتهِ.
نعم, هي لعبةٌ فنّيةٌ يمارسها الكاتب الذي يعتمد أسلوبه الخاص ووعيه في العملية السردية, هذا الوعي والمهارة يتضح في عملية القص وبناء التقنيات وترتيب التتابع الحكائي, التحكمُ بالأصواتِ المتناوبة _ المتحادثة, خلق هذه اللعبة المشوّقة التي نقرأها في المجموعة كلّها. التكرلي يعتمد في بناءِ عالمهِ السردي على مهارة التقنياتِ الأسلوبية والسردية, فالأصلُ عندهُ هي الكيّفية لا الحكاية فحسب, ولأنّه متمكنٌ من تقنياتهِ, تجده يمارس لعبةً فنّية سردية في قصصهِ كلها, فأنت تبحث عن الثيمة بينما هو يستعرض عليك مهارته الأسلوبية والتقنية, كأنّه لا يعبأ بالنهايات التي تنتهي بها الحكايات بقدر الطريقة التي تنتهي بها, وهذه ميزة وجدناها في المجموعة كلها.

شاهد أيضاً

عبد المسيح: “سؤال للحكومة حول مشروع مد انابيب مياه جديدة لبلدات عكارية غير منجز ودعا القضاة الى الانتفاضة والثورة”

كتب النائب أديب عبد المسيح عبر منصة “اكس”: “كيلومترات من أنابيب المياه الجديدة والفارغة، مدفونة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *