رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للأديب أحمد فقيه

توضيح:

المقصود بـ ” بلد الإشعاع “هو الوطن العزيز لبنان” الذي أطلِق عليه خلال فترة ما بعد الإحتلال الفرنسي “بلد الإشعاع والنور” أو تعبير آخر هو “سويسرا الشرق” والرحلة التالية بين منعطفاته  وروابيه تبين مدى تأثير ذلك الإشعاع في الحياة اليومية لدى مختلف مجتمعاته وأبنائه المقيمين على أرضه.

الإهداء:

إلى كل من ينظر إلى الحياة ومغرياتها نظرة زوال، ويقنع بما يسر الله تعالى من متطلبات الحياة الكريمة.

                                          ­أهدي هذا الكتاب

                                             

                                               

تقديم

يكاد تراثنا العربي يخلو تقريباً من أدب القصة الطويلة، مما جعل أدباء العربية في العصر الحديث ينبهون إلى وجوب الإهتمام بملء هذا الفراغ.

وانبرت بعض الأقلام تتنافس في هذا المضمار، ولكن هدفها كان – للأسف – أي شيء غير خدمة الأدب والمجتمع. ولذلك جاءت رواياتهم متلألئة كزبد البحر إذ سرعان ما تلاشى لألاؤها، ولم تترك في نفس القاريء عبرة ولا عظة، ولم تفده حكمة ولا معرفة، فإنصرف عنها غير آبه بها (أمَّا الزَبَدُ فَيَذهَبُ جَفَاءً وأمَّا ما يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأرض).

أما هذه القصّة: “رحلة في بلد الإشعاع” فإنها قصة الحياة كما عرفها الإنسان منذ فجر الحياة، بحلوها ومرِّها، بخيرها وشرها، بسعادتها وبؤسها، وبعظمتها وتفاهتها.

ولعلّي أستطيع القول: إنّ قصّة هذه “الرحلة” هي ما يمكن أن يقدمه أدبنا العربي المعاصر قريناً لقصة “البؤساء” رائعة “فيكتورهيجو”.

أسد بن حمود القيسية

مترجم ومحرر في

جريدة ” القبس ” الكويتية.

خاطرة

عندما تمطر السماء، تنطلق الأزهار بعبيرها الفوّاح، فتملأ الحياة بهجة وجمالاً وسعادة.

ولكن هنالك من تحجّرت أفئدتهم، وعميت أبصارهم، فلا يشعرون بذلك الجمال وتلك السعادة، ولا يدركون ما لتلك الأزهار من أهمّية، فيمرّون بها دون أن يلتفتوا إليها أو يعيروها أي إهتمام.

وقد يصل الأمر بهم إلى أن يدوسوها بأقدامهم المعفَّرة، فلا يتركون لها فرصة لترى النور وتؤدي دورها في الحياة، فتذوي وتموت مخلّفة وراءها ظلاماً قائماً وخراباً مخيفاً.

                           أحمد فقيه

الحلقة الأولى (الفخ)

لم يكن له أمل في النجاح.. لذلك قضى ليلته قلقاً يتقلّب في فراشه من جنب إلى آخر، يكاد لا يغمض له جفن طوال الليل.. وفي الصباح، كان لا بد مما ليس منه بد، فعليه أن يجهّز نفسه ويتأهّب للذهاب إلى (النبطية) حيث موعد إمتحان الشهادة الإبتدائية.. فدفع نفسه دفعاً، وسار إلى ساحة القرية حيث إلتقى برفاقه الذين لم يقلّوا عنه خيفة وتوجسًا.. وبعد حوالي ساعتين كان الجميع في قاعة الإمتحان.

عاد التلاميذ إلى قراهم المنتشرة حول بلدة النبطية التي تعتبر قاعدة الجنوب ومركزه العلمي والتجاري في ذلك الوقت.. والجميع كانوا فرحين مسرورين بإنتهاء الإمتحان وإنتهاء السنة المدرسية، إلّا هو.. فقد بقي مكتئباً، صامتاً، إذ عادَ من الإمتحان وهو أكثر قلقاً وأقل أملاً من ذي قبل.. إنه يعرف نفسه تمام المعرفة.. إنه لم يعمل في الإمتحان ما يؤهله للنجاح، ولن يستطيع أن يعمل.. إنه أدرى بنفسه من كل الناس..

لم يكن رفاقه أكثر علماً أو ذكاء منه، ولم يكن أملهم بالنجاح بأكثر من أمله، إلّا أنه كان يعلق أهمية كبرى على هذا الإمتحان.. فجميع رفاقه من أبناء قريته سوف تنتهي حياتهم الدراسية بمجرد إنتهاء المرحلة الإبتدائية، إذ معظمهم فقراء وليس بإستطاعة أهليهم أن يرسلوهم إلى النبطية أو “صيدا” أو غيرهما من المراكز العلمية لكي يكملوا تعليمهم.. أمّا هو فقد وعده أبوه بأن يضحي بكل ما يملك من أجل تعليمه حتى النهاية.. فقد كان والده يحب العلم ويتمنى أن يرى إبنه متعلماً “يرفع الرأس” ؛ لذلك لم يكن النجاح يهم رفاقه بقدر ما كان يهمهم الإنتهاء من الإمتحان والدراسة لكي ينصرفوا إلى اللعب واللهو بعد أشهر الدراسة الطويلة.

وبقي أسبوعاً، قبل ظهور نتيجة الإمتحان، على حاله من التوتر والضيق، لا يريد أن يسمع أحداً يتكلم عن الإمتحان، ولا يريد من أحد أن يناقشه فيه. وإذا سمع بعض زملائه يتكلمون بهذا الخصوص، إبتَعَدَ عنهم حتى لا يسمع شيئاً أو يُسأل عن شيء.

لو كان تلميذاً عادياً لهانَ عليه.. رسوب سنة ليست بمشكلة.. ولكن بالنسبة لتلميذ مثله، بدأ الدراسة متأخراً، فإعادة سنة تكون مشكلة كبيرة.. فالسنين تمضي والعمر يكبر معها.. لعنة الله على الظروف التي أخّرت وصول العلم إلى قريته فجعلته يبدأ دراسته وهو في الثامنة بدلاً من الخامسة أو السادسة.. وهكذا يرى نفسه الآن في الرابعة عشرة من عمره.. وإذا تأخر سنة أخرى فيصبح في الخامسة عشرة، فكم يكون عمره عندما ينهي.. البكالوريا والجامعة؟!.. كل هذه الأمور كانت تشغل تفكيره عندما فاجأه أحد أصدقائه وهو عائد من الحقل مع والده وأخته، وأخذ يناديه بأعلى صوته:

  • إسماعيل.. إسماعيل.. أنتَ ناجح.. ناجح.. كلنا ناجحون.. كلنا ما عدا سليم..
  • فبهت إسماعيل، ولم يصدّق في بادئ الأمر، ولكن بعد أن أكّد له صديقه الخبر، وأنَّ مدرّسهم هو الذي أتى بهذه النتيجة، بدأ يميل إلى التصديق.. ولكنه ما زال يعجب كيف حصل هذا، وهو يعلم بأنه لم يجاوب بمادة الفرنسي على شيء.. وكل ما كتبه لم يفقه منه شيئاً.. وهنا قال له صديقه:
  • كلنا مثلك، لم نعرف مما كتبنا بالفرنسي شيئاً، مثل الببغاء.. ولكن علمنا من الأستاذ: ” أن نصف علامة في الفرنسي كافية للنجاح “. والنصف علامة ليس من الصعب الحصول عليها.. المهم ألّا تأخذ صفراً..
  • وهنا إطمأن إسماعيل وغمرته موجة من الفرح والإبتهاج شغلته عن كل شيء. أما والده، وأخته وباقي أقاربه، فلم يكن فرحهم بأقل من فرحته.. وأقام والده الولائم بهذه المناسبة إستمرت لمدة ثلاثة أيام متواصلة.

بلاد برَّه

وبعد ذلك أخذ كل من الوالد والإبن يستعد للمرحلة المقبلة. فالوالد لم يكن عنده فكرة واضحة عن تسلسل المراحل الدراسية، إذ أنه لم يمر بها هو، وكذلك بالنسبة لأبناء قريته الذين كانت التجربة جديدة عليهم.

فإبنه ورفاقه كانوا أول دفعة تمر بهذه التجربة الجديدة (تجربة المدارس الحديثة) إذ كل ما كانت تعرفه تلك القرى قبل الأربعينيات من القرن الماضي من شئون التعليم هو قراءة القرآن الكريم، ثم “تجويده” على يد مشايخ كرّسوا أنفسهم لهذا الغرض. وأحياناً كان يصحب عملية القراءة هذه تعليم بعض مبادئ الحساب مثل الجمع والطرح وكتابة الأرقام التي كانت تعرف بإسم “الهندي”. هذا كل ما يعلمه والد إسماعيل ومعظم رجال قريته ومن سبقوهم من أجدادهم. ولكن بعد شيوع المدارس الحديثة بدأ الناس يسمعون ويتحدثون عن أهمية العلم، وعن الإختراعات العظيمة التي حدثت بفضل العلم مثل السينما، والسيارة، والراديو، والهاتف.. وعن ” بلاد برَّه ” التي هي مصدر هذه الإختراعات العجيبة.

وهذه الأفكار هي التي دبّت الحماس في نفس والد إسماعيل وزادته شوقاً ليرى إبنه متعلماً يشار إليه بالبنان.. وقد كان يعتقد بأنه لا علم حقيقي إلّا في “بلاد برَّه”.. إذ كثيراً ما كان يسمع عن الدكتور “شفيق شاكر” الذي تخرج في فرنسا، والذي لم تعرف المنطقة طبيباً سواه.. وكذلك جرّاح العيون المشهور في بيروت قد تخرّج في أمريكا.. وطبيب الأسنان في النبطية الذي تخرّج في بلجيكا.. وغيرهم الكثيرون.. علاوة على أنّ كل الإختراعات التي أثارت خياله، والتي لم يشاهد منها إلّا القليل القليل، قد تمّت وصنعت في “بلاد برَّه”.

أمّا إسماعيل فقد كان يعلم من مدرسيه بأن هناكَ بعد المرحلة الإبتدائية تأتي المرحلة التكميلية (البريڤه)، ثم المرحلة الثانوية (البكالوريا)، وبعدها تأتي مرحلة الجامعة لمن أرادَ التخصّص سواء في الخارج أو في بيروت حيث توجد الجامعة الأمريكية وغيرها من الجامعات والمعاهد. وبما أنه لم يوجد في قريته حتى ذلك الوقت سوى المرحلة الإبتدائية من هذه المراحل التعليمية، إذن عليه أن يختار مركزاً آخر لهذه المرحلة مثل “النبطية” أو “صيدا” أو “بيروت”، أو غيرها من المراكز التي يوجد فيها تعليم المرحلة التكميلية، وهذا ما كان يفكر فيه عندما فاجأه والده بهذه الكلمة التي هي أقرب إلى لهجة الأمر منها إلى لهجة المناقشة:

  • إسماعيل!.. جهزّ نفسك للسفر!.. ستسافر إلى “بلاد برَّه” لتكمّل تعليمك!.. كم إنتظرت هذه الساعة!.. إنها فرحة العمر!.. يجب أن تكون عند حسن ظنّي بك يا بني.. وإعلم أنه ليس لي في هذه الدنيا شيء يشغلني أو يثير إهتمامي سوى أن أراك شاباً متعلماً “يرفع الرأس”.. فإحفظ هذا، ولا تنكس راسي بين الناس!.. أنا أعرفك.. قدر المهمة وأكثر!.. ولكن إنتبه من أن تغريكَ المدينة عن دروسك.. هه!

أمّا إسماعيل فقد كانت “بلاد برَّه” تثير خياله مثل غيره، وكان يتمنى السفر إليها، إلّا أنه تذكّر بأنّ “بلاد برَّه” هذه تحتاج لمعرفة باللغة الأجنبية وخاصة بالنسبة للطالب الذي ينشد الدراسة وليس اللهو والسياحة، وهو ضعيف من هذه الناحية، إذ أن اللغة الفرنسية التي يدرسها ضمن منهجه لا يعرف منها سوى القشور، وكم حمد الله على أنه لم ينل فيها صفراً، وإلّا كان ذلك يوم عزاء وكمد بدلاً من الفرح الذي ينعمون فيه؛ هذا بالنسبة للفرنسية، فكيف الحال بالنسبة للإنجليزية التي لا يعرف منها كلمة واحدة وأي بلد من “بلاد برَّه” يذهب إليه يجب أن يعرف لغته.. ومن أين له هذا إذا كان قد أمضى حوالي ست سنوات في دراسة الفرنسية ولم يعرف منها الآن سوى كلمات معدودة لا تتعدى أصابع يديه.. وبعد هذه الجولة الذهنية السريعة، إستطاع أن يتغلب على مغريات “بلاد برَّه”، وغلّب العقل على العاطفة، وأجاب والده قائلاً:

  • لماذا “بلاد برَّه” يا والدي؟!..
  • لماذا؟!.. “بلاد برَّه” هي أم العلم والإختراع، هي كل شيء يا إسماعيل..

ألم ترَ؟!.. هذه ثيابنا وكل ما نستخدم من أدوات هي من صنع “بلاد برَّه” هذا ما عدا الأشياء العديدة التي لم تصلنا حتى الآن.. فإذهب هناك يا بني وإعرف الحياة، وعد إلينا رجلاً بكل معنى الكلمة.. رجلاً متعلماً (يرفع الرأس) أريدك أن تكون زينة شباب القرية..

  • لا بأس يا والدي.. لا بأس.. سوف أعمل جهدي إن شاء الله لأحقق ما تريد وتبقى مرفوع الرأس أنت والوالدة وجميع أفراد العائلة.. ولكن يا والدي ما زال أمامنا مراحل عديدة يمكننا أن نقوم بها ونحن هنا في وطننا لبنان.. فما زال أمامي مرحلة البريڤه ومرحلة “البكالوريا” وبعدها أذهب إلى “بلاد برَّه” إذا كنت تريد هذا.
  • أريد هذا؟!.. ماذا أريد إذاً؟!.. “البكالوريا” وما هذه الشهادة التي نلتها إذن؟
  • إنها أول شهادة في سلم التعليم الحديث.. الشهادة الإبتدائية “السرتفيكا”
  • وكم سنة يلزم حتى تصل إلى “البكولوريا”؟
  • ما زلنا قي أول الطريق، يا والدي.. أمامنا وقت طويل.. حوالي سبع سنوات.
  • إن شاء الله عشر.. عشرين.. مش مهم!.. بس خلّيك قبضاي، وأنا أمامك حتى النهاية!

كان والدا إسماعيل يحبانه حبّاً شديداً، ويولعان به ولعاً يكاد يشبه ولع يعقوب بإبنه يوسف. والسبب هو أنهما ذاقا لوعة الحسرة، والحرمان من الولد مدّة عشر سنوات حتى كاد اليأس يدبّ إليهما.. وإذا بالله يرزقهما إبنة بعد هذا الإنتظار الطويل فحمداه، وفرِحا فرحاً عظيماً.. وبعد أربع سنوات أخرى فإذا بالله يرزقهما “إسماعيل” فكانت فرحتهما أعظم وأبلغ. وكان إسماعيل آخر ولد يرزقان به، وآخر ما يطمحان إليه بعد تلك السنين الطويلة المجدبة.

وهكذا إتجه إهتمام كل من الوالدين إلى ولديهما الوحيدين، وإن كان نصيب إسماعيل أكثر – فهو الأصغر، والصغير دائماً نصيبه من الحنان أوفر، وعلاوة على هذا فهو “صبي”.. والصبي طبعاً، غني عن التعريف. وهذه من ضمن الأسباب التي جعلت والد إسماعيل يهتم كل هذا الإهتمام بتعليم إبنه، وتوفير أفضل الأجواء له. فهو لم يكن أغنى أغنياء عصره، ولا هو بأحسن حال من الكثيرين من أبناء بلدته، وإنما صغر عائلته، جعل مصاريفه قليلة نوعاً ما، بالإضافة إلى حبّه الشديد لإبنه جعله يستهين بكل صعب في سبيل ما يراه مناسباً له..

ما دام بالإمكان أن يتابع إسماعيل دراسته حالياً في لبنان، وليس من الضروري أن يسافر إلى “بلاد برَّه”، إذن فلتكن مدرسته الجديدة من أفضل المدارس وأحسنها سمعة وموقعاً.. وعندما بحث الوالد، وسأل عن أحسن المدارس، قيل له أن أفضلها هي تلك التي تولي اللغة الفرنسية أو الإنجليزية عناية خاصة، فمنها يخرج التلميذ وكأنه (“فرنسي” أو “إنجليزي” ، “يرطن.. يرطن”.. ولا تفهم عليه.. يكاد ينسى لغته الأصلية). وبعض المدارس الخاصة مثل مدرسة كذا، أو كذا، أو كذا، هي من أفضل المدارس في هذا المضمار.. إذ يقولون أن معظم مدرّسيها أجانب إما فرنسيون أو إنجليز..

وطار أبو إسماعيل فرحاً بهذه المعلومات.. إنه يشتهي أن يسمع إبنه يتكلم الفرنسية أو الإنجليزية أو كليهما بمثل تلك الطلاقة التي يتحدثون عنها.. إذن فليبحث عن تلك المدارس..

أما إسماعيل فلم يكن فرحه بأقل من فرح والده.. فكم كان يتمنى أن يتخلص من عقدة اللغة الأجنبية.. إنها شغله الشاغل وهمّه الوحيد في الدراسة، ولولاها لبات ليلة الإمتحان في فرح ومرح بدلاً من الهم الذي لازمه طيلة فترة الإمتحان وما قبله بزمن.

فلولا اللغة الفرنسية لما كان يحسب للإمتحان أي حساب.. وهكذا، إذا صح ما يسمع فإنه سيصبح بإمكانه أن يجاوب على أي سؤال، ويتكلم الفرنسية بسهولة ويسر، وبهذا يصبح الإمتحان لديه واضحاً خالياً من أي تعقيد أو تعجيز!..

وبعد البحث، فوجيء الوالد وإبنه بأن تلك المدارس التي قيل لهما عنها لا يستطيع أن يدخلها سوى الأثرياء.. أصحاب الملايين. وظاهر الرشيدي (والد إسماعيل) ليس من الأثرياء، ولا من أصحاب الملايين.. ولا قريته “وادي اللوز” ، الرابضة على أحد سفوح جنوب لبنان، من القرى الثرية، ولا أهلها أثرياء.. فجميعهم مزارعين بسطاء يعيشون عيشة الكفاف؛ وكثيرون منهم لا يجدون أحياناً اللقمة التي تقيم أودهم.

إلّا أن ظاهر الرشيدي يجب أن يفعل شيئاً.. يجب ألّأ يستسلم.. “لا يمكن!.. لا يمكن!.. إسماعيل لازم يتعلم!..” هذا ما كان يجول بخاطره، وما صمّم عليه في النهاية.

وبدأ تحركاته وإتصالاته، فكان كالنحلة لا يكاد ينتهي من مهمة حتى يبدأ أخرى.

حاول في البداية السعي لدى تلك المؤسسات التعليمية لعلّها تجري له تخفيضاً يتناسب مع وضعه، ولكن محاولته لم تفلح.. فعزم عندها على الإتصال بالحكومة من أجل تخصيص منحة أو مساعدة دراسية لإبنه، فكان الجواب: “لماذا لا تختار إحدى المدارس الحكومية لإبنك، فهي أقل تكلفة؟! “.

إلا إنه بعد أن خبر مدرسة الحكومة في بلدته، وشاهد بأم عينه أن أبنه ورفاقه الذين قضوا حوالي ست سنوات وهم يدرسون اللغة الفرنسية، وفي النهاية لم يستطع أي منهم أن يتكلم “كلمتين على بعض” بالفرنسي. بعد أن خبر هذا، لم يعد يطمئن إلى هذا النوع من المدارس.. إنه يريد مدرسة “بكل معنى الكلمة.. مدرسة يخرج منها التلميذ وهو فاهم لما درسه، ليس تيتي.. تيتي.. مثل ما رحتي جيتي.”

وأخيراً لم يبق أمامه سوى باب واحد، وهو أن يجرب حظه عند زعماء المنطقة علهم يجدون له حلّاً لمشكلته.. وفي سبيل هذا، إتصل بمختار القرية وبعض وجهائها، الذين لهم “كلمة عند البيك” ، حتى يتوسطوا ويمهدوا له الطريق.. إلّا أن كل هذه المحاولات لم تغير من الأمر شيئاً.. فجميع من قابلهم وتوسط لديهم كانوا يقابلونه بنفس السؤال تقريباً: “لماذا لا تختار لإبنك مدرسة حكومية؟!.. هو إبنك أحسن من باقي الناس؟!..”

أمّا “البيك” الذي إستطاع والد إسماعيل أن يمثّل بين يديه أخيراً، ولكن بشق النفس، فقد قال له:

  • أمن الضروري أن يحصل إبنك على “البكالوريا”؟!.. “السرتفيكا” كافية يا إبني.. كافية جداً.. جداً.. نعم كافية جداً!.. فها أنا، وأنت كذلك، وكل أجدادنا، ما حصلنا “السرتفيكا”.. وبعدين، يعني لازم كل واحد يتعلم.. وياخذ شهادات عالية؟!.. واحد كافي.. نعم يا إبني.. واحد كافي.. هذا إبننا “غانم” قد أرسلناه إلى فرنسا ليتعلم، وهو يكفي عن الجميع!.. خلّي إبنك يساعدك في الفلاحة والزراعة، وهذا أفضل لك وله بكثير.. خلّي العلم لأهل العلم، يا إبني.. لازم كل واحد يعرف شغله.. ويلزم حدّه.. نعم.. يلزم حدّه.. هه!..
  •  

خرج أبو إسماعيل من هذه المقابلة وهو يشعر بأن الدنيا تدور فيه، وتدور، وتدور، وتدور، حتى بدأت الأشياء تضطرب أمامه، وأخذ العرق يتصبب منه، فإنتحى جانباً من الطريق وهو عائد إلى قريته مع بعض مرافقيه، وإستند إلى صخرة، وإذا به يقذف كل ما في بطنه.. فإلتف مرافقوه (الوسطاء) حوله، وبدا عليهم الإهتمام بهذا الإنسان الذي كانوا قبل قليل يعتبرونه مجنوناً أو مهووساً. وكم لاموه على جرأته التي قابل فيها “سيدْنا البيك”، وعلى تطاوله في طلب المعالي.. إلّا أنّ أبا إسماعيل قد شعر براحة كبيرة بعد عملية القيء هذه، وشكر الرجال على إهتمامهم بأمره وطمأنهم على حاله، ثم وقف وتابع السير معهم حتى وصلوا إلى القرية.

وبقي في بيته ثلاثة أيام لا يقابل أحداً ولا يكلم أحداً.. وبعد هذا خرج من البيت بعد أن أخبر أهل بيته بأنه قد يتأخر حوالي أسبوع..

وفعلاً، بعد أسبوع، عاد وعلامات البشر بادية على وجهه.. فهلل الجميع وإستبشروا خيراً.

قضى أبو إسماعيل هذه المدة متنقلاً بين أنحاء لبنان المختلفة بحثاً عن مدرسة حكومية تليق، حسب رأيه، بإبنه من ناحية الشكل والمضمون. فقد كان يقول في نفسه: “ما دام الولد سيخرج من البلد، وما دامت المصاريف هي، هي، لماذا إذن لا أختار له مدرسة، على الأقل تكون في حي راقٍ يُهذّب من أخلاقه ويساعده على تقبل المعلومات، بدلاً من أن يفسد أخلاقه ويرجعه إلى الوراء؟.” وعلى الرغم من قلة المدارس الحكومية في ذلك الوقت، إلّا أنه إستطاع أن يجد مدرسة تتلأم مع ذوقه وتصوره.. فقد كان يلفت نظره وهو ذاهب من صيدا إلى بيروت وبالعكس تلك الروابي الخضراء الممتدة بمحاذاة الساحل، وتلك البيوت القرميدية التي تبرز هنا وهناك بين أشجار الصنوبر، فيسحره المنظر، ويتمنى أن يجد لإبنه مكاناً في هذه المناطق.. وكان له ما تمنى.. فبعد البحث، إستطاع أن يعثر على مدرسة تكاد تكون نموذجية (حسب تصوره) من حيث الشكل والنظام والهدوء وسحر المكان وروعته.. ولم يصعب عليه الباقي.. لقد وجد غرفة منفردة مع عائلة من أهل الحي، فإستأجرها.. وبعد هذا لم يجد صعوبة كبيرة في تسجيل إبنه في تلك المدرسة التي إختارها، إذ لم يكن الإقبال على طلب العلم قد بلغ أشدّه بعد في ذلك الوقت.. وهكذا عاد مسروراً وهو يحس بأن عبئاً كبيراً قد أُزيح عن كاهله.

أما إسماعيل فقد كانت فرحته بمدرسته الجديدة تفوق كل وصف، ومما زاد في إعجابه روعة المكان وسحره، وهدوءه، وجمال مناظره البديعة. وقد إنعكس هنا الإعجاب والرضا على شعوره بالنسبة لوالده الذي أجهد نفسه حتى إستطاع أن يؤمن له هذا المكان الرائع الذي يزيل الهموم من النفس ويبعث على الراحة والطمأنينة. وقد لفت نظره شيء في ذلك الحي لم يدر كيف يفسره. فقد لاحظ أن معظم الأهالي يتكلمون فيما بينهم الفرنسية سواء في الشارع أو في البيت أو في المحلات التجارية.. يكاد لا يسمع اللغة العربية إلّا نادراً، ونادراً جدّاً.. وقد سُرَّ في بادئ الأمر، إذ إعتبر أن هذا قد يساعده على تفهم هذه اللغة والسير فيها قدماً؛ ولكن لم يلبث إن بدأ يشعر بالحَرَج في كثير من المواقف..

فإذا سُئلَ لا يستطيع الإجابة، وإذا أراد أن يسأل لا يستطيع كذلك، فيضطر لإستخدام العربية مما يجعل الآخرين ينظرون إليه نظرة دهشة وإستغراب.. ولم يلبث هذا الإستغراب أن بدأ يأخذ طابع.. الإزدراء.. ثم التهكّم..

مضى أسبوع على وجود إسماعيل في الحي الجديد ولم تكن الدراسة الفعلية قد إنتظمت بعد. فقد كان كل يوم يذهب إلى المدرسة للتعرف على أصدقائه الجدد، وأساتذته ومعرفة الكتب المطلوبة منهم للعام الدراسي الجديد.. وعمل خلال هذا الأسبوع على تجهيز جميع كتبه وأدواته المدرسية اللازمة. وقد لاحظ أثناء شراء الكتب، وهو يقلبها ويتفحصها، أن معظمها باللغة الفرنسية، ولم يكن هناك باللغة العربية سوى ثلاثة كتب وهي الخاصة باللغة العربية، والتاريخ، والجغرافيا، فبدا عليه بعض الإنقباض، إلّا أنه لم يطل النظر إليها، وحاول تجاهل الأمر.. وفي ساحة المدرسة لم يكن نصيبه من الحديث مع زملائه الجدد بأحسن منه مع أهل الحي.. إلّا أنه لاحظ شيئاً جديداً هنا، لم يكن قد لاحظه بعد لدى الأهالي، وهو أن بعض التلاميذ يتكلمون لغة جديدة عليه كلياً لا يعرف منها شيئاً..

وقد ظن بأنها اللغة الإنجليزية، وعندما سأل تأكد له هذا..

وهنا بدأ شعوره يتحول شيئاً فشيئاً.. لقد بدأ يحس بالغربة والوحدة.. والحنين إلى قريته البسيطة الرابضة هناك.. على الطرف الآخر.. لقد بدأ يحن إلى شخص.. أي شخص يتكلم معه، ويتحدث إليه.. إلى إنسان يفهمه.. وعندما تشتد عليه الوحدة.. يرجع إلى كتبه التي إشتراها حديثاً، ويختار منها ما يستطيع فهمه.. ويدفن نفسه فيه..

                            إلى اللقاء في الحلقة الثانية (السراب)

شاهد أيضاً

أحجية الإنسان في ما يريد

بقلم الأديب أحمد فقيه حاجة الإنسان للعبور وجد الإنسان نفسه في هذه الدنيا وهو لا …