قراءة في كتاب ” اللاّهوت العربي وأصول العنف الدّيني” للمفكر المصري د. يوسف زيدان

إبراهيم رسول

الثقلُ والأهميةُ المعرفية التي يمثلها د. يوسف زيدان، ترجع إلى الأبحاث الفكرية التي يُقدّمها وينشرها بالطريقة التي تُثير العقول الراكدة، القانعة بما أخذته عن الأسلاف، فهو يكتبُ لتلك العقول النّيرة الطموحة، الراغبة بعقلنة الأشياء وتفعيل دور العقل الناقد, الذي لا يتلقى الإجابات الجاهزة عن أسئلةٍ مكررة ومستهلكة، فالكتابُ موّجهٌ لأولئك الذين ينظرون لقضايا الفكر والحياة بعين العقل لا عبر مقولات التلقين الجاهزة، وقد يصح أنْ يُقال عن ابن زيدان، أنّه المفكرُ الذي يُثير الجدل في أيِّ مقالٍ! ولهذا الجدل لذّة يعرفها أولئك الذين اتخذوا عقولهم الحكم الفصل في قضايا حياتهم على كافة مستوياتها.
نعم، ابن زيدان، المفكر الأكثر جرأة ولكن جرأة المفكر المملوء وليس جرأة الفارغ، فرقٌ كبيرٌ بين الفراغ والامتلاء!

يُثير في هذا الكتاب قضيةً مهمةً، ولفرط أهميتها في مستقبل العالم، كانت نسبة الجرأة عالية فيها حتى أنّه لمْ يخشَ سطوة وسلطة المؤسسات التي عملت على صبغ عقول الجمهور بأدجلتهم الدّينية إلى أن صارت كأنّها وحيٌ من السّماء! إذ ضرب ابن زيدان في كتابهِ هذا على تلك الأدلجة بضربةٍ لن تنهض منها بالسّهولة أو الحيلة الهيّنة.
ينبغي للقارئ أن يضع عاطفته الدّينية على جنب، ويقرأ علّه يستطيع أن يُساءلَ عاطفته عن أسئلةٍ غير منطقية وعسّى أن يتحركَ الماء الآسن ففي الحركة بركة كما يُقال .
العتبةُ المهمةُ هي العتبة التنبيهية التي وضعها في صدر كتابهِ, التي تعني المعنى العميق , أن أفكار الكتاب مكتوبة للخاصة وليس للعامة , الذين يتلقون الاجابات الجاهزة عن أسئلتهم المكررة. الكاتبُ الممتاز، يهتم بكُلِّ عتبات كتابهِ، ولا يكتب سُدى، بل لكلّ عتبة دلالة، وما نجده في كتاب اللّاهوت العربي وأصول العنف الديني للكاتب العربي المهم د. يوسف زيدان، الكاتب العقلاني، المفكر الذي عرف كيف يفكر وبماذا يفكر, فهو يقول: أن الكتاب لم يوضع للقارئ الكسول , ولا لأولئك الذين أدمنوا تلقي الإجابات الجاهزة… فالكتابُ موجّهٌ إلى فئةٍ معينةٍ وهذه الفئة يقع عليها مدار الفهم والتفهم, قرأت هذه الكلمة ” التنويهية” وتأملتها طويلًا، فرجعت لعنوان الغلاف، أطيل التأمل فيه، وقلت في نفسي ماذا سيكتب ابن زيدان هذه المرّة؟
لأقرأ إذن، وبشغفٍ معرّفيٍ كبير.
فالكتاب لمْ يُكتب لأولئك الذين في قلوبهم غلف، أو الذين وضعوا حجارة في رأسهم، الكاتبُ لأولئك الذي يفكرون ويتأملون فيما يقرؤون، إلى أصحاب العقول النشيط، الفعّالة والناقدة، إلى العقول التي لا تُسّلم لكل روايةٍ أو تطمئن إلى كل عقيدةٍ أو مذهبٍ، فالكاتبُ مخصصٌ لمن يقرؤون من أجل المعرفة والعلم، أجل المعرفة والعلم وحدهما.
يبدأ الكتاب بمقدماتٍ تمهيديةٍ، تُوضح الطريقة في قراءة هذا السِفر الذي اشتغل على العقل النّير، اليقظ والباحثُ عن أجوبةٍ لأسئلةٍ مهمةٍ ومنها ما يكون بالغ الأهمية.
ميزةُ هذا الكتاب، أنّه يُحلل القضايا بصورة تمهيديةٍ حتّى يصل إلى النتيجة، فالنتيجةُ تأتي بعد عرضٍ مهمٍ لمكونات السبب في مسألةٍ ما، فتجيء النتيجة مدعومة بأدلّةٍ عقليةٍ يتقبلها العقل غير المغسول بنوع من الغسيل الذي يحيد به عن قراءة النصّ قراءة إيجابية.
يقولُ في المقدمةِ الأولى عن إشكاليات المصطلحات التي راجت فشاعت فصارت كأنها حقيقة لا جدال فيها أو حولها فمن هذه المصطلحات، يأتي مصطلح ( الأديان السّماوية)، التي يُقصد بها الأديان الإبراهيمية الثلاث ( اليهودية، المسيحية، الإسلامية)، فهو يقرّ أن المصطلحَ غير دقيق من حيث اللغة، يقول في الصفحة ٢٢ ما نصّه: إن وصف الديانات الثلاث (الرسالية) بالسماوية، إذن، هو وصفٌ غير دقيق. غير أن الناس اعتادوا استعماله ودرجوا عليه، فصار من كثرة استخدامه، كأنّه يقينيٌ.
هذا القولُ أوّلُ ضربة يتلّقها العقل المؤدلج، وسيُثار السّؤال الخطر جدًا في عقيدة هذه الدّيانات الثلاث الإبراهيمية، وسيصاغ السّؤال بصيغة التعجب، ماذا يعني أن هذه الأديان غير سماوية، أيعني هذا أنّها أديانٌ أرضيةٌ!
فالكتاب غير معني بالجواب على هذا السؤال الذي لمْ يُبحثْ في هذا الكتاب لإثبات سماوية أم أرضية هذه الأديان الإبراهيمية المشهورة، بل هو يبحثُ عن قضايا لها مساس بواقع إنسان هذه الأديان، إنّه معنيٌ بمسألة العنّف الدّيني وأصوله الأولى كيف بدأت وكيف استمرت حتى يوم الناس هذا. الكتابُ لا يريد الخوض في المقارنة بين هذه الأديان وترجيح أحدهم على غيره، إذ يفرح المسلمون باكتشافهم علم مقارنة الأديان الذي يقوم به أناس من هذه الأديان تخصصوا لإثبات أحقية دينهم على دين غيرهم وأن دينهم الأفضل والأكمل وفق تصوّرهم! إذ يفتخرون أن الشرق سبق الغرب باكتشاف هذا العلم الواضح عليه الطائفية الدّينية، فابن زيدان لا يبحث عن الأفضلية أو الترجيح ولا عن المقارنة، إذ استبدل كلمة مقارنة بمقاربة، حيث يقول في صفحة ٣٠ : فإنني لا أعتد في هذا الكتاب، بفحوى ذلك التخصص الذي يسمى مقارنة الأديان، بالمعنى المذكور سابقًا. ولا أرى من الصواب أصلاً أن نُقارن بين الديانات بهذا المعنى، وإنما الأصوب والأقرب عندي، أن نقرن بين الديانات الرسالية الثلاث الإبراهيمية أو نقارب بينها، على اعتبار أنّها تجلياتٌ لجوهرٍ دينيٍ واحد.
هذا القولُ الذي يُوضح فكرة الكتاب كُلّه، هذه خلاصة المقدمات التمهيدية التي استهلّ كتابهُ بثمانِ أقوالٍ، مهدَ من خلالها إلى منهجهِ النقدّي _الفكري. الإشارة الأولى التي يقرّ بها الكاتب هو أنّه لا فرقَ بين هذه الأديان من حيث الأصلِ أو الإطار العام, كأنّه يركزُ على مسألةٍ مهمةٍ أهملها العقل الدّيني الذي يسيطر على الناس التي تدين بهذه الأديان الثلاث, فلو أقرّت الأديان الوحدة فيما بينهم من حيث الجوهر الواحد أو الأصل الواحد والغاية الواحد, لرأينا أن حالة العنف غير ما عليه الآن بهذه الكثرة وهذه الكراهية ! فالمسألة بكلِّ بساطة هي أننا لو ركّزنا على الجامع الذي يجمع هذه الأديان لوجدنا أنها دينٌ واحدٌ لا غير! هذه مسألةُ العقلُ التنويريّ, الباحثُ عن أصولِ المسألة منذ بداياتها الأولى, وقد أصاب الدكتور في رأيهِ.
وقد أذهب مع الدكتور يوسف زيدان في هذا المذهب, ولكني أسألهُ , فأنت تُشكر على أنّك حريصٌ على لم الشمل والوحدة بين الناس جميعًا إلا أنّك يا حضرة الدكتور لم تقدم لنا رأيك بهذه الأديان, كيف بدأت وما هي عوامل انتشارها هذا الانتشار الكبير, فنحن نعرف الثقافة الموسوعية في هذه الأديان والعقائد لكنك لم تفصح عن رأيك الذي يكون مهمًا في هذه المسألة, فلا ينبغي أن نثير الأسئلة فحسب, بل علينا أن نضع أجوبةً عما نُثيرهُ من تساؤلاتٍ تحتاجُ إلى أجوبةٍ شافيةٍ وافية. تتبعَ الدكتور يوسف زيدان في بحثهِ هذا, أصلُ المشكلة أو بداياتها الأولى, فلو تأملَ القارئ الفصول التي يستعرض فيها الأصول الأولى للظاهرة اللاهوت العربي, وكيف كانت الديانة المسيحية بمختلف مذاهبها, تكاد أن تنبهرَ من هذا الإلمام التاريخي والعلمي في كل ما يتعلق بهذه الديانة, ويأخذك من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال, وهو يتتبع أماكن هذه المذاهب الدينية في استعراضٍ شاملٍ ملمٍ بالموضوع لتأتي النتيجة ملخصة في سطرٍ واحدٍ ليس غير, إذ يقول في صفحة 135: وقد أدرك الناسُ آنذاك في غمرة هذه القتامة المسكونية, أن مشكلة العالم أساسُها ديني.

حضرة الأستاذ الدكتور, إذا كانت مشاكل العالم أساسها ديني! وهذا يكاد يتفق يثير إشكاليات كثيرة, لكن الواقع ربما يقرّ غير هذا, هل غابت السياسة وأطماعها التوسعية عن أنظاركم, لتأتي النتيجة أن السببَ أصلهُ ديني! فالسياسةُ ما دخلت في شيءٍ أو مع شيءٍ إلا وأفسدته! هل نستطيع القول, أن الدين اِتحدَ مع السياسة أم هي التي جاءت إليه لتمتزج معه! هذه أسئلةٌ تحتاجُ إلى تفصيلاتٍ يتمها البحث في ذات المشكلة التي عرضتها في متن الكتاب. المفارقةُ الواضحةُ أن علم مقارنة الأديان لم يأتِ على أساسٍ تميزيّ بل على أساسٍ تفريقي, كأنّ هؤلاء يردون أن تبقى هذه الأديان تحمل الحقد والعنف والضغينة بعضها لبعض, لماذا غيّبَ أو تجاهل رجالات هذه الأديان ما يجمعهم وانتبهوا إلى ما يفرقهم! جميلٌ جدًا, أن يضع الدكتور يوسف زيدان في رأيهِ حول عملية المزج التي حصلت بين السياسة والدين, فهو له الرأي الأكثر تميّزًا بخصوصِ الموضوع حيث يقول ما نصّه في صفحة 220: لا يمكن معالجة عملية التفاعل الضروري بين الدين والسياسة, إلا استنادًا لفهم عميق, متبادل, لطبيعة ما هو دينيٌ وما هو سياسيٌ. ولن يأتي هذا الفهمُ إلا بالاعتراف المتبادل بمشروعية النظرة السياسية ( الممكنة) وضرورة الرؤية الدينية ( المطلقة) بالنسبةِ للمجتمعات. في هذا القولُ أعرب ابن زيدان بقولٍ بليغٍ , وهو أننا علينا أن نفهم ونتفهم مسألة الامتزاج الذي يحصل بين هذا الثنائي المستمر حتى أبد الحياة, فإذا فهمنا النظرة لهذين الشيئين, أدركنا كيفية التعامل معهما على أساسٍ واضحٍ. من خلال هذا الكتاب, ندرك أن مسألة العنف في العالم العربي, قديمة جدًا, تعود إلى بدايات نشوء الأديان الثلاث التي يُراد لها أن تتميزَ عن بعضها البعض وتفترق, إلا أن الحقيقيةَ تقول: أن هذه الأديان نبعت من نبعٍ واحد وستصب في مصبٍ واحد, هذه النتيجة هي علينا أن نفهمها ونستوعبها الاستيعاب الذي لا جدال بعده. قارئ هذا الكتاب, سيخرج وهو محملٌ بأسئلةٍ كثيرةٍ, لكن سيملك أجوبةً أكثر, الأجوبةُ التي غُيّبت عن العامة, فقد نجح ابن زيدان, في كتابهِ هذا, المهم والنوعي, في زعزعة السقف الكونكريتي الذي وضع فوق رؤوس الناس, وفي هذه الزحزحة , جاءت الشمس مشرقة بيومٍ ربيعيٍ, لكن بعد الربيع سيأتي الصيف الحار, الذي سيحرق متعة الربيع, هذا الوصف الأكثر قرّبًا للمعنى الوارد في متن الكتاب. يبدو د. يوسف زيدان في هذا الطرح, لا ناقدًا فحسب بل مقوّمًا الاعوجاج في التبصّر في القضايا, وهذا ما رأيناه في توضيح اللبس الذي طال الكثير من المصطلحات.

شاهد أيضاً

ضاهر: “نطالب وزير الصناعة بالاعتذار علنا عن الإساءة لجدعون وتشويه سمعته”

قال النائب ميشال ضاهر في بيان صدر عنه: “بعد حوالى 11 شهرًا على إحالة المدير …