السواء والاختلاف وزمن الكورونا ” كتاب يلخص تجربة حية للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى (13)

 


السواء والاختلاف وزمن الكورونا”
كتاب للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى، التي سألت في مقدمة كتابها:

أو ليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟”

بلى يا دكتورة بهاء، ما كتبته جدير وجدير جداً بالقراءة..

لماذا؟

لأنك أستمديتي حبرك من نبض القلب،  وكانت حروفك دعاء صلاة. ولأنك ببوحك أخترقتي الروح ورفرفتي في فضاءات إنسانيتنا بإتزان الصبر وحولتي مشكلتك إلى إنتصار لم يكن لك شرف نيله لولا مجيء أميرتك “زينب” لتجعل ما تعلمتيه وتخصصتي به وما تدرسينه لطلابك فعل مقدس زاد من قدرتك وقدراتك، فأنتصرتي في الميدان ونلت الوسام الأعلى، مما جعلك في رتبة رفيعة ورفيعة جداً على الأقل أمام نفسك، رغم كل العذابات والآلام التي صهرتك، فكشفت عن نفاسة جوهرك، وكنت كل البهاء، كنت بهاء الأم الأمثولة الجديرة بالإحترام..

لن أكتب عن كتابك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا” لأنني بصراحة عاجزة أن ألملم مشاعري المبعثرة، وبالتالي أترك للقارئء أن يكتشف عطمة قدرات الإنسان عندما يكون إنساناً بالمعنى الرسالة الذي جاء إلى الجياة من أجل تحقيقها، فإما الفشل وإما النجاح الذي أنعم الله به عليك، فكانت تجربتك وكان كتابك الذي كلما قرأته أجد فيه مساحة جديدة من البلاغة والعفوية والمعرفة والثقافة والإنسانية المكللة بالعلم والصبر. التي سيلمسها القارئ جلية في تحفتك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا“…

فاطمة فقيه

الحلقة الثالثة عشرة:

 

 

عود على بدء

 

عندما فكّرت بكتابة تجربتي مع ابنتي «المختلفة» لم يخطر ببالي قطّ معايشة ظروف وأحوال بل وأهوال كالتي مرت علينا خلال هذا العام : جائحة كورونا، زلزال المرفأ، احتجاز الودائع في المصارف، ضائقة اقتصادية خانقة لم يختبرها اللبنانيون من قبل، تغيّر العادات والروتين اليومي مع الحجر المنزلي المتكرر…

انقلبت معالم حياتنا في فترة زمنية قياسية، ما عدنا كما كنّا، علاقاتنا، صداقاتنا، مشاريعنا، نظرتنا لأنفسنا وللآخرين، كثرت علامات الاستفهام من حولنا، صرنا نتحسّر على الماضي ونخاف من المستقبل ألذي ينتظرنا وبالأخص مستقبل أولادنا الأسوياء منهم والمختلفون حتما…

ولادة مختلفة هي رحلة طويلة في هذه الحياة، فيها المطبّات والتعرّجات كما فيها البسمات والانفراجات، ليس سهلا أبدا ان تكون أهلا لطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، هو المشوار الصعب الذي لا بدّ من سلوكه، هو مشوار: يعني تسلية وتمضية وقت واكتشاف أمور وسرد حكايات ولكنه مشوار محفوف بالقلق والخوف والانتظار…

منذ اللحظة الأولى، منذ البداية ومعرفة واقع المولود الجديد ترتسم الخطوات وتتحدّد المسارات، فهذا الآخر المختلف سيجعل حياتنا مختلفة ولا مفرّ من ذلك، لن يفيد بشيء ألحزن والتحسّر وطرح علامات الاستفهام والتعجّب طيلة الوقت، فالمولود- الحدث هنا بيننا بما حباه الله من سمات وصفات… هو لا يعرف شيئا عن مشروعه الوجودي المستقبلي، هو بحاجة فقط لآخر حنون، محب، متفهم، صبور، متسامح ليساعده في خوض غمار معترك الحياة التي تنتظره، هو لا يعرف لماذا خلق على هذه الشاكلة وعلى تلك الصورة، ولا يفهم لماذا حرم من قدرات معينة يتمتع بها الأطفال الآخرون، هو لا يعرف انّ لحظة ولادته- لحظة قدومه إلى هذه الحياة- قد قلبت حياة العديدين من حوله، هو لا يعرف لماذا أمّه تبكي كلّما نظرت في عينيه ولا لماذا القلق ينهش داخل أبيه، هو لا يعرف انّ الخارج قد يظلمه ويتنمّر عليه ويتركه على الهامش، وانّ لا ملاذ له سوى حضن اهله وأسرته الذي يحميه من كل منغّصات الكون، هو لا يعرف انه لم يأت على مستوى التوقعات، وأنه خذل كل الصور التي كانت في الخيالات، وانه لن يكون أبدا المثال، هو لا يعرف انه لن يكون امتداداً لنا، لأنويتنا ونرجسيتنا، هو لا يعرف انه «همّ» الأهل للممات، هو لا يعرف ان كل تفاصيله الصغيرة والدقيقة سوف تصير في الحسبان، هو لا يعرف ان حياتنا بعد قدومه لن تكون أبدا كما في السابق، ولا يعرف ان السفر على متن رحلة تقلّنا سويا سيعتريها العديد من المطبّات ولكن ستصل حتما بسلام…

كل هذا واكثر لا يعرفه، وهو لا يعرف ايضا اننا معه أصبحنا اكثر صدقا، اكثر شفافية، اكثر تسامحا واكثر جمالا، نعم هذا الجمال المنبعث من الداخل الذي لم يعد يهدف سوى إلى السلام والتوافق مع الذات والآخرين، معه تغيرت نظرتنا إلى الكون والحياة والموت، معه نتشارك حلاوة التفاصيل الصغيرة ونهرب من كل تعقيدات الأمور والأشياء، معه نعيش طفولة كنا قد تخطيناها بمراحل، فهو يعاود ايقاظ الطفل الكامن في جوانيتنا، فهذا الطفل هو وحده القادر على محاكاته والتماس البراءة والعفوية والاختلاف لديه، معه صرنا نحب عمرنا ونخاف فراقنا عنه، هو لا يعرف انه أعاد هندسة حياتنا وبرمجة خطواتنا وفقا لمتطلباته، ولا يعرف انه أعاد بناء انسانيتنا وانه مزج بأعيننا الضحكة والعبرة معا، ولا يعرف ان الاختلاف الذي فاجأنا به أضحى الدليل لكشف السواء والمستور!!!

هي زينب، ابنتي، رفيقة الرحلة الطويلة، الاقلاع معها كان صعبا حقا وفيه طعم المرارة، والوصول إلى قاعدة الأمان تطلّب شدّ الأحزمة بشكل جيد مخافة الوقوع عند اي عائق يعترض المسار وما أكثرها هذه العوائق!!! لن أكابر وأدّعي عدم الحزن والسخط والبكاء مراراً وتكراراً على واقع ابنتي اللا سوي، فهذا أمر لم أتحضّر له ولم أكن محصّنة كفاية عند حدوثه، ولادة ضعضعت كياني و«كركبت» كل شيئ في محيطي ومن حولي، معاناتي كانت عميقة وصامتة دون ايّ صدى يجاوب كبريائي المصدوم…

وتكبر زينب ويكبر حبّي لها لا بل عشقي لها، اختلافها ما عاد يحزنني و«تخلّفها» ايضا، أرى العالم كلّه من خلال نظراتها الحنونة، وأسمع أعذب الألحان في ضحكاتها الرنانة التي لا حدود لها، وعند اغفاءتها يستكين الكون…حبّ زينب تشوبه سحابة مرارة ودمعة متلألئة في العيون وغصّة في القلب، شاهدة على تجربة انسانية ملأى بكافة التناقضات منذ البداية-الصدمة مرورا بكافة المراحل والمحطات، الشاهدة على تقلبات المزاج وتنهيدات الروح وطيف ابتسامات لا تأخذ مداها، وصولا إلى اليوم، هنا والآن، زينب احتلت المكان والزمان، أصبحنا ندور في فلكها، هي محرّك سلوكياتنا ومن أجلها نرتّب معظم أمورنا، فكم تغيرت أحوالنا معها بشكل يصعب تصديقه احيانا، فما بعد زينب أضحى فعلا مغايرا لما قبل…

تلك هي حكايتي مع زينب، قد تشبه غيرها من الحكايات وقد تتمايز، انّها البطل الرئيسي للحكاية ونحن الشخصيات الثانوية، فهي برغم حالتها واختلافها وضعفها وبساطتها أصبحت هي المحور في حياتنا، هي البلسم لكل الجراحات، وهي التي نهرب اليها عندما تشتد وطأة الأزمات علينا في الخارج، كما هو الحال منذ عامين، وسط العواصف في بلدنا التي هبّت علينا من كل حدب وصوب، فكل هذا اللا معقول في الخارج كان يتلاشى أمام براءتها وربما «سذاجتها» التي لا تعرف من الأمور سوى البساطة والسلاسة وراحة البال، اما أزماتنا الداخلية فهي قادرة على امتصاصها بشكل انسيابي وبسيط وأحيانا بشكل ملفت للنظر…

زينب وأمثالها من ذوي «متلازمة داون» لهم عالمهم الخاص، البريء، النظيف، المتفائل، المبتسم دوما وأبدا، والذي يلوّن فضاءاتنا بشعاعات دافئة، وبأنوار متلألئة في سماءاتنا الداكنة…

ألولادة- الحياة هي لحظة مفعمة بكل أسرار الكون والآمال والآلام…الولادة قد تحمل في طيّاتها موتا محتملاَ أو هوامياَ، هذا الموت الهوامي بحاجة لأن يكسر وسريعا كي لا يشكّل حاجزا أمام صياغة علاقة سليمة، دافئة، ودّية، علاقة أم-طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة لا ذنب له ان هو أقدم على هذه الحياة بشكل غير سوي ومختلف عن الآخرين، ما ذنبه ان كان له عالمه الخاص، عالم النقاء والصفاء، عالم لا يمتّ إلى عوالم العولمة التي نعيشها، حيث الكذب والتنافس والجنون والأوبئة المصنّعة والنفوس المزيّفة…

فأنت يا ابنتي بعيدة عن كلّ هذا، فيومياتك بسيطة، وأحلامك بسيطة، ومشاريعك تقف عند حدود الفرح واللحظة الحلوة والرفقة الطيبة…

لم تأت على مستوى توقعاتي حقا، كسرت الصورة – المثال نعم، كنت هذا الآخر المختلف نعم وأيضا نعم، ولكنّك تميّزت عن الجميع!!! انت كنت المفاجأة، لا تشبهين أحدا ممّن هم حولنا، كسرت القالب، خرجت من الاطار المرسوم سلفاَ وقلت ها أنا هنا فاستقبلوني وأحبّوني، لم تكوني بحاجة لجواز مرور المحبة، فأنت تحملين في داخلك جينات الحب التي تتفتح ساعة بعد ساعة، يوم بعد يوم، شهر بعد شهر وسنة بعد سنة، ليصبح هذا الحب أكبر من الجميع، أكبر من كل شيء إلى حدّ ألتماس مع حكمة الخالق…

عهداً منّي يا ابنتي، عهداً مني يا زينبي، أنت التي أبكيتيني في البدايات…عهداً مني ان تزنّر أوقاتنا ونهاياتنا ألبسمات والضحكات، وان تتشابك أيادينا على درب الحياة دون خوف، دون خجل، دون تذمّر ودون التفاتة إلى الوراء…

أسميتك زينب وتضرّعت إلى سيّدة المؤمنات ان تحفظك وترعاك وتتدبّر أمورك…

واذا كانت زينب التاريخ شاهدة على الظّلم والدم والحزن ألكربلائي، فعهداً مني يا زينبي ألاّ أجعلك شاهدة الاّ على الحبّ والفرح والنغمات ألتي يصل صداها السماء…

انتهت

شاهد أيضاً

بري والحريري وسلام ووزراء ونواب وشخصيات سياسية وحزبية ونقابية ودينية من مختلف المناطق اللبنانية هنأوا العمال في عيدهم العالمي

إعداد وتنسيق مدير التحرير المسؤول: محمد خليل السباعي توالت ردود الفعل من شخصيات سياسية وحزبية …