السواء والاختلاف وزمن الكورونا ” كتاب يلخص تجربة حية للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى (11))

 

السواء والاختلاف وزمن الكورونا” كتاب للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى، التي سألت في مقدمة كتابها:

أو ليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟”

بلى يا دكتورة بهاء، ما كتبته جدير وجدير جداً بالقراءة..

لماذا؟

لأنك أستمديتي حبرك من نبض القلب،  وكانت حروفك دعاء صلاة. ولأنك ببوحك أخترقتي الروح ورفرفتي في فضاءات إنسانيتنا بإتزان الصبر وحولتي مشكلتك إلى إنتصار لم يكن لك شرف نيله لولا مجيء أميرتك “زينب” لتجعل ما تعلمتيه وتخصصتي به وما تدرسينه لطلابك فعل مقدس زاد من قدرتك وقدراتك، فأنتصرتي في الميدان ونلت الوسام الأعلى، مما جعلك في رتبة رفيعة ورفيعة جداً على الأقل أمام نفسك، رغم كل العذابات والآلام التي صهرتك، فكشفت عن نفاسة جوهرك، وكنت كل البهاء، كنت بهاء الأم الأمثولة الجديرة بالإحترام..

لن أكتب عن كتابك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا” لأنني بصراحة عاجزة أن ألملم مشاعري المبعثرة، وبالتالي أترك للقارئء أن يكتشف عطمة قدرات الإنسان عندما يكون إنساناً بالمعنى الرسالة الذي جاء إلى الجياة من أجل تحقيقها، فإما الفشل وإما النجاح الذي أنعم الله به عليك، فكانت تجربتك وكان كتابك الذي كلما قرأته أجد فيه مساحة جديدة من البلاغة والعفوية والمعرفة والثقافة والإنسانية المكللة بالعلم والصبر. التي سيلمسها القارئ جلية في تحفتك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا“…

فاطمة فقيه

الحلقة الحادية عشرة:

 

 

الكتابة في زمن الكورونا

 

وأخيرا وصل اللقاح إلى لبنان الذي كان يتهاوى تحت سياط اصابات ووفيات الكورونا، اللقاح – الأمل اصبح هنا بيننا ليتوزّع حسب الأولويات الطبية والصحية والعمرية، وليشيع جوا من التفاؤل بقرب انتهاء هذه الجائحة… وصول اللقاح أرخى بظلال اقتراب الفرج، حتى لو كان بعيد الأجل إلى ان يتسنى للعدد الأكبر من السكان الحصول عليه، وتأمين مناعة جماعية تقي بلدنا وناسه شرّ هذا الوباء، علينا ان ننتظر بعض الوقت لمعرفة النتائج، سنفعل حتما على أمل الانتصار على هذه الجائحة والعودة التدريجية لحياتنا الطبيعية، حياة الماقبل كورونا؛ ترى هل سنستطيع فعل ذلك والعودة إلى سابق عهدنا، إلى سابق عاداتنا وممارساتنا، إلى اللقاءات والسلامات، إلى ضمّ احبائنا وتقبيلهم، إلى مزاولة يومياتنا بشكل طبيعي في المكتب، في الجامعة، في المدرسة، إلى… إلى… إلى… إلى سابق حياتنا الأعتيادية والسوية!!!

اليوم تجوّلت ليلا في بيروت، كم هي حزينة هذه المدينة، الاقفال التام هو سيّد الموقف، العتمة مخيفة جدا فالتقنين الكهربائي على اشدّه، لا أحد في الشوارع، سيارات قليلة تنير هذا الظلام الدامس، الخوف يلامس مسامات جلدنا والمطر ينهمر بكاءاً على هذا المصير… كم تغيّرت احوالك يا أيّتها المدينة العصيّة على كل المصائب، وكم أحسّ بالانتماء اليك اكثر عندما تزداد مآسيك ويزداد نحيبك الصامت، فيزداد الشغف بك والتعلّق بأهدابك اكثر، يا أيتها الصابرة على جميع الذين خذلوك ويحاولون اذلالك وكسر هامتك التي تطال السماء…

فسحة الليل هذه وفي غفلة عن هذا الحجر الكوروني، بعثت في نفسي مشاعر متناقضة وأسرّت لي بهمسات مفادها ان بيروت هي الأبقى، هي الأجدى، هي الأبهى وانها ستنتفض على حطامها وسوف تكفكف دموعها لا محالة…

أكتب في هذا الزمن الكوروني، انها احدى ايجابيات هذا الحجر المنزلي، ان نبحث عن منافذ للهروب من الذات والى الذات، فمن بين هذه الايجابيات تواصل عائلي اكثر، وتواجد جميع أفراد العائلة معا والمشاركة في أعمال أو هوايات جماعية، ومحاولات استكشاف واحدنا للآخر وفي كافة الوضعيات، كذلك أظهر هذا الحجر ابداعات البعض من مواهب كانت كامنة وتنتظر الفرصة أو الوقت للظهور إلى العلن، من رسوم لوحات، كتابة شعر، تدوين مذكرات، حياكة بأشكال وألوان، اعداد أطباق وحلويات متنوعة، اما انا فقد شرعت بكتابة ما كنت قد خبّأته سنوات طوال أو ما كنت خائفة من البوح به حتى اليوم، وكأنني كنت أنتظر هذا الحجر منذ زمن، كي التفت إلى ذاتي وأخوض غمارها وأكشف النقاب عماّ كان مستورا وكامنا، وكأن هذه العجالة التي كنت أحيا فيها كان يلزمها ان تهدأ، ان تحظى بهدنة، ان تلتقط أنفاسها لمعاودة المسير من جديد، فأتت هذه الجائحة وأقعدتنا في منازلنا، في مواجهة انفسنا واعادة ترتيب الأولويات في سلّم حياتنا وقررت ان أكتب…

وكانت الكتابة في الزمن الصعب، ألزمن القاتل ليس فقط بالوباء، بل بكافة أنواع الفساد التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، وكنت اتساءل عن جدوى الكتابة اذن والكيان كله مهدّد بالاندثار والاضمحلال، الكيان النفسي- الوجودي الخاص، وكيان الوطن الذي تتخلخل أعمدته من الضربات المتتالية في السياسة والاقتصاد والمال والصحة وانفجار كارثي أطاح بما تبقّى لنا من أمل وعزم وايمان!!!

ولكنها هي، ابنتي زينب، المتواجدة معي على مدار الساعة واليوم في زمن الحجر الوقائي، هي التي أوحت لي بالكتابة والاستمرار في هذه الكتابة المتقطعة، على وقع الأحداث والمستجدّات المتسارعة والقابضة على أنفاسنا وأعصابناوما تبقّى لنا من قدرة على التحمل…ففي هذا الزمن الكوروني تعايشت مع ابنتي اكثر، حفظت تفاصيلها، شاركتها هواياتها، استرجعت ذكريات طفولتها ومحطات حياتها، حزنت لمللها واشتياقها للمدرسة، للرفاق، للأنشطة؛ رتابة الحجر كانت تكسره هي، باختلافها، بحركتها، بعفويتها، بتعليقاتها على الوضع الراهن، بمحاولات فهمها لمجريات الأمور، «سذاجتها» ربما كانت تنتشلني من عمق التفكير اللامجدي لما آلت اليه أحوالنا وعلى كافة الأصعدة، فكلمة أو التفاتة منها كانت كافية بأن تزيح عن كاهلي حملا، وتخفّف من ضغط التوتر الذي أضحى ملازما لنا، فوجودها يمنع عنا خطر الانزلاق في متاهات الاحباط واليأس والانهيار!!! وهكذا تحوّل «دور ومكانة» زينب بيننا، هي صارت المهدّئ والبلسم وكأنّ لسان حالي يقول «منيح اللي في زينب بهالبيت وبهالوجود!!!» فهذا الزمن اللامعقول الذي نحيا فيه، والذي انعدمت فيه كل مظاهر الأمان والاستقرار وراحة البال، والذي ما عادت عقولنا تفهم كنه ألغازه، لن يفلت من سطوته سوى هؤلاء الأفراد «ألبسطاء» ألمبتسمون دوما وأبدا، الخارجون عن ايّ قانون لا يحترم فرادتهم واختلافهم…

هذا لا يعني ان ابنتي لا تعاني من هذا الحجر الكوروني، فقدماها لم تطأ أرض مدرستها منذ اكثر من سنة وهذا بالنسبة لها القصاص الكبير، والبقاء في المنزل لفترات طويلة يعرّضها لتغيرات في المزاج، لسلوكيات عدائية، لأفكار وأفعال قهريّة لا تحلّ عنها الا اذا غافلنا هذاالحجر المنزلي، وقمنا بكزدورة بحرية تستمع فيها إلى الأغاني التي تحبّها على هدير أمواج البحر الزرقاء…

ابنتي لا تفهم بعلم السياسة ولا بلعبة رجال السياسة في بلدنا، ولا تفهم بأزمة «الدولار واللولار»، ولا تدرك الغلاء الذي ينهشنا، ولا تدري متى ستنتهي جائحة الكورونا، ولكنها تحزن لحزننا، فذكاؤها العاطفي والانفعالي يجعلها تلتقط ذبذبات مشاعرنا وتعي حالة القلق والضغط الذي يعترينا، أسمعها تقول: «ماما زعلانة» تسأل بعينيها وتحاول معرفة الجواب، «الزعل» طبعا موجود، فهو نتاج ارهاصات هذا المعاش والواقع اللاسويّين!!!

زينب في هذا الحجر الكوروني فقدت «خارطة الطريق»، فبوصلتها اليومية ما عادت تهديها سواء السبيل، وهذا ما جعل توافقها مع يوميات الحجر صعبا جدا في البدايات، ما لبثت ومع محاولاتنا ان استسلمت للنظام الجديد دون القبول به تماما، والمطالبة بالعودة إلى روتينها الماضي ويومياتها المقسّمة وفق أصول معينة…

زينب عانت وتعاني كما نحن ايضا، من كل هذه التغييرات المفروضة علينا من دون اي استعداد نفسي لها، فان كنّا نحن «الأسوياء» الذين نفهم خطورة الوباء والعدوى، ونلمس تدهور الأوضاع من حولنا لأسباب ملموسة ومعروفة، ونخاف على مصيرنا وبقائنا؛ محاولات فهمنا هذه لم تخفّف عنا جزعنا من هذا الحجر وتداعياته، فكيف لزينب ان تفهم وتقبل بهذه القيود؟؟؟

كم نحن منهكون، كم أرهقنا كل شيئ من حولنا، وهذا الحجر ترك بصماته علينا، وفتح الباب على صراع الداخل والخارج، هذا الخارج أصبح مخيفا ومرعبا فيما الداخل يفتح مكنونات النفس على اعماقها، تثار الأسئلة التي تبحث عن اجابات لها؛ داخل تشابكت فيه البدايات بالنهايات، نقف هكذا على مفترق الطريق، عين ترنو إلى الماضي القادر على استحضار نفسه بلمح البصر، وعين اخرى ترقب المستقبل المبهم بخوف، بأمل، وبحنين إلى الماضي ربما…

هذا الحجر المنزلي كسرالحواجز ما بين الأمس واليوم، سهّل استحضار الماضي وعرضه على بساط البحث… وهكذا شاءت الظروف ان تأتي الكتابة عن ابنتي ومشواري معها برفقة جائحات عدّة ضربت الوطن وهزّت أركانه، وصرت أرتعب من انّ أتحوّل من شاهدة على ولادة ابنة «مختلفة» إلى شاهدة على موت وانتحار وطن؟!؟…

… يتبع

شاهد أيضاً

جائزة أفضل صورة صحفية في العام… لقطة من غزة “تفطر القلب”!

فاز مصور “رويترز”، محمد سالم، بجائزة أفضل صورة صحفية عالمية لعام 2024، الخميس، عن صورة …