“مادلين وريموندا”

والربوات الثلاث

(الأنانية المفرطة وتداعياتها)

قصة قصيرة للأديب أحمد فقيه

لم يبق من عائلة الفراجيلي بعد الأحداث الأخيرة سوى فتاتين “مادلين وريموندا”، وهما إبنتا عم، حفيدتا سليلي العائلة شاكر ورستم. مادلين تخطَّت الأربعين من عمرها، أما إبنة عمها فتصغرها بحوالي عامين، وقد آثرت كل منهما العيش منفردة دون زواج وذلك بسبب عدم استساغتهما للإنجاب وتربية الأطفال.

كانت العائلة تمتلك منطقة جبلية مع مجموعة من المزارع الشاسعة وثلاث ربوات في الوسط تطل على ساحل البحر شمالي مدينة بيروت. أختارت كل من الفتاتين ربوة من الربوات الثلاث وبنت عليها قصرًا تقيم فيه مع خدمها وحاشيتها، وكان الإختيار عشوائيًا خاليًا من أية أطماع أو ميول.

لقد كان من الواضح لمن يريد التدقيق، والتمحيص أن ريموندا الصغرى كانت موفقة بإختيار موقع قصرها الذي كان يحتل مساحة شاسعة على قمة الربوة التي تسمى تلة رأس العين، وهي تتمتع بمناظر خلابة إضافة إلى البحر الذي ينبسط أمامها حتى الأفق، وبينها وبين السهل الساحلي عدة أكمات تكسوها أشجار الصنوبر، أما قصر مادلين الكبرى، فلم يكن أقل سحرًا وفتنة من قصر إبنة عمها، إلا أن الربوة المقام عليها تقل إرتفاعًا بعض الشيء عن ربوة ريموندا، لم تفطن مادلين لهذا في باديء الأمر، إلا أن بعض الزائرات لمحَّ لهذه الملاحظة من طرف خفي مما جعل مادلين تمتعض بعض الشيء وإن لم تُظهر ذلك.

أما ريموندا فقد كانت تنتابها موجات من الخيلاء والشعور بالنصر لهذا التفوق الذي لم يكن يعني لها شيئًا في البداية والذي سيق إليها دون جهد يذكر. ولكن بعد أن لاحظت إعجاب صديقاتها في ذلك وثناءَهن على ما قامت به، بدأت تنظر إلى الأمر بمنظار مختلف يتخلله شعور بالسعادة والغبطة. بقيت ريموندا على هذه الحالة مدة من الزمن لا تفكر إلا بما تميزت به من تفوق وشموخ، حين لفت إنتباهها ما يثير سخطها ويعكر صفو عيشها، ففي إحدى الأمسيات، بينما كانت تجلس مع بعض الأصدقاء على الشرفة، لاحت منها إلتفاتة إلى أسفل الوادي المقابل حيث شاهدت عدة أكواخ منتشرة هنا وهناك، فساءها المنظر وكتمت الأمر في نفسها.

في صبيحة اليوم التالي، قصدت ريموندا ذلك المكان وهي تركب حصانًا، وإلى جانبها خادمها. أندهشت جدًا للحالة المزرية التي يعيشها أولئك الفقراء، وعادت إلى قصرها وهي تفكر بطريقة ما لهذه المشكلة. قررت بينها وبين نفسها أن تشتري المنطقة التي يقيمون عليها، وتدفع لهم ما يريدون، وتساعدهم كذلك على حل مشاكلهم قدر استطاعتها. ولهذا طلبت من مدير شؤون القصر أن يبحث عن كبير هذه الجماعات ويعود به إذا أمكن. وفعلًا، عاد الرجل ومعه “أبو حازم الكَرماني” الذي يعتبر المتنفذ وصاحب الرأي بين تلك العشائر.

لم يدم اللقاء طويلًا، إذ بعد فترة من الترحيب وتناول القهوة، قالت السيدة:

  • إني أحتاج الأرض التي تقيمون عليها، وأنا مستعدة لدفع أي مبلغ تطلبونه ثمنً لها.
  • إذا ارتبط الإنسان بأرض، يصعب عليه التخلي عنها لأنها تصبح جزءًا من كيانه. وأنا لا أعتقد أن أحدًا منا سيكون راضيًا بما تطلبين.
  • أنا أريد لكم الخير، إني أفكر بإقامة مشروع كبير هنا. وبإمكانكم أن تتعاونوا معنا في هذا الشأن فنوفر لكم العمل. وبهذا تتحسن أحوال معيشتكم وسنعطيكم من المال ما يسمح لكم بشراء أرضٍ أخرى وبناء مساكن أفضل من تلك التي تقيمون عليها حاليًا.
  • نحن راضون بوضعنا، وبإمكانك إقامة المشروع على الأرض التي تقترحين علينا شراءَها، وبهذا يمكننا العمل معك ومساعدتك كذلك، وتبقى أرضنا لنا.
  • على أية حال شكرًا لكم، وسنفكر بالأمر.

وخرج الرجل وبقيت السيدة تفكر..

أما مادلين فقد أحست بغبن وأمتعاض شديدين عندما تبين لها ما كان غائبًا عنها، وهو أن تكون إبنة عمها ريموندا أفضل منها حظًا بإمتلاكها لتلك الربوة التي تعلوها وتشرف على قصره، وخاصة أنها هي الأكبر سنًا وتعتبر نفسها أحق بإمتلاك تلك الميزة. وأخيرًا هداها تفكيرها إلى حل يخرجها من الدوامة التي وضعت نفسها فيها. كان لا يزال هناك الربوة الثالثة، وهي تلة “عين الغزال” التي تعلو الربوتين الأخريتين. لقد قررت أن تبنى على تلك الربوة قصرًا لها، وبذلك تصبح أعلى من ريموندا، وما كادت مادلين تباشر أعمال البناء في تلة “عين الغزال” حتى نشبت حرب ضروس  بينها وبين إبنة عمها. ودامت الحرب سنوات عديدة حتى كادت أن تقضي على كل شيء.

لم تسلم العشائر المنتشرة على أطراف الأودية هناك من شظايا الحرب مما دفع بها إلى البحث عن مخرج لهذا الوضع، وقع الإختيار على أبي حازم الكِرماني الذي طلب منه العشائر أن يفعل شيئًا لإيقاف الحرب ووضع حد لها. فذهب الكِرماني إلى مادلين الكبرى، وقال لها:

  • أليست تلة “عين الغزال” لكما أنتما الأثنتين معًا؟
  • بلى.
  • إذن لا يحق لأي منكما الإنفراد بها دون مشاورة الأخرى.
  • ولكن أنا الكبرى ويحق لي أن أفعل ما أشاء.
  • كلا، هذا لا يعطيك الحق ما لم توافقك عليه إبنة عمك.
  • أبي وعمي كانا دائمًا يوكِلان إليَّ تصريف الأمور.
  • قد يكون ذلك أثناء وجودهما، ولكن الآن الأمور تختلف.
  • كيف؟!
  • لا تستطيعين أن تفعلي شيئًا بهذا الخصوص دون موافقة إبنة عمك.
  • ما العمل في رأيك؟!
  • أرى أن تقسما الربوة، ثم تعمل كل منكما ما تريد بنصيبها.

تراءى لمادلين أن الأمر سهل، فطلبت من الكِرماني التوسط بينهما على هذا الأساس.

عرض الكِرماني الفكرة على ريموندا فقبلت كذلك ظنًا منها أن الأمر يمكن تجاوزه بسهولة.

فُوض الكِرماني بإجراء عملية مسح وتقسيم الربوة إلى قسمين متساويين تمامًا. وعندما طلب من كل من صاحبتي الشأن أن تختار الجهة التي تريد، وقع خلاف آخر على ذلك. إذ كل منهما أرادت نفس الجهة وهي المقابلة للبحر من جهة الغرب. فأعيد تقسيم الربوة شمالًا وجنوبًا، وهذا لم يحل المشكلة كذلك، إذ أصرّت كل من السليلتين على إمتلاك القسم الشمالي، وهنا أُسقط في يد الوسيط، الكِرماني ولم يعد بإمكانه فعل شيء.

وعادت الحرب الطاحنة بين الطرفين وأستمرت سنوات عديدة أخرى، أتت نيرانها على الأخضر واليابس، ولم يسلم من شظاياها طرفا النزاع نفسهما، فقد قضت ريموندا نحبها إثر عملية إغتيال مدبرة، أما مادلين التي كانت تعاني من إصابة شظية في صدرها، لم تستمر طويلًا، إذ لحقت بإبنة عمها بعد ثلاثة أشهر فقط.

دارت الأيام، وأستصلحت العشائر الأراضي في تلك المناطق الجبلية بعد أن تقاسمتها فيما بينها وأقامت عليها المباني الحديثة والمزارع المتطورة، فغدت خضراء يانعة يؤمّها السياح والمصطافون من كل جهة وعمد أحفاد الكِرماني إلى ترميم قصري كل من مادلين وريموندا وتحويلهما إلى متحفين يحكيا قصة صاحبيتهما وما مرَّ على المنطقة من أحداث وتطورات. وقد وضعوا لوحة على باب أحد القصرين كُتِبَ عليها:

“ربَّ صلفٍ أدى إلى تَلَفٍ”، وعلى باب القصر الثاني كُتِبَ: “الشرُّ وإن طالَ، مصيرة إلى زوال”.

شاهد أيضاً

أحجية الإنسان في ما يريد

بقلم الأديب أحمد فقيه حاجة الإنسان للعبور وجد الإنسان نفسه في هذه الدنيا وهو لا …