“السواء والاختلاف وزمن الكورونا ” كتاب يلخص تجربة حية للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى (1)

 

 

السواء والاختلاف وزمن الكورونا” كتاب للأستاذة الجامعية الدكتورة بهاء يحيى، التي سألت في مقدمة كتابها:

أو ليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟”

بلى يا دكتورة بهاء، ما كتبته جدير وجدير جداً بالقراءة..

لماذا؟

لأنك أستمديتي حبرك من نبض القلب،  وكانت حروفك دعاء صلاة. ولأنك ببوحك أخترقتي الروح ورفرفتي في فضاءات إنسانيتنا بإتزان الصبر وحولتي مشكلتك إلى إنتصار لم يكن لك شرف نيله لولا مجيء أميرتك “زينب” لتجعل ما تعلمتيه وتخصصتي به وما تدرسينه لطلابك فعل مقدس زاد من قدرتك وقدراتك، فأنتصرتي في الميدان ونلت الوسام الأعلى، مما جعلك في رتبة رفيعة ورفيعة جداً على الأقل أمام نفسك، رغم كل العذابات والآلام التي صهرتك، فكشفت عن نفاسة جوهرك، وكنت كل البهاء، كنت بهاء الأم الأمثولة الجديرة بالإحترام..

لن أكتب عن كتابك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا” لأنني بصراحة عاجزة أن ألملم مشاعري المبعثرة، وبالتالي أترك للقارئء أن يكتشف عطمة قدرات الإنسان عندما يكون إنساناً بالمعنى الرسالة الذي جاء إلى الجياة من أجل تحقيقها، فإما الفشل وإما النجاح الذي أنعم الله به عليك، فكانت تجربتك وكان كتابك الذي كلما قرأته أجد فيه مساحة جديدة من البلاغة والعفوية والمعرفة والثقافة والإنسانية المكللة بالعلم والصبر. التي سيلمسها القارئ جلية في تحفتك “السواء والاختلاف وزمن الكورونا“…

فاطمة فقيه

الحلقة الأولى:

 

الاهداء

إلى روح أختي الغالية نداء…

إلى حيث أنت في عليائك

​​رسائل حب وامتنان من

​​​تلك الطفلة التي أسميتها يوماً

​​​​​«الامبراطورة» زينب


توطئة

هو كتاب الجميع، يحمل بين ضفّتيه بعض العلم، بعض الحقائق، بعض المشاعر، بعض الأفراح، بعض الأحزان ولكن الكثير من الصدق والواقعية والأمل.

هو أنا وهم وأنتم، هنا وفي كل الأمكنة، الآن وفي كل الأزمنة، هو ذاته الانسان في خيره وشره، في ماضيه ومستقبله، في سوائه واختلافه… ولكن مع جائحة الكورونا التي هزّت أركان الكرة الأرضية وضربت مجتمعنا اللبناني المثخن بجراحاته، بشكل أو بآخر.

هو كتاب للأم والأب والأخ والأخت والأسرة جمعاء، هو للصديق، للمعلم، للطبيب، للطالب والاختصاصي منه في علم النفس، ولمن يشده العمل الانساني وبالأخص مع ذوي الاحتياجات الخاصة أو الارادة الصلبة.

هو كتابي أنا، نتاجي، ابني الثاني بعد طول انتظار.. هديتي إلى أختي التي غادرتنا باكراً، والى ابنتي ملهمتي، التي أدعو لها بطول البقاء…

هو كتاب ستقرأونه بسهولة واهتمام وشغف، وأعتقد انه سوف يلامس الداخل، الجوانية، الأعماق الدفينة فينا مع فسحة أمل وبقعة ضوء…

أوليس ما أكتبه جدير بالقراءة؟؟؟

السواء والاختلاف

الأنا والآخر

كان لا بدّ من الكتابة، منذ زمن وشيئ ما يختلج في داخلي ويبحث عن منفذ، عن ضوء، عن نسمة هواء تحرّك ما هو جامد وقابع فيه… ربما كان يلزمني كل هذا الوقت كي أقف على حافّة الذات، كي أقف على الحدود، حدود ألداخل والخارج، داخل ذاق المرارة حتى الثمالة وخارج يختال باللامبالاة والهباء… أو ما شابه…

صعب حقاً أن تكتب عن ذاتك، عن تجربتك الشخصية، ان تعرّي نفسك ربما لاظهار الحقيقة وربما لاشباع شعورك بأن الآخر عندما يشاركك الوجع، تخفّ وطأته…

ليس المقصود من هذا الكتاب، عرض علمي موثّق لعالم الاعاقات، هذا العالم الذي كتبت فيه العديد والعديد من الكتب والأبحاث والمجلات باسهاب وبأدقّ التفاصيل عن الأسباب والأعراض والمراحل وسبل العلاج ان كان ثمة علاج!!!

ما سوف تقرأونه هو فيض من معاناة، هو رسم بالكلمات لمشوار حياة نصفها حلو ونصفها مرّ…

تعالوا نسترجع معاً صفحات من حياة لها بصمتي الخاصة ولكن أيضاً لها بصمات جميع الذين مرّوا بوضعيات مشابهة…

ولادة الطفل هي اللحظة المنتظرة لمخاض طويل، ترافقها حالات انتظار ووساوس وخوف وتوجّس وفرح أيضاً… هذه اللحظة ستتغير فيها حيوات عدّة، هي لحظة قد تقلب الأمور رأساً على عقب، لذلك اكتسبت اللحظة هذه، الهالة الوجودية تأكيداً لمعجزة الخلق من جهة، وحمداً للّه على ولادة بعيدة عن الشوائب… ولذلك تشخص العيون وتتسارع دقات القلوب ونتسمّر خلف الباب بانتظار سماع عبارة: «الحمد للّه، كلو تمام…»

ما قبل ولادة الطفل ليست كما بعدها حتماً، وذلك على كافة الأصعدة، فكم بالحري اذا كانت ولادة ستترك بصماتها المختلفة على المولود الجديد والوالدة والعائلة جمعاء مدى الحياة؟!!

 

الآخر المختلف: أنا هنا

تشكّل هذه الكتابة نوعاً من التحدي الشخصي لي، لأنها نابعة من تجربة انسانية ملأى بكافة التناقضات الوجدانية والتساؤلات المفتوحة على أنواع شتّى من الأجوبة…

من السهل بمكان ما على أيّ فرد ان يحكي عن الآخر، ان يقول عنه، ان يتناول تاريخه ومعاشه ومستقبله، ان يغوص في لاوعيه واوالياته الدفاعية، ويحاول استكشاف خباياه النفسية، إذاً كان يمتلك المقوّمات العلمية لذلك، ولكن حتماً من الصعوبة البالغة أن تحكي عن ذاتك وعلى الملأ، أن تعرّي نفسك، أن تكشف نقاط ضعفك، أن تنفصل عن تجربتك الشخصية ليشاركك الآخرون بها، وخاصة إذا كانت بصمات هذه التجربة راسخة، لاصقة، لا تمحى..

حدث ذلك منذ حوالى ثمانية عشر عاما، سنة ولادة ابنتي التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر وبكل الحب، فإذا بها تقدم على هذه الدنيا متلازمة مع حالتها التي يطلق عليها اسم down syndrom أو trisomie21 أو تثلّث الصبغية (خلل كروموزومي يؤدي إلى تأخر على كافة الأصعدة: العقلي، اللغوي، الحسي- الحركي وبعض الأمراض الجسمانية و…..) صدمتي حينها كانت كبيرة وأعراضي واضطراباتي أيضاً والتي تتغير معالمها مع مرور الزمن والأيام..

لن أغوص وايّاكم في بطون الكتب والأبحاث والدراسات النظرية المتعلقة بالاعاقات وذوي الاحتياجات الخاصة، ولن أستعرض معكم اسماء العلماء والدارسين في هذا المجال وهم كثر… ولكنني أدعوكم معي في رحلة للابحار داخل هذا اليمّ الانساني، الذي تتلاطمه الأمواج احياناً كثيرة، ليخلد إلى السكون أحياناً أقل…

سأحاول جاهدة ان أجاهر بمكنوناتي الدفينة وما اعتراني من مشاعر وانفعالات، وما طرأ على سلوكي من تغييرات منذ اللحظة الأولى لمعرفتي بالحقيقة… سأحاول أن اقول، أن افصح عما كان مكبوتاً لأنني لم أكن أمتلك الجرأة لقوله.. كتابتي هذه تساعدني على استحضار ذاكرتي واسقاطها، كي أزيح حملا عن كاهلي، وكي اسطّر بكل صدق وواقعية معاشي منذ سنوات وحسب تعاقب زمني متسلسل…

في اليوم الأول لدخول ابني المدرسة ولم يكن قد تجاوز بعد الثلاث سنوات، أنجبت ابنتي التي كنت أعد نفسي بها وأتحضّر لاستقبالها، فهي ستكون الأخت التي لن تترك مجد (ابني) وحيداً في هذه الحياة وستقاسمه أفراحها وأتراحها، وهي الابنة التي رسمت لها في خيالاتي صوراً، وزيّنت لها مسارات الحياة في المستقبل كما تحلم ايّ أم بل وربما أكثر!!! علمت بحقيقة ابنتي بعد ولادتي لها بساعات، ردة فعلي كانت مشوشة (كنت لا أزال تحت تأثير تخدير العملية القيصرية)، بكيت بالطبع كثيراً وطلبت رؤيتها فوراً، أتوا بها إلى غرفتي، كانت جميلة وهادئة كالملاك ولا شيء يوحي بأنها لن تكون مثل الأخريات!؟! وفي المساء علمت من الأطباء أنها يجب ان تنقل إلى مستشفى آخر لاجراء عملية جراحية دقيقة طارئة لها، وكانوا بانتظار ردنا لتقرير ما يجب فعله… صرخت: اريد لطفلتي ان تعيش، فأنقذوها وأسرعوا بنقلها واجراء اللازم.. وهكذا لم تنم ابنتي الليلة الأولى معي، تركتني أصارع آلامي وأعتصر احزاني ولا أجد الجواب على سؤالي: لماذا، لماذا، لماذا أنا؟؟؟

في الصباح الباكر من اليوم التالي تلقيت اتصالاً من المستشفى الذي نقلت اليه ابنتي يطالبونني وبكل «فجاجة» باعطاء اسم لهذه الطفلة التي أجريت لها العملية!؟ للحظات استعرضت في ذاكرتي لائحة من الأسماء التي كنا قد اخترناها للاستئناس باسم مناسب لابنتنا (ناي، آية، نغم، جود، مدى، غنى، حلى، تاج…)

ولم نختر بالتالي أي اسم وأرجأنا الأمر لما بعد الولادة… فجأة سقطت كل هذه التسميات وقلت لهم على الهاتف: ابنتي سيكون اسمها زينب!! وكأنني بلحظة اجتاحني اللاوعي الجماعي، واستحضرني الموروث الشعبي الشيعي، وكأن لسان حالي يقول: «وازينباه، يا أيتها ألصابرة على الظلم والألم، يا نصيرة الضعفاء، يا سيّدة المؤمنات، هذه ابنتي قد أسميتها باسمك المبارك، فتدبري أمرها، وانقذيها وساعديني…».

أيامي في المستشفى مرت مثقلة بالسكوت والآلام والبكاء، حاول الأهل جاهدين مساعدتي على تخطي ما أعانيه، اللحظة الحرجة والصعبة كانت عندما حان وقت مغادرة المستشفى، لم أشأ ذلك، فهذا المكان صار يشكّل لي نوعاً من الحماية، اذ كنت خائفة من مواجهة الخارج، مواجهة الناس الذين سوف يسألون ويسألون…هنا، كنت قد اعتدت على الطاقم الطبي الذي كان يرعاني باشفاق وكنت أتقبل ذلك، أما الخارج، هناك، فهو المجهول الذي أخافه…

غادرت دون ابنتي إلى منزل أهلي حيث كان الجميع بانتظاري، اخوتي أتوا من السفر لمؤازرتي في مصابي- (طبعاً كان مصاباً حينها)- ومساعدتي على تقبّل واقعي الجديد.. كنت قد أربكت الجميع بولادتي هذه، وهذا ما كان يزيد من مشاعر الذنب لديّ، وكلّ على طريقته حاول التخقيف عني، ودعمي نفسيا، ورفع معنوياتي والشدّ من أزري…

عادت ابنتي بعد حوالى الأسبوعين من ولادتها وكانت محطّ اهتمام ورعاية الجمبع إلاّ أنا!؟!

كنت عاجزة عن القيام بمسؤولياتي تجاهها، كنت كلما أرنو إلى وجهها الجميل-البريء، أرى المستقبل قاتماً وأنفجر بالبكاء سخطاً على قساوة القدر… كنت كالزّجاج المهشّم من كل الأطراف لكنه لم ينكسر…ما ساعدني على الاستمرار والحفاظ على توازني نسبياً هو ابني، كنت لا أحتمل نظرات الحزن في عينيه، كنت قد وعدته بمولود جديد، بفرح جديد، بحياة جديدة نتقاسمها سوياّ، فاذا به محاصر بالريبة وبحركة غير اعتيادية.. حاولنا قدر الامكان ابعاده عن التأثيرات والأجواء المشحونة وافهامه بما تحتمل سنواته الغضّة من قدرة على الاستيعاب…ابني مجد، كان عزائي وملاذي، ولا أخفي أنّ توظيفي العاطفي عليه كان ضاغطاً وربما خاطئا ولكن هكذا كان الواقع، وما كنت بقادرة على لعب الأدوار حينها لدرء الأخطار…

الأقارب، الأصدقاء والزملاء كانوا معي، كنت أصغي لما يقولونه، لما يسردونه من أحداث وحالات لمساعدتي على التحلي بالصبر والتسليم بقضاء الله وبحكمته، كان حضورهم ينتشلني من أحزاني ووحدتي لفترة الاّ انني كنت دائماً في حالة من الرفض واللا قبول لما جرى لي ولما سينتظرني!؟! أكثر ما كان يفاجئني في حضور الناس وأحاديثهم هو هذه المسحة الايمانية التي كانت تغلّف ما يقولونه، لدرجة أنني كنت أتساءل من أين هبط هذا الايمان عليهم فأنا لا أعهدهم كذلك… أدركت بعدها أنّ لكلّ منا ايمانه الخاص الذي يساعده على تخطي المحن والصعوبات، والتي لا يبوح بها في أحيان كثيرة لأحد… أما أنا، فقد كنت قد نسجت ومنذ زمن بعيد حالة من التواصل الخاص مع الخالق شكّلت صمّام الأمان لي، وفي محنتي هذه وبالرغم من كل عذاباتي، كنت اصرّ على انه من المستحيل ان يتخلى ربّي عنّي، هذا الاحساس كان بالفعل يهدّئ من روعي ويساعدني على تقبّل قدرية وضعي، إلا أنّ أسئلة عديدة راودتني ولا تزال، وأطرحها على نفسي من حين لآخر من دون أن أجد الجواب الشافي عليها:

ماذا لو عرفت مسبقاً وعبر الفحوصات الطبية اللازمة اثناء حملي، بوضع ابنتي الذي ستكون عليه لاحقاً، هل كنت لجأت إلى الاجهاض والتخلّص من الجنين؟ لا أدري…

ماذا لو بقي ابني وحيداً في هذه الحياة؟ هل كان ذلك أفضل له؟ أو أن يكون أخاً لأخت لها احتياجاتها الخاصة مدى العمر؟ ايضاً لا أدري…

ماذا لو كانت ابنتي حقاً نعمة من عند ربي، ومصيري من بعدها الجنة كما يقال في المأثور الشعبي، أو كانت نقمة وعقاباً لي على أمور قد أكون اقترفتها سابقا؟؟ فأيّ مسار تراني أعتمد؟ أيضاً وأيضاً لا أدري…

مجموعة اللا أدري هذه، ترى هل تعتقدون أنني قد أتوصّل للاجابة الشافية عليها يوماً ما؟؟؟

وهكذا مرّت الأيام مثقلة، كنت أمضيها بالنوم والبكاء، لا أستطيع رسم ايّ خطّة للغد، وبعد مرور حوالى الشهرين من اقامتي عند اهلي استوقفتني امي ذات يوم قائلة: إلى متى ستبقين هكذا؟ فوقي لنفسك، قومي بواجباتك واهتمي بابنتك…وكانت صرختي المدوّية حينذاك: ابنتي؟ لا تشبهني، لا أستطيع ان أحبّها ولا أريد ان أشفق عليها… ساعدني الجميع على استعادة هدوئي، وبدأت بلملمة ذاتي وأغراضي للعودة إلى منزلي وكانت أيضاً المحطة الأصعب.

شعور بالغربة واللا انتماء ظلّ ينتابني لعدد من الأيام، كانت خلالها كلّ الأشياء والأغراض تستثير نوبات البكاء لديّ (من سرير ابنتي، إلى ثيابها الزهرية، إلى هدايا مولدها التي لم توزّع، ولا تزال حتى الآن كما هي شاهدة على فرحة لم تكتمل فصولها..) كلّ هذا وعلييّ ان أحفظ البسمة على وجه ابني والردّ على تساؤلاته التي كانت تزداد يوماً بعد يوم…كنت أنتظر المساء كي أخلد لنفسي وكنت أتضرع كلّ ليلة ان يمدّني الرّب بنعمة الصّبر والقدرة على الحب…

كنت لا أريد معاودة عملي وغير قادرة على ذلك أصلا، فكيف لي ان أحاضر بالطفولة ومراحلها واشكالياتها الآنية والمزمنة وأنا طفلتي، مولودتي الجديدة ستحمل مشكلتها مدى الحياة، كنت لا أريد البقاء في وطني وفكّرت في الانتقال والسفر إلى الخارج، كنت أبحث عن الهرب إلى فضاءات أخرى، إلى أماكن لا يعرفني فيها الاخرون، كي أستجمع ذاتي المبعثرة، والمفارقة أنّ محيطي ما كان ليعارضني، بل كان يحاول جاهداً اجتياف ثورتي ونقمتي في اطار معالجة اضطراب ما بعد الصدمة!!! هذه الاحاطة ساعدتني حتماً على «ألاّ أجنح» بسلوكي وأثبت اكثر في مكاني… وكان لا بدّ للحياة ان تستعيد مجراها الطبيعي، فعدت لمزاولة مهامي (مع مساعدة الزميلات والزملاء حينها) ومحاولة استئناف الحياة اليومية بشكلها الاعتيادي ولكن بغصّة يصعب ابتلاعها…

إحدى الزميلات قالت لي يوما: «أتبكين لأنه لديك طفلة مختلفة؟ أنظري من حولك، فمعظم الناس مختلفون؟!» نعم أبكي، لأنّ ابنتي لم تأت على مستوى حلمي وتوقّعاتي، لم تدغدغ نرجسيّتي كأم، لن تكون مرآتي، ولن تكون حتماً صورة عن أمها كما أفاد كثيرون، ممّن لم يعرفوا شيئاً عن حالي…أبكي لأن موضوع الاعاقة، كنت أعتقد أنّ بيني وبينه بحار لا بل محيطات وأنّه يصيب الآخرين فقط، تذكرت كيف انني وخلال دراستي الجامعية وفي اختصاص علم النفس، كنت ابتعد عن كل المواد الدراسية المتعلقة بالاعاقات ولا اختارها، لا أريد أن افهمها، لا أريد أن أتعاطى مع أصحابها، فأنا لي عالمي وهم لهم عالمهم وكم كنت مخطئة؟!؟ الآن وبعد سنوات عديدة اصبح عالمنا واحداً… ترى أهذه لعبة القدر؟؟ يصدمنا بأشياء ما كنا لنتوقعها، كمن يوجّه لنا الصفعة واحدة تلو الأخرى، وكأننا كنا في حالة سبات قبلها… فكم كانت حياتي هانئة في السابق – بالرغم من كل المطبّات- مقارنة بما آلت إليه… وكأنني ما كنت أعي قيمة هذه الحياة، قيمة الأشياء التي امتلكها، قيمة اللحظات السعيدة التي اعيشها، قيمة الأحبّة الذين أحيا معهم، قيمة الصحّة التي هي أكبر ثروة ممكن ان يمتلكها انسان، وأغلى تاج ممكن ان يتوّج رأس ايّ منّا… كلّ هذا كنت امتلكه دون ان أعيره أي اهتمام وكأنه من بديهيات الأمور أو من المسلّمات لا بل وأحياناً كثيرة يكون التّذمر سيّد الموقف؟!؟

الآن أقول كم كنت غبيّة، كيف أنني لم اقدّر تمام التقدير كلّ ما وهبني اياه الله، كيف أنني كنت ألهث للكمال فيما كل الأشياء إلى زوال… الآن انفشعت الرؤيا، زالت الغمامة عن عيني، صرت أرى بوضوح أكثر وكأنه كان لزاماً عليى ان أتلقّى صدمة كهذه كي أستفيق على أمور كثيرة، وكي أتبنى وجهات جديدة في الحياة…لا أعتبر قولي هذا نتاج يأس ما، فمرحلة اليأس اعترف أنني قد مررت بها وأعتقد أنني قد تخطّيتها…فأنا الآن أعتمر لباس النضج والمسؤؤلية أكثر، وربما يتوجّب عليّ فعل ذلك كي أستطيع المتابعة والاستمرار والنجاح في الخطوات المفروض القيام بها…

ألعلاج والمشوار الصعب بدأ مبكراً، ثلاث عمليات جراحية خضعت لها ابنتي قبل بلوغها التسعة اشهر من عمرها، وكانت في كل مرّة تلامس الموت، وفي كل مرّة كان السيناريو يعاود نفسه في استحضار اللحظة الأولى للولادة بكلّ انفعالاتها وهواجسها، وسرّ الوجود، والعلاقة ما بين الحياة والموت، حالة الاستشفاء هذه كانت تزيد من احتقاني النفسي، من وضع التجاذب الوجداني الذي كنت أعيشه، ما بين التعلق العاطفي بابنتي أكثر، أم الاستمرار في حالة الانسحابية وعدم الامساك بزمام الأمور وتسليمها للقدر!!!

حتى هذا اليوم ربما، ما زلت لا أتقبّل تصنيف ابنتي ضمن فئة معينة من الأشخاص… أتعامل معها كحالة خاصة بي، بحاجة إلى الكثير من الاهتمام والرعاية والأخذ بيدها، مشوار المتابعة هذا بدأ أيضاً منذ الأشهر الأولى من عمرها، من أخصّائيي التدخل المبكر، إلى العلاج النفس-حركي إلى العلاج الأنشغالي وتقويم النطق… خبرات كثيرة اكتسبتها مع ابنتي، فقد اصبحت ملمّة في معظم هذه الأختصاصات، مع ممارسيها ومراكزها ومؤسساتها ولا يزال بانتظاري الكثير في مشوار حياة ابنتي… وهذا المشوار صعب جداً في وطننا، في بلد متخلّف يشير بيده اليك – بالرغم من محاولات مواكبة التطور هنا أو هناك –!!! اذ كان عليّ ان أتدثّر بجلد التمساح كي أبعد عني كل ما من شأنه ان يعيق مسيرتي مع هذه الطفلة المختلفة…

عندما خطت ابنتي خطوتها الأولى (وفي سن متأخرة طبعا) فرحنا، وعندما نطقت أوّل كلمة هلَّلنا، وعندما ذهبت إلى الحضانة لتصادق اطفالاً أسوياء كان يوم العيد لدينا، وفي المدرسة العادية والتي تعتمد نظام الدمج قضت ابنتي يضع سنوات ولكن للأسف دون نتائج ايجابية كما كان هدفي، لتستقر لاحقاً في مدرسة خاصة بها وبأمثالها يلقون العناية الخاصة بهم وفق احتياجاتهم وقدراتهم ومهاراتهم…

زينب – الطفلة كانت وديعة جداً وقريبة من القلب، ونظراتها كانت تختزل العديد من الرسائل وكأنني اسمعها تقول وأنا أضمّها إلى صدري: لا تؤاخذينني يا أمي، ان سببّت لك كل هذا الألم فأنا أحبك وأحبكم جميعا…

اليوم لديّ ولدان في عمر المراهقة، لكلّ منهما عالمه الخاص ومتطلباته ايضا، وليس يسيراً أبداً معايشة عالمي السواء والأختلاف معاً وفي الوقت عينه، فتصبح كمن يسير في حقل من الألغام، يتلمّس خطواته جيداً مخافة أيّ انفجار قد يحصل لأية خطوة عاثرة…

معه أناقش أمور الحياة ومشاكل الدنيا، أتابع دراسته الجامعية ونتحضّر للحياة المهنية، أراقب اهتماماته وصداقاته، أرصد مشاعره وانفعالاته وتغيّرات المزاج لديه، أساعده على التعبير و تفريغ مكبوتاته (لأنه حتماً له معاناته الخاصة)، وأحاول ان اخفّف من غلواء عاطفته تجاه أخته ليسير في مشوار حياته قدما، (فهو يحبها كثيراً ويحنو عليها أكثر ويراها أجمل أخت في الكون!!!)، ونسعى إلى التذليل من وطأة الشعور بالواجب لديه نحو أخته مستقبلاً، وافهامه بأن هذا من مسؤوليتنا نحن الأهل اي الأم والأب..

معها، أعود إلى مرحلة الطفولة، أرسم وألوّن، ألعب بألعابها البسيطة، نغني سوياً ما استطاعت حفظه من أغان وترنيمات، نركب دواليب الهوى في مدن الملاهي، نزور الأماكن التي تحبها سوياً ونرتاد المقاهي والمطاعم- وجهتها الأحب – ونبني قصوراً على رمال الشواطئ…

ما قبل زينب – ابنتي- وما بعد زينب، حياتي قد تغيرت، جرح عميق أصابني، يصعب التئامه مع الزمن…ولكنني أحاول تضميده، وعلى الصعيد الشخصي ألمس أنني قد اصبحت أكثر تسامحا، أكثر تقبّلاً للحياة بكافة وجوهها وتقلباتها، وأكثر ايماناً بما يخفيه القدر لنا من مفاجآت، وأكثر عشقاً لعمري ربما، لأنني اذا متّ أخجل من دمع ابنتي!!!

السواء والاختلاف، هي مفاهيم ربما بسيطة من حيث ألقاموس اللغوي، ولكن كم هي معقّدة في المعاش اليومي، ولا يمكن لأحد سبر أغوار هذين العالمين ما لم يعايشهما فعلاً، فالاختلاف ليس عالماً نظرياً أو افتراضياً بحيث نقول: يجب ان نفعل هذا وألاّ نفعل ذاك… بل هو غوص في التفاصيل اليومية الدقيقة، والمملّة جداً أحياناً، والمتعبة أكثر أحياناً أخرى كي نصل إلى تحقيق هدف ولو بسيط، ولكن عند تحقيقه تشعر وكأنك امتلكت العالم… فالنجاح في هذا العالم ليس بيسير أو سهل، وثمنه باهظ جداً من العلم والمعرفة والوقت والجهد والمتابعة والاصرار والتجريب والتكرار، والايمان بأنّ لدى هذا الآخر في الضفة الأخرى، المختلف عني وعنك، قدرات وابداعات يجب التنقيب عنها واطلاق سراحها، كي يشعر هو أولاً بالثقة بالذات، وكي تشعر أنت بالتالي المسؤول عنه، بنجاحك في تحدّي هذا الاختلاف ورفع راية الانتصار في النهاية، على واقع ناصبته العداء في البداية، لتصبحا رفاق درب واحدة في آخر المطاف…

ربما يتناهى إلى مسمعي وشوشات: مسكينة بهاء، ولكن لا… قولوا: ما أشجعك وما أبهى هذه العلاقة التي تنسجينها عبر السنين مع ابنتك…وفي زماننا هذا، وفي هذه العجالة التي نعيش، وهذا اللهاث الدائم لتحقيق ما يجب تحقيقه، وبعد نهارات مثقلة في العمل، واللقاءات والتعاطي مع الآخرين ومحاسبة الذات، وضجيج الخارج والداخل، أعود إلى منزلي، أعود إليها، فتستقبلني زينب ببراءتها وضحكاتها العريضة، تسأل عن أحوالي وكيف أمضيت نهاري، وتحمل همّ صحتي فتمرّر أصابعها الطرية على جبيني لتتأكد من حرارتي، وبالتالي سلامتي، أنام في حضنها قليلاً وأغمض عينيّ لأحسّ بدفء وأمان العالم بأسره… «زينب ابنتي هذه، سلطانتي، كما يحلو لي تسميتها، تصبح في دقائق قليلة أمّا لي، فهل تصدّقون؟».

شاهد أيضاً

رئيسة الاتحاد لحماية الأحداث اميرة سكر …. وصلنا الى الخطوط الحمرا ء ندوة تسلط الضوء على أزمات الأحداث والأطفال في محترف ع للفنون

  الواقع الاجتماعي التطرف والتعديات على الأحداث والأطفال جميعها مواضيع طرحت في الندوة المشتركة بين …