قمرٌ على مركب الريح و زهرةُ الريح_و تبقى الجبال دراسة نقديّة أكاديمية :

*كيفَ لي أن أزنَ القوادم في أجنحته الّتي حلّق بها بعيداً في فضاءات الأدب
بمهابةٍ غصتُ في عمق تجربةِ الأديب الشّاعر

أ. بديع صقور

فميّزتُ بين مجالين تبلورتْ من خلالهما الصور الفنّيّة الشعرية في نتاجه الّذي بين يديّ و هما المجال التنظيري: وفيه أرسى مفهوم الصورة الشّعريّة الحديثة و أهميتها في التعبير الشّعري و مؤثراتها المختلفة الّتي انعكست على بحث الصورة تراثاً و معاصرةً :

ومن التراث يستحضر أجواء زهرة الريح :
نتذكرُ خبزَ التنانير
وجرارَ الماءِ على الأكتاف
أو قوله:
للصيفِ ذكرياتٌ
و للذين غابوا ما يشبه حاكورةً دمع
ومن المعاصرة:
ينفلتُ الجرحُ
ولا من يوقفُ هذا النزيف
“الفوضى الخلّاقة” تبعثرنا
والريحُ عاتيةٌ… عاتيةْ
_و المجالُ التطبيقي:
الّذي اتّضحَ في دراستي مما جعلني أختارُ الصورةَ الشّعريّة المرتبطة بالفهم الحديث (الجوهر) أو ما وراء المعنى فهو وسيلة الشّاعر للتجديد الشّعري و التفرّد، و قد نجحَ المبدعُ بإقامة علائقَ متفرّدةً متجاوزاً المألوف بتقديم غيرِ المعروف من الصلات الّتي أضافت للتجربة الإنسانيّة المطلقة وعياً جديداً كقوله:
سألتني أمي مُذْ كنتُ طفلاً
ما الهيّن يا ولدي، وما الصعب عليكَ؟
_الهيّن يا أمي قطفُ غيمة
و الصعب يا أمي قطفُ رغيف.
فما أبدعها من صورةٍ تخيلية لغيمةٍ من السهل قطفها فهي الحلم، و رغيف يصعب قطفه و القطف عادةً يكون للثمار و الزهور فمزج بين المعنوي و المادي و أوجدَ صلةً جديدة ليعبرَ عن الفكرة.
_وعملَ المبدع على معادلة صوره الفنّيّة وما ترصده من مظاهر حسية و ما يعادلها من انفعالاتٍ و أبعادٍ نفسيّة فكتبَ لروح والده:
دقَّ ناقوسُ الريح
طارت فراشة الروح
وكسوسنةٍ غفت على صدر التلال
همى الوقتُ دمعاً
ذهب الّذي أحبُّه
غابَ نجمُ المحبة
جفَّ ينبوعُ الحنان
فقد قرّنَ بين معجم الطبيعةِ و الفقد ليظهرَ عمقَ الحزن و الأثرَ النفسيِّ الناشئِ عنه.
وقد خلقَ المبدعُ جواً من الانسجام والوحدة العضوية بين صور القصيدة الجزئية ليشكلَ صورةً كليةً فعملَ على تماسكِ الصورِ على أساسِ التكامل:
عارياً كقمرٍ
غريباً كنبي
منكسراً كزهرة
حافياً كعصفور
وبذا يقدم ومضةً متكاملةً في صورٍ تشبيهية متلاحقةٍ أوجزت تاريخاً من الخيبات.
فالصورةُ الفنيةُ هي المرآةُ الّتي عكستْ خصوصيةَ الشّاعر و وجهه الإبداعي حيث حمّلها سماتِ المرحلة الشّعريّة و تجدد بتطور الزمن من الولادة إلى تلقيه علومه الأولى إلى دراسته و نيله الثانوية و تخرّجه في دار المعلمين ثم اختصاصه بالفلسفة و غدا معلماً و سفره و غربته و في كلّ مرحلة كان يقطع شوطاً مهماً في رحلته الإبداعيّة
_أما أسلوبُه فيعبرُ عن حالةِ الاختلافِ و التقاطع مع تشكيلِ الصورة و بنائها بحكمِ أسلوبِه الحداثي و تركيزه على الصور الفنيّة من جانبٍ و اشتماله على أكثرِ من نمطٍ بنائي من جانبٍ آخرَ
يقول:
أهزُّ سريرة الوردة
صباحٌ بعيد
غروبٌ مقفر.

و نلاحظ إنّ ثقافةَ المبدع و أسفاره أتاحا له الإطلاع على إنجازات شعراء العالم مثل بابلو نيرودا و إدواردو غاليانو و كثر غيرهما و رأى كيف تتحولُ الصورُ الشّعريّة إلى رؤىٍ غير مدركةٍ على نحوٍ مباشرٍ فكتب:
من أكسبني كل تلك المورثات من الغربة؟
بين جيناتِ موتي كثيرٌ من تعب الأيام
وقوله:
كبيرةٌ هي الهموم
و رائعةٌ هي الأشعار التي تزغردُ فوق قبر نيرودا
وعمدَ إلى تحميل الصور الشعرية بعدين البعد المعنوي الواضح كقوله:
كلما كبرتُ… ازداد تفتحُ الحزن في كفِّ روحي.
أو بعداً إيحائياً:
في مدوّنة الروح
في قلب زهرة الريح
في أرومة الزمن الغائب
تشدني كخيطٍ
و كوتر رباب
و قد دعا من خلال كتابيه الملهمين للبعد عن تخوم المادة و صلاتها الطبيعية وإضفاءِ
علائقَ جديدة مشروطة برؤيته الذاتية كقوله في زهرة الريح:
يسبقني… ومازالَ هناك
التائهون مرايا
و القرنفل يسوق صباياه إلى صلاة الزهور
و في قمر على مركب الريح :
سانيتاغو باكورة الغربة
سانيتاغو قطافُ الحلم
سانيتاغو نهدٌ آخرَ يرضعكَ حليب الشعر و الموسيقى و التجلي…
و نلاخظُ إنه عمد إلى تكثيف الواقع بدلاً من تحليله و أبرزُ ميّزة لدى الشاعر أ. بديع إنه استطاع حلّ الاشكاليات الّتي تؤرقه و تواجهه بإقامة علاقة عضوية متينة بين ما هو خاصّ ذاتي هو حياته و ما هو عام و أعني قضايا الوطن و الكفاح.
و أبتكرَ صوراً في الحبّ و الموت و الحياة و استقى مصادره من الطبيعة و الفن و الحرب و السفر و الإنسانيات و الريف و المدن الّتي سكنها او سكنته…
و لا أملكُ إلا الانحناء إعجاباً و احتراماً لتجربة الأستاذ بديع صقور الحياتيّة و الشّعريّة و هو القامة الأدبيّة و الوطنية الّتي نجلُّ و نحترم.
د. آسية بديع يوسف

شاهد أيضاً

طرابلس عاصمة للثقافة العربية

  المرتضى من بلدية طرابلس: مرحلة الانقسام والتجاذب رحلت ولن تعود ونستبشر بمرحلة جديدة تجلب …