الفُجورُ السِّياسي في لبنان زلَّاتُ لِسانٍ أم اعتيادُ فحشٍ وبذاءةِ كلام؟

العميد م دكتور عادل مشموشي

أن يَسمَعَ المَرأ، وهو يَسيرُ في الشَّارِعِ، كَلاماً هابِطاً بَذيئاً يَدورُ بين عَوامِّ النَّاسِ من غيرِ المُثقفين والمُتعلِّمين، أمرٌ قد لا يكون مُستَهجَناً وإن كان مَكروهَاً، ولكن أن تَشيعَ هذه الظَّاهِرَةُ الهابِطَةُ بينَ السِّياسِيينَ في لُبنانَ لَهو أمرٌ مُستهجنٌ ومَرفوضٌ ومُدان؛ والأخطَرُ من ذلكَ أن تَتَسرَّبَ هذه الظَّاهِرَةُ إلى بعضٍ من المُعَمَّمينَ أو المُتمَظهرينَ برِداءِ رِجالِ الدِّين، وهم العالِمونَ أو يُفترَضُ بهم أن يَكونوا على عِلمٍ بأنَّ الفَحْشَ وبذاءّةَ الكَلامِ كما الفُجورَ ونعتُ الآخرينَ بما ليس فيهم صِفاتٍ لَهِو من الأُمورِ المَنهيِّ عَنها دينيَّاً والمَرفوضَةِ أخلاقِيَّا واجتِماعِيَّا وغيرِ المعهودةِ سياسيَّاً.
هذه الظَّاهِرَةُ المَقيتَةُ لم تكُن مألوفةً من قبل في السِّياسِة في لبنان، وعلى الرَّغمِ من أنها دَخيلَةٌ إلاَّ أنَّها غيرُ مُستورَدَةٍ، بحيثُ يُعزى أمرُ تَفشِّيها في أدبِيَّاتِنا السِّياسِيَّةِ إلى الظَّاهِرَةِ الميليشياويَّةِ، التي اقتَحَمَت الحَياةِ السِّياسِيَّةِ بقُوَّةِ السِّلاحِ. والخَشيَةُ كُلَّ الخَشيةِ من أن تُلطِّخَ تلكَ الأدبيَّاتُ السَّاقِطَةُ أخلاقِيَّاً البَرانِسِ والعَباءاتِ الدِّينيَّةِ الرُّوحِيَّةِ، والتي لطالَما تَمايَزَ مُرتَدوها بتَرفِّعِهِم عما يُدَنِّسُ طَهارَتَها أو يُفسِدُ صَلاحَها، لأنَّ الأدبيَّاتِ الدِّينيَّةِ بمَثابَةِ المِلحِ، فإن فَسُدَ المِلحُ بماذا يُملَّح؟؟؟؟
دَرَجَت بعضُ وسائلِ الإعلامِ على استِضافَةِ بَعضِ الفُجَّارِ مِمن اشتَهروا بسَفسافِ الكَلام، الذينَ اعتادوا على النُّطقِ بعِباراتٍ نابِيَّةٍ وتَعابيرَ ساقِطَةٍ مُتَعمِّدينَ تَضمينَ أحاديثِهِم شَتائمَ وكلِماتٍ بذيئة، ولا يرعوي البعضُ من مُقدِّمي البَرامِجِ على مَحطَّاتِ البَثِّ الفَضائي استِضافَةَ هؤلاءِ السُّفهاءِ السُّخفاءِ باعتِبارِ حُضورهم يلفتُ انتِباهَ المُشاهدينَ، ويرعُ أعدادَ مُشاهِدي برامِجِهِم. مُستَفيدينَ من سَلاطَةِ ألسن ضيوفهم، وقلَّةَ حَيَائهِم باعتبارِهم أشخاصاً لا يَخجَلونَ مِما اعتَادَت ألسِنَتَهُم على التَّلفُّظِ به من وَقاحاتٍ وخُبث على المَلأ، بحيث تَغلُبُ على مُداخَلاتِهِم تَعابيرُ القَدحِ والذَّمِّ والقذفِ والسُّبابِ والشَّتائم، والاستِهزاء.
يستغلُّ هؤلاءِ الفُجَّارِ المنابرَ والمنتدياتِ والستديوهاتِ للإداءِ بما تجيشُ به أنفُسُهم، خلافاً لما يتحلَّى به رِجالِ الدَّولةِ من مَناقِبيَّاتِ وآدابِ الكلامِ والحِوارِ للتَّطاولِ عليهم، لمَعرِفَتِهِم المُسبَقَةِ أنَّ كرامَتَهُم تدفَعُهُم لتَحاشي الرَّدِّ عليهِم مَغبَّةَ التَّلوُّثِ بقَذاراتٍ على شاكلةِ ما تتشدَّقُ به أفواه الخُبثاء، وتَفادِيَاً للمَزيدِ من الشَّتمِ والسُّبابِ؛ وهنا يَستَحضِرُني المَقامُ لِما قالهُ الرَّسولُ الكريم صَلَّ الله عليه وسَلَّم لأميرِ المُؤمنين عليٌّ بن أبي طالِب رَضِيَ الله عنه: “شرّ الناس من أكرَمَهُ النَّاسُ اتّقاءً لفَحشِه”.
إن الفُجورَ من خلالِ التَّماهي في الفَحشِ الكلامي وبذاءةِ اللِّسانِ أضحى آفةً تُهدِّدُ آدابَنا السِّياسيَّةَ في لبنان، وتُشَوِّهُ صورتنا الأخلاقيَّةَ وتقضي على آليَّةِ التَّواصُلِ الديمقراطي مع بعضِنا البعضِ كما تدمرُ علاقاتنا مع الغير، وتَنعَكِسُ سَلباً على مَصالِحِنا الوَطنيَّةِ، كونُها تُسيءُ إلى علاقاتِنا مع الدُّولِ الشَّقيقَةِ والصَّديقَةِ وتَدفَعُنا أكثرَ فأكثَرَ إلى عُزلَةٍ دَولِيَّة. أقولُ ذلكَ لأن الهُبوطَ في لغةِ التَّخاطبِ ِوإحلاَلَ السُّبابَ والشَّتمَ والتَّجريحَ الشَّخصيِّ كبديلٍ عن لغةِ الحِوارِ والنَّقدِ البَنَّاءِ لَهوَ أمرٌ مَرفوضٌ ومُدانٌ، وتأباهُ النُّفوسُ الأبِيَّةُ والعُقولُ السَّليمَةُ، وتَشمَئِزُّ من سَماعِهِ الآذانُ البَشَرِيَّة، وتَنفُرُ منه الطِّباعُ السَّويَّةُ، ويَستحي منه كُلُّ موزونٍ وعاقِلٍ.
وتُعزى أسبابُ الفَحشِ في التَّخاطُبِ لعدَّةِ أسبابٍ أهمُّها الكراهِيَةُ والعَصبِيَّةُ والغَضَبُ، والأحقادُ الدَّفينَة، ويُضافُ إليها التَّربِيَةُ السَّيِّئةُ وعَدَمُ التَّحلي بآدابِ الكلام وانعدامِ المنطقِ والافتِقادِ إلى الحِجَّةِ وعَدَمِ القُدرَةِ على الإقناع؛ ونَظراً لمُستوى الهُبوطِ في الألفاظِ والنُّعوتِ المُستعمَلَةِ يُعتبرُ الفُجَّارُ بينَ أحقرِ بني البَشَرِ، وأحَطَّهم قَدراً، لأن ما يَنضحونَ به من تَعابيرَ تَنِمُّ عَمَّا بداخِلِهِم من حِقدٍ دفينٍ وشَرٍّ مُستَطير، يَجعلُهُم يَستسهِلونَ انشرِ الكراهِيَةِ، والافتِئاتَ على الغيرِ، كما يَدفَعُهُم لارتِكابَ الكبائر والحَماقاتِ وربما يدفعهم لاقتِرافِ أفظَعِ الجَرائمِ في سبيلِ الوصولِ إلى أهدافِهِم وتَحقيقِ أغراضِهِم الدنيئة.
من مَظاهِرِ هذه الآفَةِ السِّياسيَّةِ المَقيتَةِ انتِهاكُ المُحرَّماتِ والخُروجِ عن الثوابت في التَّعاطي مع الغَير، ولكن أبشعُها ما يُعتَمَدُ في السِّياسةِ لِطَمسِ الحَقائقِ أو لتقاذُفِ المَسؤوليَّاتِ؛ أو كوَسيلَةٍ للتَّطاولِ على المَقاماتِ والمُقدَّساتِ أو كِبارِ المَسؤولين الروحِيينَ والوَضعيين أو لقَذفِ الخُصومِ السِّياسيينَ والتَّعرُّضُ لهم بالشَّخصيِ بتوجيهِ النُّعوتِ الشَّائنَةِ أو السُّبابِ والشَّتائم، أو من خِلالِ التَّكفيرِ والتَّخوينِ أو التَّهديدِ أو تَشويهِ السِّمعَة، أو التَّطرُّقِ للخُصوصِيَّات وغير ذلكَ مما هو بَعيدٌ كُلَّ البُعدِ عن النَّقدِ البَنَّاءِ المُتَجَرِّدِ واتِّخاذِ العُنفِ اللَّفظي، أو المادِّي، وسيلةً لتَحقيقِ أهدافٍ مُعيَّنةٍ بدَلاً من لُغُةِ الحِوارِ والنِّقاشِ الموضوعي، أو ابتِغاءً لتَحقيقِ مآرِبَ أو تَطلُّعاتٍ فِئويَّةِ أو لتَحقيقِ مَصالِحَ شَخصِيَّةٍ، أو لفَرضِ مَشيئةِ؛ وأخطرُ صُوَرِها التَّدخُّلُ في شُؤونِ الدُّولِ الأُخرى شَقيقَةً كانت أم صَديقَة، أو التَّعرُّضُ لرُموزِها أو مُمَثِّليها خلافاً للمَواثيقِ الدَّوليَّةِ والأعرافِ الدُّبلوماسيَّة، وهم يعلمون أنه ينطوي على تطاول غيرَ مُجدٍ، وينطوي على خَدشٍ لشُعورِ المُكوِّناتِ الوطنيَّةِ الأخرى ويمَسُّ بكرامَتِهم حتى وإن آلوا على أنفُسِهِم عَدمَ الرَّدِّ توقِّياً للفتن، هذا عدا الانعكاسِاتِ السَلبيةِ على الوَطن.
لستُ بمعرضِ الدِّفاعِ عن أيَّةِ جِهة، ولكنَّ إصرارَ البَعضِ ومنهم رِجالُ دِينِ أو مِمَّن يتستَّرونَ بزَيِّ ديني، لتَسهيلِ نَشاطاتِهِم السِّياسِيَّةِ عامَّةً أو الحِزبِيَّةِ والفئويَّة، على التَّطاولِ على الدُّولِ الشَّقيقةِ أو قادَتِها أو رُموزِها أو مُمثِّليها، والتي كان آخرُها نعتُ سفيرِ دولةٍ شقيقةٍ صَدوقةٍ للبنان كلِّ لبنان “بسفيرِ الفتنةِ” رغمَ كُلِّ مُحاولاتِ التَّهدئةِ والنُّصحِ بالإقلاعِ عن التَّطاولِ غيرِ المُحِق، أو المُجدي وَطنِيَّا، كما يوحي وبما لا يَقبَلُ الشَّكَّ، أن ثمَّةً إصرارٌ على إفسادِ علاقَةِ لبنانَ بأشقَّائهِ خِدمَةَ لأجُنداتٍ خارِجِيَّةٍ، وأبغَصُ ما في ذلك مُحاولةُ التَّضليل والخلطِ ما بين الشَّر والخيرِ، بمَدحِ من يُناصرُ فئةٍ على حسابِ الوطن، ولعن من يُناصِرُ الوطن بكلِّ مُكوِّناته، على الرَّغمِ مما ينطوي كُلُّ ذلك على دفعٍ للكِراهِيَةِ وتَقويضٍ للاستِقرارِ السِّياسِيِّ والاجتِماعي والسِّلمِ الأهلي، كما على إضرارٍ بالإقتِصادِ الوَطَني وتأجيجٍ للأزماتِ المَعيشِيَّة التي لم يعُد لدى عامَّةِ النَّاسِ طاقةً لتَحمُّلِ أوزارِها، لأن مَخاطِرَها جَليَّةٌ سَيَّانُ كانت زَلاَّتُ لِسانٍ أم فُجورٌ وبذاءَةُ كَلام.
لقد آن الأوانُ لأن يَعي المُتفَصحِنونَ من سياسيينَ أو مُتطفِّلينَ على السِّياسَةِ أن بذاءَةَ التَّعابيرِ وقباحةَ الألفاظِ ليسَت بجُرأةٍ ولا تَنِمُّ عن شَجاعَة، إنَّما هي من قَبيلِ الوَقاحَةِ المُفرِطَةِ التي لا تُراعي المَشاعِرَ، وأنَّ ما يَتمَخَّضُ عنهُم من فاحِشِ الكَلامِ وباءَةِ اللِّسانِ يُعيبُهُم لا من وُجِّهَ لهم، وهل أوضحُ من قولِ الإناءِ ينضحُ بما فيه سواءَ كان من مَشرَبِ أو مأكلٍ أو خِصالٍ أو مَزايا، وما لعاقلٍ أو حكيمٍ أن يَتفوَّهَ ببزيء الكلامِ لو أن لديه الحَدَّ الأدنى من المُروءَةٍ والتَّعقِلِ أو وازِعَ دِينيٍّ يَضبُطُهُ أو رادِعَ أخلاقي يَمنَعُهُ. وأن خيرَ ما نسترشدُ به قولُ الله تعالى ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ صورَةُ لُقمان الآيَةِ 19.
وأخلُصُ للقولِ بل للتأكيدِ على أن الاعتيادَ على الفُجورِ الكلامي وبذاءَةِ اللِّسانِ يَنِمَّانِ عن مَرَضٍ نفسيٍّ عُضالٍ يَستوجِبُ المُعالَجَةَ بعدَ عَمِليَّةِ تَشخيصٍ دَقيقَةٍ، لتَحديدِ أسبابِ الانحِرافِ، ومن ثُمَّ يلي ذلكَ تَدريبٌ على التَّعوُّدُ على القَولِ الحَسن، وطيبِ الحَديث، وحِسن المَقال، والنُّبلِ والكَمال، والتَّقديرِ والإعزاز، وعَوامِلِ الظَّفْرِ والنَّجَاحِ. إن ما نُعيبُهُ ليسَ اختلافهم في الرَّأيِ ولا حتى الخِلافُ السِّياسيُّ، إنَّما هذا الدَّركُ من التَّخاطُبِ الهابِط المرفوضِ شكلاً ومَضموناً، ويا مَرحَباً بأيِّ نقدٍ بنَّاءٍ مُتجرِّدٍ مَسؤولٍ، وما الضَّيرُ بحِوارٍ صادقٍ شفَّاف، يخدِمُ الرُّقيِّ الاجتِماعي، والسِّلمِ الأهلي، وتَعزيزَ أواصِرِ الوئامِ في المُجتَمَع تمهيداً للنُّهوضِ بالوَطَن. وأنهي بعبارَةٍ للإمامِ عليٍّ رضي الله عنه لأحدِ أصحابِه “سماعَة” إيّاك أن تكون فحّاشاً أو صَخّاباً أو لَعَّاناً”.
ردينة

شاهد أيضاً

غزة وحراك الجامعات الامريكية. الشعوب تتحد وتنهض لوأد العالم الانجلو ساكسوني.

ميخائيل عوض تطورت تشكيلات الوحدات الاجتماعية للبشرية ارتقاء من الجماعات البدائية في المشاعيات الى العائلات …