أدباء وشعراء

إعداد وحوار الشاعرة رانية مرعي

 د. نورا مرعي، حائزة على دكتوراه في اللغة العربية وآدابها من المعهد العالي للتعليم في الجامعة اللبنانية وحاصلة على شهادة في الكفاءة في اللغة العربية وآدابها في التعليم الثانوي من كلية التربية .
مارست التعليم في العديد من الثانويات ومساهمة في وضع مناهج اللغة العربية فيها، مدققة لغويّة، عضو في الإتحاد العالمي للثقافة والأدب وعضو في الحركة الثقافية في لبنان منطقة الزهراني .
شاعرة وروائية لها العديد من الإصدارات ندكر منها :
” شظايا في الذاكرة ، لا أخشى النسيان ، أكتبك عطرًا

*الشّاعر ابن بيئته. كيف تتعاملين مع هذا الواقع؟

من المعروف أنّ الشّاعر ابن بيئته، يستمدّ منها ألفاظه وعباراته، وهو المرآة الخاصّة بعصره، وبكلّ ما يتجلّى فيه من أحداث، إذ لا يمكن أن تقرع طبول الحرب أو يعلن السّلم إلّا ويكتب الشّاعر بحبره، ما يضرب أعماقه من أذى نفسي أو تعب وجداني أو قلق فكري، أو أي شعور آخر قد يُصاب به.

لا يمكن أن نرى شاعرًا بعيدًا من واقعه، ومن بيئته، وإلّا قيل عنه إنّه لا يعيش التّجربة، ولا يعكسها أدبًا. وهذا ما يتنافى مع فكر الشّاعر الّذي يتأثّر بكلّ ما يعيشه، او يمرّ به، أو يراه، أو يشعر به.

*بين الشّعر والرّواية. أين وجدت نفسك؟ وهل يختلف إقبال الناس بين هذين النّوعين من الكتابة؟

ربّما كان الشّعر هو بوابتي الأولى للظّهور إلى هذا العالم من خلال ديوان “شظايا من الذّاكرة”، وربّما كنت أميل إلى الشّعر منذ طفولتي، إذ كان القلم ينزفّ قصائد وجدانية أتصالح فيها مع القلب، وأعبّر من خلاله عن وجع صامت يضرب الأعماق، ورتابة حزينة أسير عليها، لصوغ تلك الكلمات في كتابة شاقّة، في عالم ساحر، أدخل من خلاله إلى الآخرين، وأعبر إلى ميناء الحياة. ومن الشّعر كانت انطلاقتي نحو الرّواية بكتابة أولى رواياتي “هذا هو قدري” الصّادرة عن دار الفارابي بطبعتها الثّانية، وقد كشفت من خلالها عن قدرة كتابية في السّير على لغم شائك حلو، اسمه الكتابة الرّوائية الشّعرية كما اتّهمني البعض، إذ لم يكن بإمكاني الخروج من ذات الشّاعرة إلى ذات الرّوائية بسهولة، ما جعل رواياتي تفيض بالعبارات الشّعرية الّتي شكّلت جزءًا من هذا العمل السّردي. وأعترف أمامك أنّني وجدت نفسي في الرّواية، وأحببت هذا العالم السّاحر، إذ تعبّرين فيه عن كلّ ما تريدينه بسهولة بعيدًا من الصّور المبتكرة، فأنت لست بحاجة إلى ذلك، فالرّواية تحتاج إلى أبطال وأحداث وعقدة وتشويق، بينما الشّعر يحتاج إلى تفرّد ومجهود كي تتميّزي عن باقي الشّعراء، وإلّا دخلت عالم التّقليد، وهذا ما لا يمكن أن أتقبّله.

وبالتّأكيد، يميل النّاس اليوم إلى قراءة الرّواية، فهناك الكثيرون ممن يعدّون فهم الرّواية أسهل من فهم قصيدة نثرية أو قصيدة عمودية، فهم بحاجة إذا أرادوا قراءة أي قصيدة إلى قدرة على تحليل معانيها ودلالاتها ورمزيتها الّتي تعبق بحضور أسطوري، أو تاريخي، وبالتالي يحتاج القارئ إلى الولوج عالم الفكر العربي وامتلاك مفاتيحه الخاصة كي يفهم بعض الصور المتفرّدة الّتي يشتغل عليها الشّاعر المبدع، بينما الرّوائي يكون أقرب إلى نقل الواقع. لذا، يختار ألفاظه السّهلة ومعانيه القريبة من القارئ كي يأخذ العبرة من كتابة الرّواية.

*يميل الكثير من الشّعراء إلى القصيدة الحديثة، ألبساطتها أو لأنّها قادرة على استثارة مشاعرهم ومحاكاة  تطلعاتهم؟

لا يمكن التّكلم على قصيدة حداثية بسيطة، خصوصًا أنّ الشّاعر حين يكتب يميل إلى استثارة الغموض بتفرّد صوره الشّعرية، عبر اعتماد تراسل الحواس، واستحضار التّاريخ الأسطوري، وبروز الرّمزية بطريقة لافتة للنّظر، فالقصيدة صارت تحتاج أن يشغل القارئ ذهنه، ويكدّ في البحث عن المعنى الّذي يحتاج إلى تأمّل. وبالطّبع هناك فرق بين القصيدة الحديثة والخاطرة الوجدانية البسيطة، ويعدّ الفرق واضحًا بينهما. لذلك، يمكن القول إنّ الشّاعر يميل إلى كتابة القصيدة الحديثة لكي يعبّر عن رؤاه الخاصّة، وتطلعاته المستقبلية عبر محاكاة مشاعر النّاس ومشاعره الخاصة، وسكب هذه المعاناة الفكرية في قالب لغوي يثمر رؤيا شعرية، تستدرج القارئ إلى عالم الشّاعر لكي يؤثّر فيه.

*هل للشّاعر خطوط حمراء لا يجوز أن يتخطاها في قصائده أو انّه فعلًا يحقّ له ما لا يحقّ لغيره؟

لا أعتقد أنّ الكتابة لها خطوط حمراء، فهي عالم نبحر من خلاله إلى عوالم مضرّجة بالأحلام والتّجارب والمعاناة، يدقّ الشّاعر من خلالها أبوابًا عديدة، من دون أن يقف عند نقطة معيّنة، أو حدود ما، فهو لا يعرف الحدود المعقولة، فتراه في مكان ما يرقد بين النّجوم، ويستعير من السّماء ما يرغب به، وهو حينًا يفعل ما لا يمكن فعله في الواقع، يثير عتمة الأنا، يصقل من رائحة الشّمس مفرداته، ويتصالح مع الظّلال السّوداء. فكيف تريدين من الشّاعر أن يصمت قلمه في عالم صار لا يمكن الصّمت فيه؟ وكيف تريدين لشاعر أن يوقف قلمه عن الدّخول في الممنوع والمحظور إن كان هو مَن يتعمّد الإبحار عكس التّيار؟

إذًا، الشّاعر يطلق العنان لسفينته في بحر هائج، مائج، بارز المعالم، غامض الحدود، ولا يعرف التّوقّف مهما كانت الأسباب.

*الشّاعر النّاجح هو من يلفت انتباه طبقة معينة من المثقفين أو من يصير لسان كل الشعب؟

الشّاعر النّاجح هو مَن يعرف كيف يدخل قلوب الجميع، ويتربّع على عرش الزّمن، مثل الشّاعر محمود درويش، فهو شاعر مميّز مثّل جماعته في تجربة شعرية فذّة برزت في تلك الآونة. فمَنْ يمكنه نسيان قصيدة “سجّل أنا عربي”، “تُنسى كأنّك لم تكن”، “أحنّ إلى خبز أمّي” وغيرها من القصائد الّتي برزت في عصره، وما زالت إلى يومنا هذا لها صداها في آذاننا؟

لقد وصل هذا الشّاعر إلى مكانة خاصة في قلوب النّاس حتّى صار على كلّ لسان، وفي كلّ قلب، كما شكّل كيانًا شعريًّا خاصًّا، واختلافًا نوعيًّا عن غيره من الشّعراء، وهذا ما يدفعنا إلى القول إنّ الشّاعر النّاجح هو مَنْ يصير على لسان كلّ الشّعب، لا على لسان فئة معيّنة من المثقفّين.

*كونك دكتورة لمادة الأدب العربي، كيف تقيمين الطّلاب الّذين يدرسون هذه المادة؟ وما مدى إقبالهم عليها؟

نعاني في الأونة الأخيرة مشاكل عديدة في هذا المجال لأنّ بعض الطّلاب يدرسون هذه المادة، كونهم لا يعرفون ما يريدون التّخصص به بعد إنهائهم المرحلة الثّانوية، ما يدخلهم في مشكلة مع أنفسهم أولًا، ومع متابعة دراسة هذه المادة الّتي تحتاج إلى جهد فريد وشخصية شجاعة ومحبّة للأدب، وذهنية ناقدة، وصبر كبير على دراسة موادها، وثقافة واسعة، إذ لا يعرف الطّالب الّذي يدرس هذه المادة أنّها ليست مادة عادية، وربّما يظنّ أنّها لا تحتاج إلى تعب ودراسة وكدّ. هذا بالنّسبة إلى البعض، بينما بعضهم الآخر يميل إلى الابتعاد من هذا التّخصّص، ولا يقبلون عليه، انطلاقًا من الفكرة الشّائعة عن الأدب العربي أنّه تخصّص صعب، خصوصًا أنّ معظم المعلمين يزرعون في أذهان التّلامذة هذه الفكرة منذ الصّغر، فيرفض معظم التلامذة التّخصّص بهذه المادة، ويهربون منها إلى مواد أخرى قد لا يجدون فيها أنفسهم، أو يقعون في فخ اختيار غير صائب، وربما دراسة مهنة ترمي بهم في سلّة البطالة بعد التّخرّج. أعتقد أنّنا صرنا بحاجة إلى إعادة التّفكير بطرائق التّدريس، وتبيان أهمية دراسة مادة الادب العربي، خصوصًا أنّها تفتح آفاقًا على أعمال عديدة وكثيرة، وتبدّل فكر التّلميذ من خلال الثّقافة الواسعة الّتي يكتسبها.

*كيف تنظرين إلى مستقبل اللّغة العربية في ظلّ العولمة وانتشار التّكنولوجيا وانعدام المطالعة؟

في ظلّ تفجّر المعرفة والتّسارع الضّخم في عرض المعلومات، وانتشار التّكنولوجيا، وتحويل العالم إلى قرية كونية، صار لزامًا علينا استخدام اللّغة العربية بشكل متزايد، عبر إدخالها إلى شبكة المعلومات العالمية كي تستعيد مكانتها، وعلى الرّغم من اقتناعنا أنّ لغتنا العربية باقية في المستقبل، فهي لغة القرآن الكريم، وهي اللّغة الّتي تتميّز بثراء مفرداتها، وبلاغتها، لكنّنا نعاني حاليًا مشاكل عديدة على صعيد الاهتمام بها، والتّكلّم بها، واستخدامها في مجالات الحياة، ومدى انتشارها، وتقلّصها أمام اللّغتَين الانكليزية والفرنسية اللّتين تمثلان القوى الفاعلة والرّائدة في العولمة. كما صار معظم التّلامذة يعدّون اللّغة العربية لغة تقليدية، لا يستخدمونها، ولا يجيدون قواعدها، ويميلون إلى الكتابة بلغة التّشات، أو باللّغات الأجنبية، ما يُضعف لغتنا، ويؤثّر بها، ناهيك عن مشكلة اعتماد اللّهجات المحلية، والمطالبة بأن تكون بديلًا عن اللّغة العربية الفصحى.

وما يزيد مشاكل لغتنا ابتعادنا من المطالعة، وعدم الاهتمام بالقراءة، على الرّغم من إدراك الجميع أهمية القراءة في جوانب عديدة، وإذا كنا قد انتبهنا إلى هذه المشكلة، وبدأنا بإدخال المطالعة إلى المناهج التّعليمية، لكنّ هذه المحاولة تبقى بسيطة أمام الواقع الّذي نعيشه، والحاجة إلى جعل المطالعة شيئًا أساسيًّا في حياتنا اليومية، لكي نتمكّن من التّقدّم واللّحاق بركب الحضارة الإنسانية. إذ لا يمكن لأي إنسان أن يتطور بعيدًا من القراءة والمطالعة، فينبغي إعادة التّفكير بطرائق جديدة لكيفية جعل القراءة شيئًا رئيسًا في حياتنا، كي نحافظ على لغتنا، وعلى مهاراتنا الفكرية والعلمية والنّقدية.

*ما هي الرّسالة الّتي تحملها شاعرتنا وتعبّر عنها في كتاباتها؟

لا متّسع في الحياة لأن نعيشها مرتين، وبالتّالي، يبقى الحبّ هو الرّسالة الاولى المسيطرة على ذاتي الشّعرية، وكتاباتي الرّوائية، قبل أن يتأهّب قلمي للرّحيل، وقبل أن تتوقّف كتاباتي عن النّبض… كما أنّني أحمل رسالة دعم لكلّ القيم الّتي نؤمن بها في مجتمعاتنا العربية، إذ لا يمكنني أن أسير خلف أبواب معتّمة، وفوق رصيف مظلم، وعلى حافة وطن يبكي، وأمّة تنزّ تعبًا وإرهاقًا، فرسالتي في هذه الحياة أن أنظر إلى الأمّة العربية لأراها كمثل العمر لا تتكرّر، وكم أتمنى لو نعود إلى سابقِ مجدنا، وهذا لن يكون إلّا بإطلاق شعارات واحدة، وحمل رايات واحدة، والسّير على نهج واحد، وكم أحلم بذلك! ولكن…

*بين أعباء الحجر والأعباء الاقتصادية الّتي تثقل كاهل المواطن، ما هو دور الكتاب؟ وما هي النّصيحة الّتي توجهينها للقرّاء؟

في ظلّ الحجر الصّحي الّذي فرض علينا البقاء في المنزل، اتّجه الجميع نحو مكتباته الخاصة، وعانق كتبه الّتي أكلها الغبار، وأزالها عن الرّفوف الخشبية، وأعادها إلى الحياة… نعم، لم يكن الحجر الصّحي سلبيًّا في مناحيه كافة، بل أعاد ذواتنا إلى الحياة القديمة، وردّ إلينا الاهتمام بكتبنا؛ فتسارع الجميع نحو القراءة، والإفادة من هذا الوقت الممل. وقد أدّى الكتاب دورًا مهمًّا عند بعض النّاس في ملء أوقات فراغهم بشيء مفيد. وحبّذا لو استفاد الجميع من ذلك.

أوجّه نصيحة إلى القرّاء بأن يعودوا إلى الكتاب، فوحده خير جليس، وأن ينسوا ولو لوقت قليل تلك العتمة الكونية الّتي تضربنا، فوراء كلّ عسرٍ يسر، ووراء كلّ صعوبة راحة، فلا توقدوا نار التّعب والتّأفّف والتّململ في هذا الوقت العصيب، بل اجعلوه وقتًا للإفادة، للعودة إلى لغتنا العربية، لتقوية مهارات معيّنة كنّا نفتقدها، لممارسة هواية ما لم يكن بإمكاننا ممارستها، فلنعد إلى أنفسنا الّتي نسيناها لسنوات، ولنعد إلى جلساتٍ فقدنا فيها متعة التّلذّذ بعائلة تحيط بنا، ولنترك بصمة لا تُنسى فوق زمنٍ نعاني فيه الوباء والحجر والوضع الاقتصادي الصّعب، فلنجعل من هذه التّجربة النّازفة وجعًا عبرة مفيدة في حياتنا.

شاهد أيضاً

البيسري بحث والسفير البلجيكي في جدول زيارته المرتقبة إلى بروكسل في 22 ايار الحالي

  الامن العام يعلن المباشرة باجراءات ضبط وتنظيم ملف السوريين الموجودين على الاراضي اللبنانية إستقبل …