أسطورة تحتمس الثالث.. نابليون الشرق القديم

 

محسن عبدالعزيز

كان ذكاؤه الوقاد يذكرنا بالإسكندر ونابليون، فقد كان أول رجل فى التاريخ أسس إمبراطورية حقيقية، وهو أقدم بطل معروف على الأرض. هذا ما يقوله جيمس بريستد عن تحتمس الثالث، الذى خضعت له آسيا الصغرى وأعالى الفرات وجزر المتوسط وبابل وشواطئ ليبيا والصومال وشلالات النيل العليا. وكان أمراء هذه البلاد يقدمون له الجزية والهدايا باستمرار.

فمن هو تحتمس الثالث الذى اهتزت الأرض لانتصاراته وعبقريته الحربية؟ وكيف انتقل من معبد آمون إلى كرسى الفرعون.. وتحول من كاهن إلى محارب؟

لم تكن تجرى فى عروقه الدماء الملكية رغم أنه ابن الفرعون تحتمس الثانى لأن أمه كانت من عامة الشعب.

وقد عانى جبروت الملكة حتشبسوت التى تزوجته صغيرا، وبدلا من أن يصبح الفرعون، عاش منزويا فى الظل حتى ماتت بعد أن حكمت 21 عاما، ليكشف عن شخصيته الأسطورية كمحارب عظيم وأول الفراعنة المحاربين.

بدأ حياته فى معبد آمون، أرسله والده الفرعون إلى هناك ليتعلم الحكمة والجلد. كان الكهنة متشبعين بروح إلههم الذى كان يعد إله الحرب وناصر الفراعنة فى ساحة القتال كما يذكر سليم حسن فلقنوه دروسا فى البطولة والشجاعة وضربوا له الأمثال بأجداده الأبطال، فصنعوا أسطورته على مهل واشتعلت روحه الحربية ولم يكد يتولى العرش حتى انطلق كالسهم لملاقاة الأعداء محققا أسطورة المحارب التى كانت تشتعل داخله وساعده الرخاء الذى تركته حتشبسوت على أن يعيد بناء الجيش المصرى بسرعة.

كان طوال فترة عزلته يعمل على أسطورته بصبر القديسين، لم يضعف لحظة أو ينحرف وكأنه كان يرى قدره أو أسطورته بعينيه وفور أن ماتت حتشبسوت قبض على الحكم بمهارة وارتدى ملابس المحارب ليعيد مجد مصر، ويردع الخارجين على الإمبراطورية.

فطوال فترة حكم حتشبسوت لم ير حكام آسيا أى جيوش مصرية، ولذلك أعلنوا عصيانهم على مصر وانفصالهم عن إمبراطوريتها.

وقادت مملكة قادش هذا التمرد، وكان بها بقايا الهكسوس. وزحف أميرها وحلفاؤه وقاموا باحتلال حصن «مجدو» على جبل الكرمل فى فلسطين لمواجهة الجيش المصرى.

وتحرك تحتمس الثالث بجيش مصر ووصل إلى غزة بعد مسيرة تسعة أيام قطع خلالها 280 كيلو مترا فى الصحراء.

كما يقول أحمد فخرى ثم تحرك من غزة مسيرة أحد عشر يوما ليقابل أمير قادش وثلاثمائة زعيم من زعماء سوريا وفلسطين فى معركة مجدو تلك المعركة الفاصلة فى التاريخ.

عقد تحتمس الثالث مجلس حرب ليرى أى الطرق يسلك للوصول إلى مجدو، فهناك ثلاثة طرق، طريقان يدوران حول سفح الجبل، وطريق ثالث صعب ضيق يصل مباشرة إلى باب الحصن.

واقترح المستشارون أن يختار أى طريق إلا الطريق الضيق ولكن تحتمس الثالث أصر على الطريق الصعب الوعر، لأنه أقرب الطرق، ولا يتوقع العدو أبدا أن يباغتهم منه، وتجلت عبقرية تحتمس واسطورته عندما أقسم أن يسير على قدميه فى طليعة الجيش قائلا لجنوده سأسير أمامكم لكى أكشف لكم الطريق فاقتفوا أثرى. وعندما انتهى من اجتياز الممر انتظر 7 ساعات حتى يتم تجمع الجيش.

وفى فجر يوم 15 مايو 1479 ق.م أمر الجيش بالزحف والهجوم على العدو واعتلى تحتمس المحارب العظيم مركبته الحربية شاهرا سيفه فى مقدمة جيشه يفتك بالأعداء، وتأججت فى نفوس الجنود روح القتال، وعلى أثر هذا الهجوم المباغت تقهقر أمير قادش وجنوده إلى حصن مجدو وأغلقوا الأبواب وحاصر الجيش المصرى الحصن حتى أعلن استسلامه بعد أن فر منه أمير قادش.

وعامل تحتمس الأسرى معاملة كريمة وقال المؤرخ ديجول كما ينقل سليم حسن «ان المصريين كانوا أعظم شعوب العالم القديم رحمة وإنسانية».

قررت معركة مجدو مصير المنطقة وفتحت الطريق أمام تحتمس الثالث إلى سوريا حيث أنشأ هناك قلعة لصد أى هجوم محتمل، وعين حكاما جددا يدفعون الجزية إلى مصر. ثم رجع إلى طيبة للاحتفال بالنصر عام 1479 ق.م.

يقول بريستد: وحتى ندرك الصعوبات التى واجهت تحتمس الثالث علينا أن نتذكر الأهوال التى قابلت نابليون فى أثناء زحفه من مصر إلى عكا فى المنطقة نفسها، وهو نفس الطريق الذى سلكه ابراهيم باشا ابن محمد على فى حروب الشام.

وتكشف اسطورة تحتمس الثالث الحربية والسياسية عن أنه كان يعكف طوال فترة اقصائه عن الحكم على دراسة الخطط الحربية وأصول الحكم. فهو أول من قسم الجيش إلى جناحين وقلب، وأول من عقد مجلس حرب، وأول قائد يضحى بنفسه ويتقدم جيشه فى المخاطر. كما ظهرت عبقريته السياسية فى عفوه عن المنشقين ومعاملتهم معاملة كريمة، وكان يقوم بتعليم ابنائهم فى مصر ليشبوا على حبها ثم يرسلهم إلى الحكم عند وفاة آبائهم.

وبلغت حملات تحتمس الثالث على آسيا ست عشرة حملة، كان يقوم بها مع بداية الصيف، ويعود قبل دخول الشتاء، من أجل القضاء على بقايا الهكسوس والأمراء الموالين لهم.

فى زحفه للمرة السادسة كان يريد الوصول إلى بلاد الرافدين وكانت العقبة الكئود التى تحول دون ذلك هى ملك قادش ومدينته الحصينة على نهر العاصى، فصمم على فتح هذه المدينة ليسقط آخر صرح للهكسوس.

ثم قاد حملته الثامنة وأصبح أول فرعون يعبر نهر الفرات.

وبعد أن انتهى من فتوحاته الآسيوية توجه نحو النوبة التى كان يتسلم منها 800 رطل من الذهب سنويا، ووصلت جيوشه فى السنة الخمسين لحكمه إلى الشلال الرابع.

كان تحتمس الثالث أول قائد محنك فى التاريخ طبقا لوصف بريستد، كان كلما عاد إلى طيبة يقضى وقته فى تجهيز معدات حملته القادمة. ويطوف جهات القطر المصرى. يتفقد حكام المقاطعات ليمنع الرشوة والفساد فى أثناء جمع الضرائب. كما كان يتفقد المعابد ويعمل على ترميمها،

وهو أول حاكم يسمح للكتاب أن يرافقوا رحلاته وحروبه ليكتبوا ويؤرخوا مايشاهدون وكأنه كان يعرف أن النصر حليفه فى كل المعارك، يقول الكاتب ثانيتي: لقد تتبعت الملك تحتمس الثالث وشاهدت انتصاراته التى أحرزها فى البلاد كلها، لقد أسر جلالته أمراء سوريا، واستول على بلادهم، لقد سجلت انتصاراته فى كل بلد.

وكان تحتمس الثالث مؤمنا بالإله آمون وكان يكره الكذب ويقول كما يذكر سليم حسن: لم آت بعمل فيه مظنة، وقد فعلت ذلك لوالدى الإله آمون، لأنه يعرف ما فى السماء، ويعلم ما فى الأرض، ويرى كل العالم فى طرفة عين.

ويجب أن نقف أمام هذا الايمان العظيم بالإله.. ونسأل كيف يقال عن أجدادنا العظام أنهم كانوا كفارا؟!

ذاعت شهرة تحتمس الثالث كقائد عظيم ولقبه المؤرخون بنابليون الشرق، وصارت طيبة «الأقصر» عاصمة العالم المتمدن، وأطلق عليها المدينة ذات الألف باب، يتسع كل باب لمائتى رجل وتخرج منها جيوش فرعون بكامل عدتها وعتادها.

يقول بريستد: إن صفات تحتمس الثالث وشخصيته برزت فى التاريخ المصرى القديم بدرجة منقطعة النظير فى ملوك مصر قاطبة، ونشاطه فاق كل نشاط، سواء كان قبله أو بعده، كما كان فنانا هاويا يقضى وقت فراغه فى عمل الأوانى وإبداع أشكالها. وكان حسن التدريب فى السياسة، حاد الذاكرة، جمع مملكته الشاسعة فى إدارة حكومية مركزية ثابتة.

وعاش تحتمس الثالث 12 سنة بعد آخر حملة آسيوية له، ولما شعر بالشيخوخة أشرك معه فى الحكم ابنه أمنحتب الثانى.

وفى السنة الثانية لذلك أى عام 1447 ق. م توفى تحتمس الثالث بعد أن جلس على عرش مصر 54 عاما، وقام بأعمال باهرة اهتزت لها الأرض اهتزازا.

ولعل من أجمل مآثره مسلتاه الأثريتان الموجودتان فى لندن ونيويورك. كشاهد على عظمة هذا الإمبراطور وعظمة بلاده فى أقوى الامبراطوريات.

شاهد أيضاً

البعريني: “نعمل مع رئيس ميقاتي ومولوي على إعادة اللبنانيّين العالقين في قبرص”

عُقد لقاء موسّع في بلدة ببنين في محافظة عكار تضامنًا مع اللبنانيين العالقين في جزيرة …