المدينة والطيّب


د . محمد الحسيني

أخبرتني المرحومة والدتي أن خالها رحمه الله نزل الى بيروت لبيع ديكَين بلديّين ولزيارة شقيقه والإطمئنان عنه . كانت بوسطة الضيعة هي وسيلة النقل المتاحة ذلك الحين لإيصال الناس الى المدينة . فالذهاب الى بيروت كان أشبه برحلة يتمناها أبناء القرى والريف . وصل الجميع سالمين الى ساحة البرج وتوجهوا الى مقاصدهم .مشى الخال حاملاً ديكَيْه ملتفتاً يمنةًويسرةً ،مشدوهاً بإرتفاع الأبنية وواجهات المحلات والمصارف … أستوقفته حسناء تحمل طفلاً على ذراعها لتسأله:” بكم الديك أيها الوسيم؟” أجابها الخال : “الديك بليرتين يا حُرمة.” أجابته : ” حسناً ، سأترك ولدي بأمانتك، أعطني الديكين وسأعود لأجلب لك ثمنهما . توارت الحسناء مع الديكين عند نهاية الزقاق وأنتظرها الخال فلم تأتي ..! ضاق ذرعاً بالطفل الذي بدأ بالصراخ فدخل في الزقاق وسأل عند أصحاب الحوانيت فلم يجد ضالته ! أيقن حينها أنه وقع في مأزق كبير! ضاقت الدنيا في عينيه فتذكر شقيقه فقصده . حين وصوله أخبره بما جرى ! أجابه: معقول إلك نص نهار ببيروت وجايب معك ولد؟ قام شقيقه وجلب الحليب ليصار الى إسكات الطفل الجائع . وبعد التشاور قرّر أن يأخذاه الى ما كان يُعرف آنذاك بسوق العازارية في المدينة . إنطلقا على عجل وبعد بلوغهما السوق المذكور، همس الشقيق بأذن اخيه :ً أرأيت ذاك النزل هناك ؟ إذهب بهدؤ وضع الطفل عند عتبة الدار .. إمتثل الخال لطلب أخيه ونفذَ الأمر لكنه أثناء رجوعه تعثرت قدمه بصنبور مياه فوقع على صفيح من التنك محدثاً دوياً هائلاً! أطلت إحدى بنات آوى من نافذة مخدعها وأطلقت صيحةً عظيمة تكفلت بإحضار ما كان يُسمى حينها بشرطة الآداب أو مخفر حبيش! هنا وقعت الواقعة ! لقد علم افراد الشرطة بما قاما به فردوا إليهما الطفل وزوّدوهما بطفلٍ لقيطٍ ثانٍ بعد أن أتهموهما بجلب اللقطاء الى هذا السوق!
عاد الأخوين ولكن ليس بخفّيْ حنين بل بطفلين ! هنا سألت والدتي رحمها الله :” أماه ماذا حل بسوق العازارية ؟” فرمقتني بنظرة لم أعهدها منها من قبل ! .. فخجلت ،وأسعفني أنها أكملت سرد ما جرى للطفلين، حيث نجحت محاولة إعادتهما الى السوق المذكور قبل بزوغ فجر اليوم التالي، حيث لم ينم تلك الليلة أحد من الجيران وساعدوهما على إعادة الطفلين الى العازرية.
أبعد الله عن الجميع بنات آوى وشرطة حبيش ولا أعاد الله سوق العازارية …

شاهد أيضاً

وفاء بيضون : هل تُحقّق «الورقة الفرنسية» نجاحاً في الترتيبات الأمنية بعد فشلها بالملف الرئاسي؟!

كتبت الإعلامية وفاء بيضون  تتجه الأنظار مجددا نحو تحريك المحركات الفرنسية تجاه لبنان، ولكن هذه …