(قصة قصيرة عمرها مئة عام)

عاد المُحارب بعد مئة عام من المعارك والحروب والنضال.
عاد مُنتَصِب القامةِ، مرفوع الهامةِ، يُقطر النّور من وَجْنتيه، تلمع عيونه بالعزّة والإباء، ورغم مُضيِّ مئة عامٍ لم يمسس الضُرُّ له جسداً، لم يخطّ المشيب له رأساً، لم تَشِخ له روحاً، في عمر الشباب عاد، بطل منتشي، حرّ منتصر، بتواضع الشّهداء خطا، لعزّةِ الوطن عاد، ليشمّ رائحة الورد والصنوبر، ليُشبع النظرَ بأوراق الذهب من التبغ، لِيَجبُل البُرغل مع جدّات القرى، لم يُثقل الخُطى غير القلب المجبول بالحبّ والنفس المُتخمة بالأمل. أمّا عن المُخيلة: فجِنانٌ لهذا الوطن الأخضر، فرحُ الأطفال، ابتسامة الشباب، رضى الأمهات والآباء، سكينة الأجداد والجدات.
كان.. وما إن اقترب من فيافي الوطن ومن رائحة الأهل والتعب و… حيث كانت النظرات تستبق خفق النبضات بوطن الجمال، كيف وقد التحفته غمامة سوداء، و جهنم خاطت الحقول بنيرانها شيئاً فشيئاً.. وكانت الأنفاس تتسارع على وقع الخطى.. ثم هرول يستبق الريح والصهد إلى أن وصل…
وهناك جحظت عيناه ممّا شاهد، والبصر عاد حاسراً، والأنف.. لا هواءَ نقيّاً يدخل الصدر، فقد أزكمتِ الأنوفَ رائحةُ المرضِ والموت التي طغت على رائحة الدّخان، تلال من النفايات في كلِّ ناحيةٍ وصوب، أناس في الشوارع تصارع الجنون والخبل، أناس تترنح، تصارع المرض اللعين الذي هتك أجسادهم، مقابر أمام أبواب المشافي، الأطفال يمضغون السُّمَ الزُعاف والشباب يستنشقونه بلا إرادة، ورجال يحرقون أجسادهم امام أبواب المدارس نصرةً لأطفالهم الأبرياء، رُضّعٌ وقد التحفوا البلاط، كي لا يقضوا من شدة القيظ، وما تبقّى من أنهارٍ أسِنَ ماؤها، وبالقرب من ميناء الوطن آلاف مؤلفة من أبناء الوطن تنتظر الفرار من الجحيم، عيونهم جاحظة من الأهوال والرّعبُ نال منهم، الأمهات قابعات في البيوت تنتظر.. إلهي كيف ينتظرن الموت!! الآباء يتوسّلون الأعداء والأصدقاء لكي يُخرجوا أبناءَهم إلى برِّ آخر.
بعد انتباهةٍ.. أخذ المحارب يستوقف الناس، يتوسّل بالسؤال عمّا حدث؟ ماذا حلّ بكم وبالوطن؟ بينما الناس كالفراش المبثوث، اجتاستها الريبة منه وهم يفرّون في مكانهم على غير ما هٌدى مذعورين خائفين، نحيبهم يفِتُّ الجبالَ، يُفتِّتُ الأفئدة…
وهم كذلك، رأى رجلاً يدعي الدين والتدين، يمشي مرحاً، متبختراً كالطاووس، ورغم الحرِّ الشديد، لباسُهُ ثلاثة أثوابٍ فوق بعضها البعض، ويلتحف بعباءةٍ ما زالت رائحه الماعز تفوح منها، وعلى رأسه تاجٌ من قماش طولها يستر مئةَ عورةِ طفل، يتدلّى من عنقه الصليب وبإصبعه خاتم من النجف وسُبحةٌ على شاهدها هلال من الحجاز…
استوقفه المحارب، رمقه الرجل بنظرة متعالية فوقية، وقال: هات ما عندك لدي مصالح أقضيها، فسأله: ما هذا الجحيم؟ ماالذي حدث؟
فأجاب: يقولون أن القائمين على هذا الوطن، ربما ولستُ متأكداً ولا أُحمّل ذمتي، أنهم لم يكونوا على قدر المسؤولية المُلقاة على عاتقهم، لست أدري…!!
فصرختْ امرأة عجوز كانت بجوارهم، لم يُبقِ البؤسُ على ملامحها شيئاً… لستَ أكيداً! ربما! ذمتك!
يا بُني، هـؤلاء “المؤتَمنون”.. هـؤلاء الشياطين، سرقوا عقولنا، ديننا وأموالنا، نهبوا الوطن ولم يبقوا منه على رمقٍ.
فعاد المحارب بدوره ونهر ذاك المُدعي للتدين والدين، وقال مُوَبِّخًا إياه: أيٌ مصالح لديك؟ فأجابه في تَذَلُّل: يا بني هناك الكثير لنُحرّمه، والكثير الكثير لنُشرّعه، ومسؤولياتنا عظيمة!! عدا عن أخطارٍ تحيط بنا من كلّ حدب وصوبٍ!! فلم يعد غيرنا قائماً على هذا الوطن، فالأحزاب ذابت بين الملل والنحل، والنقابات استحالت وأضحت أصنامًا، ورجال الفكر والثقافة قابعون فى مجالسهم يجترّون ماضيهم، أما المعلّم فأصبح مقهوراً، العمّال والمزارعون فقدوا مصانعهم وأراضيهم و… و… ومن بقي في هذا الوطن فالله المستعان، ومن رحل نتمنى له أن لا يُذَلّ في الغربة أو يُهان…

وما كاد ينهي الرجل كلامه، حتى اشْتعل رأس المُحارب شيْبًا، وَكَل لِسانه، ووَهنَ عَظمُه، وخرّ بدنه، وذاقت نَفسُه الموت…….،وإنْحَلَّ هباءً منثورا، ……….، فكانت الشهادة الاولى !

محمد حمادة

شاهد أيضاً

قالت الصحف: عناوين عدة لمشهد سوريالي

تعددت وتنوعت العناوين الرئيسية لإفتتاحيات صحف اليوم: تداعيات وفاة الرئيس الإيراني ورفاقه، تصعيد غير مسبوق …