غربلة التعب ..

أحمد وهبي

لتلك .. ما قبل الحياة، وما وقع .. وكان من ملمح المعاني والأشكال ..
فإنّي، طويتُ أسفاراً بقطرةٍ تنسلُّ لمِدادٍ مُطعِّمِ اللمسات، وجمعتُ خلايا حوارات النفس، ورسمتُ خطّاً معقودَ الأرحام؛ فكانت دليلي لقلبٍ في القلب، لملء فراغٍ يُماثلُ الزمن، يُفَسِّرُ معنى الجوع، من حينها .. أدمنتُ احتراقي، بأنّ الصبرَ اقترافُ هذا العمر البسيط والمُعَقَّد، بأنّي في انبساط الغرائب .. احتسيتُ أيامي بكأسٍ كالماء بلا لونٍ وطعمٍ ورائحة، ولأنّهُ الحياة .. يحتمل المضادات الحيوية، والوجود، ويتردَّدُ اعترافاً وارتساماً، التماساً لتناسلِ المفردات؛ فكانت متشابهات النَسبِ والأسباب، وفي هيجاء الإحتباس، أحلامٌ محاصَرةٌ .. تسردها قوافل اللغات والمطر، لتلك، عند ناحية الغرباء، بكى جسدٌ بلغ سنَّ الرشد، وتاقت روحٌ لخوارقَ قديمة .. تظنُّ عاشتها، ولكتابةٍ لا تُفَسّّر، لا تُترجم ..
*
فأنا في انصهار العناصر، أخذتُ شكلي المتواسم التحوّلات، ولأنّها لا إرادية، نقع على صورنا بالتدرُّج .. لحياةٍ تظلُّ تسحبنا إليها، وكثيراً وجدتُني أسحبُ نفسي منها، وبعض المطارح بلا جاذبية، والأشياء المُغتالة عبر النفوس السوداء، تُترجمها الأبعادُ لغاية التطوّر، والأفكار المُتفحِّمة .. حلقةٌ مُحكَمة الأغلال؛ فكنتُ ألوذ ببعضها يائساً من برودةٍ ثقيلةِ الدّم والمزاج، وأروح أكتَتِبُ لذاتي الحزينة، لعلّ ينشقَّ عن آلامها مَن يواسيني في مفزعي ..
*
في منافي يسودها الوئام، يستحيل الفراغُ القاتلُ نقصاً لفيتامين الشباب، وتصير الخيالات لامبالية بأصحابها، أحياناً في الإختلاف والائتلاف .. موجات الجرّاد، ولسببية العدم والوجود، لسببٍ ما .. أفترض وقوعي في زمنٍ فائتِ منذ قتلٍ وحطامٍ طويليْ النهش والإستذآب، والأمل
كحدَّيْ السكين والهاوية، تنتابني مشاعر عشتها، نفسي ألقاها .. تركض من مكانٍ إلى جرحى وقتلى؛ فأرتطم بالدُّخان والروائح، بعين الشّمس .. كيف أترسّل سعفَ رموشها، كما لو ناولتني مِعطفَ بردٍ وسلام، وأغطيةً لأواري سوءات خطيئة الدّماء ..
*
ولم أنسَ، انحدارَنا تلك الليلة عن مثقال الحياة، وبعض الذرّات في أوضاعٍ شديدةِ العنف والإنفجار، والليل ينسلُّ لصبحٍ بلا أحلام. في مشواري القديم .. استمرارٌ لانسلاخ الروح، كلّما تعود الى كتابها، أفتح لها بطون الكتب وأُمّهاتها، وليست غير واقعٍ عالقٍ في أمثاله .. فيه، أظلّ أُلملمُ أطرافَ الأجساد والحديث، وبضرورة الاهتداء إليّ هناك، دققتُ مساميرَ بيت لحم، ولغة بابل، وتلك الكؤوس الأثيرية .. ترواد آخرَ صيفٍ وضيف، ومعلّقات عُكاظ .. والجنائن المُعلّقة، وعن البلد السعيد، وأنّى ترامت بي رؤاي، أخرج من جسدي فريداً .. ألحق بنا في عيون الكائنات ..
*
من تلك الليلة الشبحِ والمسافة واللحظة، واريتُ دمعةً في قبضة يدي، ورغبتُ بنظرةٍ علّقتها، لا أدري إن كانت وداعاً أم للقاء. بعدها، بآلاف الليالي، وجدتُ وقتاً قديماً .. كان أسيرَ السبّورة، وخطوط الطباشير البيضاء، لم تنل منها الطعنات، وبصمات الأنامل .. مثل كعك العيد، أذكرُها ليالي العيد .. حيث الأمهات والجدّات وكلّ أيدي الخير والعطاء، ولا نهاية. لبدايةٍ مصحوبةِ الإرادةِ والمرارة، أتبعُ المشاهد في غياهبها البعيدة، أستحضر قريني، وأطرق على ظهر الوقت ورأسهِ .. حتّى ينصاعَ لوحشةِ النفوس ..
*
لسهامٍ كيوبيدية النظراتِ والقلوب، كانت تشيرُ إلى… حتّى أخذ الفراغ منّي، حتّى رحت أهيل عليه نثيث الأوراق؛ فإن امتلأ  من كلّ الأشياء، ينتاب الضيقَ هذيانُ الفراغ، حيث تتلاطم الأفكار ليومٍ جديد. والأفكار حاجة، حاجة لغربلة التعب .. فلا تبدو الوجوه كأشباحٍ أرهقتها الخطوب ..
*
ولي، أن أُطعِمَ المواقدَ من روحي وعقلي؛ فإن آلمني العقل، ذهبتُ اعتراضاً وامتناعاً لنهشٍ يتوسّلُ العدمَ، وليست المؤثّرات ما يمنح الشعور العميق، لكن، ترافقنا إلى المخادع، تخطف المنامات إلى الأدنى المجهول، حولها، تضيق الفراغات .. تشدُّ على الأنفاس، وبعض الحالات .. حيواتٌ لمرّاتٍ خارج التكوين. لكن، وقد مزّقتُ أنفاق الزمن اللولبية .. ورائي، أمامي حلقاتٌ مضيئة تتبدّى، تنتشلُني من هذا الشقاء العميق .. شقاء البشر، ثمة قوى خارقة تُدرِكُني كلّما يكاد يقع عليَّ الموت ..
*
أعرفُ أطوارَ العقود، أعرف هذا الإمتلاء اليقيني، أعرف أسباب انكسار الحياة. أركض، لطالما منذ همهمات البشر والكائنات، منذ أوّل حرفٍ وكلمةٍ ومخطوطةٍ ومُجَلّد. في كتابٍ بين يديْ الوقت، أدخلُ في تلك العوالم فيه، لا شيءَ يوقِفُ تفاعل المشاعر والرؤى .. فانتبهتُ لجسدي يتماردُ، لعينيَّ تبرقان، تنظران البعيد، لروحي متعدّدة العوالم .. تكتشفها، وقلبي واقعٌ في الغرام، ينبض بالشيء وضدّه، ولنرجسيةٍ مزدانةِ اللّهاث، تتبعها المرايا لوجوهٍ مسكونةِ الغايات، ولأنّني من أرحام الحنين والعاطفة .. امتلكتُ قلبَ أٌمٍّ وأبْ، ومَن أنا منهم .. ومَن عنّي، يُصدِّقون رؤاي، لا يصدفون حتّى عن الأسباب المجهولة، وأسلوبي مقرون بهوس الذرّة، بحبّة الرمل وحبّة الكون المذيّلة باقتراف الوجود ..
*
في تالدِ الحياة، ترنّحٌ لسفينة الفضاء، وقد عضّ عليها اقترافات البشر، يُظَنُّ لو تخضع، وأنّهُ لشَغفٌ قديمٌ هزيلُ الفكرةِ والحيلة، كونها تمنح .. لا تخضع، وبلوغ الغايةِ إرادةْ تحتمل، تختزل هذا الإحتراب والإجهاض الحضاريّ.

شاهد أيضاً

عون التقى رئيس أركان الدفاع الغاني و3 نواب

  استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة رئيس أركان الدفاع …