مقال نادر لنزار قباني عن السيدة فيروز:

إعداد: المحامي كميل سلوم

💜 فيروز تلك الدولة العظمى 💜

بعد ثلاث سنوات من العطش جاءت السيدة ذات الصوت المائي.
جاءت فيروز…
هجمت علينا كغمامة،
هجمت كقصيدة،
هجمت كمكتوب غرام قادم من كوكب آخر،
هجمت كتفاصيل حب قديم.
بعد ثلاث سنين من البشاعة جمَّلتنا
وبعد ثلاث سنين من التوحش مررنا تحت أقواس صوتها الحضاري فتحضرنا.

غلط تسميتها سفيرة أو أميرة أو وزيرة
فكل التسميات صغيرة عليها،
كل اللغات أقصر من قامتها،
إنها أهم من كل الوزارات والمؤسسات والبرلمانات والنشيد الوطني والطوابع التذكارية والبطاقات السياحية ووكالات الأنباء وافتتاحيات الصحف وأحزاب اليمين وأحزاب اليسار وأحزاب الوسط،
إنها وحدها حزب،….. إنها حزبنا.
حزب الذين يبحثون عن الحب وعن العدل وعن الشعر وعن الله وعن أنفسهم.
أمس في مسرح البيكاديللي كان الوطن يمشي..
خلال لحظات نهض كل شيء من مكانه ومشي وراء «فيروز» وعاصي ومنصور.
الجبال والأنهار، والمراكب والبحار، والصيادون، والمآذن والكنائس، والمدارس، وخوابي الزيت والقناديل، والعصافير وأرغفة الخبز المرقوق، ورائحة العرق المطيب باليانسون وأجران الكبة المتقاعدة عن العمل في زحلة.

رأينا فيروز ترش ماء الزهر علي وجه الوطن فيصحو من غيبوبته،
ورأينا الحجارة تتبعها، والشبابيك تتبعها، وأشجار الغابات والينابيع، وأكواز الصنوبر والخرفان الربيعية تتبعها، وتراب لبنان يتبعها.
كان الوطن يولد كالقصيدة بين شفتيها، وكان لبنان يتشكل كما تتشكل اللؤلؤة في داخل المحارة،
وكنا نتشكل علي ضفاف حنجرتها كما يتشكل العشب علي ضفاف نهر كبير.
وكان مسرح البيكاديللي سرير ولادتنا الثانية،
وكانت فيروز في كل لحظة صوتية تعطينا تذكرة ميلاد جديدة وعمراً جديداً.
ماذا فعلت بنا هذه السيدة المائية الصوت؟
ذهبنا إليها نحمل لبنان بين أيدينا سبع عشرة قطعة، فنفخت عليه وأعادته إلينا قطعة واحدة.
دخلنا عليها مشوهي حرب وخرجنا، أصحاء..
دخلنا عليها لا نقرأ ولا نكتب، وتخرجنا في مدرسة صوتها بدرجة امتياز..
دخلنا عليها مجانين وخرجنا عقلاء..
دخلنا عليها رملا وترابا وخرجنا شجراً..
دخلنا عليها أكلة لحوم بشر وخرجنا شعراء.
أمس كنا علي موعد مع العمل الرحباني الممتاز «بترا»..
كنا علي موعد مع المائية الصوت.
بيننا وبين صوت فيروز حفرة كبيرة كبيرة اسمها الحرب الأهلية..
بيننا وبينها جبال من الحزن وقارات من الملح.
بيننا وبينها زمن البشاعة والموت واللا شعر..

كنا خائفين أن لا تعرفنا.. كنا خائفين ألا نعرفها.. خفنا أن تكون الحرب الأهلية قد طردتنا من الشعر وجعلتنا غير قادرين علي الانتماء لعصر فيروز.
في تلك الليلة كان مطلوبا من صوت فيروز أن يكون أكثر من صوت. كان مطلوبا منه أن يكون زعيما وقائدا سياسيا ومعلما وقديسا.. هكذا كنت أفكر قبل رفع الستارة!

وغنت فيروز، وبدأت أمطار الشعر تتساقط وبدأ الزمن يتكون مرة أخري، وبدأت أعمارنا تتكون مرة أخري، وبدأ الوطن يتأسس علي شفتي فيروز غيمة غيمة، وشجرة شجرة، وبيتا بيتا.
قعدنا كالتلاميذ بين يديها.. خضعنا لهذا الصوت العادل، النبيل، الرائق، الواثق، اللا زمني، الشجاع، الملائكي، الملوكي، المقمر، المبلل بالعشق..
وتغطينا واحدا واحدا بشراشف صوتها القمري.

أمس في مسرح البيكاديللي تسلمت «فيروز» السلطة ثلاث ساعات استطاعت أن تحكمنا وتوحدنا وتهذبنا وتثقفنا وتغسلنا من غبار الجاهلية..

كان الوطن محطما فشالته بحنجرتها..
وكان يتيما فأخذته بين ذراعيها..
وكان متناثرا فلملمته..
آه كم هي عظيمة ومدهشة هذ المرأة!
عظيمة لأنها استطاعت أن تكون دولة لها حدودها وسيادتها وقوانينها ودستورها ومؤسساتها وبعثاتها الدبلوماسية.. ومدهشة لأنها حين انكسرت أرجل الدولة شكلت فوق حنجرتها حكومة ظل أو حكومة منفي، وقدمت للوطن المكسور عكازين: عكازاً من الشعر الجميل وعكازاً من الصوت الجميل فمشي عليهما.

كانت فيروز تقوم بتلصيق خارطة لبنان المقطعة.. كان «عاصي» يحمل زجاجة الصمغ «ومنصور» يجمع فتافيت الورق وعناوين القصائد التي طيرتها رياح الحرب الأهلية،
وكنا نحن في مقاعدنا نبكي كالأطفال ونحن نري بيروت تخرج إلينا كحورية من شفتي فيروز.
…………….
من مجلة الحوادث.. بيروت 17 / 2 / 1978 م

شاهد أيضاً

يوم نكبة “إسرائيل”

عبدالحليم قنديل لعله أسوأ أيام التاريخ العربى الحديث ، فكيان الاحتلال “الإسرائيلى”يحتفل فى 15 مايو …