تسونامي “أوميكرون”: لقاح طبيعي فرض نفسه على غير الملقحين

البروفسور غسان سكاف
الجامعة الأميركية في بيروت

فيروس كورونا اللعين، الذي تسلل من حيوانات أسواق ووهان في الصين أواخر عام 2019 واستوطن في مدن وقرى كوكب الأرض وهجم على البشرية ووضعها في أقفاص وأدخل العالم في أكبر حجر صحي في التاريخ، يستكمل مسيرته اليوم ويرسم أدواراً جديدةً له في العالم.
آخر المتحورات المشتقة من وباء كورونا هو “أوميكرون” الذي اكتُشف للمرة الاولى في بوتسوانا، الدولة الجارة لجنوب إفريقيا، والذي يحتوي على عدد كبير من الطفرات تُقدر ب32 طفرة ما يساعد الفيروس على تفادي المناعة وأثر اللقاحات الحالية والذي قد يؤدي الى العودة الى المربع الأول في مواجهة هذا الوباء.
مع دخولنا في عمق فصل الشتاء انتشر المتحور “أوميكرون” في كل أنحاء العالم ومما لا شك فيه أن هذا المتحور سيُهيمن في الأسابيع و الأشهر القليلة المقبلة لأنه ينتشر بسرعة كبيرة ما قد يؤدي الى ضغط كبير على النظام الإستشفائي وعلى العاملين الصحيين.
وبينما اتسمت إجراءات الموجات الأولى في السنتين الماضيتين بقصور مخيف من قبل معظم الدول الكبرى والصغرى لأن حكوماتها عمدت الى تقديم أولوية إنقاذ الاقتصاد من الإنهيار على إنقاذ حياة الناس ما أدى إلى أرقام مليونية في أعداد الضحايا والمصابين، نرى اليوم بروز عالم آخر مختلف تعلّم من الدرس الموجع الأول من هذا الوباء وصمّم الآن عل تعميم إجراءات موجعة في مواجهة المتحور الجديد. ولكن هذه الإجراءات التقييدية وحدها ستبقى عاجزة عن احتواء الوباء إذا لم تقم منظمة الصحة العالمية بدورٍ فعّال للضغط على الحكومات من أجل الوصول الى تغطية عالمية شاملة للقاحات والمعالجة السريعة للتباين في معدلات التلقيح عبر العالم. فالتأخير في إنجاز الحد الأدنى من المناعة المجتمعية على مستوى العالم بأسره سيعني السماح لفيروس كوفيد-19 بمواصلة التحور الذي هو في صميم طبيعة الفيروسات.
إن غير الملقحين في العالم قسمان ، مجموعة كبيرة لم يتوفر لها اللقاح ومجموعة أخرى ترفضه:
– إن ظهور المتحور “أوميكرون” في جنوب افريقيا هو دليل على أن الفيروس قد انتهز الفرصة للتطور في الدول التي تتمتع بمعدلات تلقيح منخفضة ما منح الفيروس المزيد من الحرية للتحور والانتشار.
تُظهر أرقام الأمم المتحدة أن 67% من الأشخاص في البلدان المرتفعة الدخل قد تلقوا جرعة واحدة من اللقاح فيما حصل أقل من 10% عليها في البلدان المنخفضة الدخل. إن التفاوتات في توزيع اللقاحات هي فضيحة أخلاقية على منظمة الصحة العالمية العمل بجدية وحزم على إنهائها من أجل أن يستقر كوفيد-19 في نقطة تُشكل نمطاً أقل اضطراباً فيصبح حالةً نستطيع التحكم بها الى حدٍ كبير مع تفشٍ موسمي سنتعلم لاحقاً كيفية التعايش معه مثل الانفلونزا.
– إن رفض الاجراءات الحكومية في عددٍ كبير من المجموعات وإصرارها على مقاومة التلقيح وهي التي تؤمن بنظريات المؤامرة وتعتبر أن الدول والحكومات تعمل للسيطرة على المواطنين وتكبيلهم وقمع حرياتهم، تمثلت بمظاهراتٍ ضدّ التطعيم في أميركا والبرازيل وأوروبا قامت بها مكونات من قوى اليمين المتطرف ما سبب تدنياً ملحوظاً في تلقي اللقاح في دول عديدة بالرغم من توافرها.
وبينما أدى انتشار متحور “أوميكرون” بسرعة فائقة في العالم الى “تسونامي إصابات” رصدت 935 ألف إصابة يومياً بين ٢٢ و ٢٨ كانون الاول 2022 وهو عدد لم يُسجل منذ بداية الوباء في نهاية 2019 بزيادة 37%، سُجل تراجع بمعدل الوفيات بنسبة 75% مقارنةً بمتحور دلتا.
وفي خضم هذا التسونامي المستجد أفادت بيانات شركات فايزر-بايونتك وموديرنا وأسترازينيكا بأن لقاحاتها الحالية ومع أنها لا تستطيع الحماية من انتقال عدوى “أوميكرون” شديدة الانتشار إنما تحمي من مضاعفات مرض كوفيد-19 وتقلل من خطر الوفاة بسبب الفيروس. واللافت أن كل البيانات تؤكد أن “الجرعة المعززة” من لقاحاتها ضد كورونا تزيد مستوى الأجسام المضادة القادرة على مقاومة متحور “أوميكرون” ما يُعوض التراجع السريع لفعالية اللقاحات ضد الفيروس.
إنه لأمر مشجع للغاية أن نرى أن اللقاحات الحالية لديها القدرة على الحماية من متحور “أوميكرون” بعد جرعة معززة، كذلك فإنه أمر مشجع أيضاً أن موجة التفشي هذه باتت أكثر اعتدالاً مما أدى الى انخفاض في معدل الإصابات المصحوبة بعوارض شديدة، وذلك يعود إما الى خصائص المتحور أو الى أنه يصيب مجموعات بشرية أكثر مناعةً بسبب تلقيهم اللقاح أو تعافيهم من المرض.
لا شك أن سياسة إغلاق الحدود الوطنية في وجه جائحة كوفيد-19 ستظل سياسة عبثية لأن المتحور سيستمر في أماكن أخرى ثم يعود لاختراق هذه الحدود بعد تطوير طفرات جديدة لن تقوى اللقاحات على مواجهتها جميعاً مهما تطورت. ولكن، مما لا شك فيه أيضاً أن أعداد الذين سيدخلون المستشفى ستكبر إذا استمر معدل التفشي بين المجتمعات في الارتفاع خصوصاً عندما نرى أن أكثر من 95% من مرضى العناية الفائقة حالياً هم من غير الملقحين.
إن الانتشار الهائل لمتحور “أوميكرون” بين سكان العالم مع نسبة قليلة من الأشخاص الذين يحتاجون لدخول المستشفى ربما يُشكل اليوم اللقاح الطبيعي الذي لم تستطع أو لم تجرؤ الشركات العالمية على صنعه ما سيؤدي بالتالي الى “تطعيم طبيعي إجباري فرض نفسه على غير الملقحين” الذين إما قاوموا التلقيح أو كانوا ضحية التفاوتات في توزيع اللقاحات في كل أنحاء العالم.
ولكن… من المبكر الاستنتاج بأن هذا اللقاح الطبيعي أو الجرعات المعززة ستُشكل الضوء الأخضر للاحتفال بالانتصار على الوباء.

 

شاهد أيضاً

يشترونه وكأن نهاية العالم غدا”.. هذا ما يفعله الصينيون بأسعار الذهب في العالم؟!

يقبل الصينيون على شراء الذهب بكميات كبيرة بعد تراجع ثقتهم في الاستثمارات التقليدية مثل العقارات …