لعلَّ يُبنى على الدّمِ مُقتضاه ..

 

أحمد وهبي

1
تطلعُ شمسُ كلِّ يومٍ كمُسَلَّمةٍ لا مناص عنها …
تتبدّى إحياءً لخيالات الطالعين إليها، وهم في محوهم، في انتباهتهم، غارقون في تقاليدهم، ولأنها سياقهم المعرفي، يقعون في وطأة شمسهم ذات السردية القاسية.
ولأنّها إلى مستقرٍّ لها .. نعيش دوران الأرض حولها كذاتيّةِ كينونتنا، وحول الشمس إطباقاً للزّمن والمواقيت.
هناك، منذ البداية، عوالم تتضافر نِزالاتُها حتّى تجتمع، تتلافح وتتناقح لتثبيت سردية الدّم المباح. واقعية الاشتباك التاريخي في “ال” نحن .. في “ال” هم، في تشكّل المفاهيم والهوُيات ضمن لعبة الغالب والمغلوب المُتقنة النرجسية القاهرة والمقهورة.
هناك، حيث الذاكرات تنبش بداهات الأرواح، لربّما للحصول على جوهر المعادلات ذات الطابع اليقيني، ولأن العوالم تعيش لايقينيّتها في ذاكراتها المنسيّة؛ فيغلب عليها أنماط العنف لتجديد أصالةٍ في أصلها غير عنفية، وما بين سيادة العنف، تتظهّر سلوكيات لا يحكمها المنطق، ولأنها مُغرَقةُ التفاصيل  .. وجهها الباحث في الوقت عن وقتٍ متداخل الفضاءات، ولأنّنا القصص والصور والانتحالات ضمن سيكيولوجية الترحال في ذات المكان، ولأنّها المكان والزمان – في هذا الزمكان – اعتمارٌ لأدوارٍ مسبقة، نجيئها بذي فحوى غريزيّةِ اليقين لهاتي الأدوار في كلّ ما يُشكّل كينونة البشر، وهي ذات سردية تشابكية تشاركية واسعة ومبهمة، كون السعيّ للتحرّر لا يستقيم ضمن بوتقة الانصياع لمدارك ليست بالضرورة مُنتِجة، رائدة، ولا انتفاء لها بقدر تكثيف المدارك بما يتلاءم والسؤال، الغرض للانخراط، والحثّ على تجاوز اختلافات جرى تدجينها ومن
ثَمَّ تطعيمها بتيماتٍ برّاقة .. تيمات بمثابة العجز القهري – الوسواس. لذا، الغاية من التحشيد المعرفيّ، كسر تابوات الصنمية الحداثية .. وهي صنمية اخترقتنا جميعاً، لعلّ يُبنى على الدّمِ مقتضاه ..!!؟
2
حين ترامى بصري من وراء أفكارٍ ملبّدة، انتصبت أمامي جدائل جليدية تهادلت نظراتٍ باسمةً وشفاهاً تقطر نداها، كأنّها بجموعها تختزن وجوهَ آلهة الطبيعة والعناصر، وبعض الذكريات الصامتة في إطار جِصٍّ شحبَ لونُهُ.
عند فكرةٍ مغتالة، وردةٌ انحنتْ تأثّراً، وتلك الخيالات إلى بيوتها السِرّية، وفي انتباهةٍ أخرى، كان ولدٌ بين الحشود، كان يرتفع فوق الأكتاف ثمّ يهبط حتّى يكادَ يلامسُ أرواح الأرض الثائرة، وبين الهتاف والتصفيق .. تشويقٌ له ملامح وأسماء ومشاوير، أيضاً، وفي ليلةٍ من طراز القرن الثامن عشر، ذهبتُ فيها لعلّ أقع على أجدادي، الذي، صدف في مرآة ذاتي، هرعَ إلى مخبىء سلاحٍ ما، هرعت في عينية ولم يغمض لي جفنٌ، ولولا جدّةِ جدّتي .. التي قرأت ملامحي، وشعرت بروحانيتي، التي، هي معيني الروحي، يا لها من لقطةٍ رائعة، قبّلتتي، وأثنت عليّ، ثمّ تبعتها على خجلٍ وجدي الأكبر يكاد من أنفاسي، وقد جحظ بعينيه، وأفلت عقال الورع، فكنتُ أدلف من غرفةٍ إلى أخرى، وما إن عبرت باب السرِّ، وجدتُني في بداياتي هناك، وقد نسيت “كود الباسوورد” .. والهلع يصير افتتاناً، لا أذعر من دردشةِ آخر الليل، وتلك المنامات تسرج خيول حطين، تاريخٌ لم تُنبش أوراقهُ بعد، ثمة قطبٌ تحتاج لمن يعمل على فكفكة أحجيتها، ولسوف أفعل لعلّ يُبنى على الدّم مقتضاه ..!!؟
3
في تلك الليلة، تلك المثقلة الغرباء، توقّفتُ عندهم .. وسألت عن كبيرهم، كانوا كخيالِ واحدٍ لأجسادٍ مبعثرة، كذا، الأفكار والرؤى متفرّقة، لا تفي المقام حقّاً، ثمّ، كنتُ أنتظرُ بزوغ الفجر حين داخل عينيّ النعاس بعد صلاة الفجر الأخير.
تلك الليلة، حين عدتُ من واجب الحراسة، كانت الساعة تشير للفجر. بعدها غبتُ عن الوجود، وكلّما لامستْ جفنيَّ نسمةٌ همسةٌ لمسةٌ ضحكا لبرهةٍ لثانيةٍ بعد فاصلةٍ من المليون. بعد معضلة الوقت ولجج الحياة والموت، أفقتُ في غير مكان، هالني مشهد لحمي ودمي، فآليتُ أتبع نجمةَ المجوس، وليس زمناً، فمن أورشليم إلى قُم .. أطفال الحجارة وقانا، مجازر كفر قاسم ودير ياسين، مجازر الوطن، في ذلك اليوم، لملمت جثثي، واعتصرت خمرة الجراح، وأثنيت على العمّال والفلاحين، وجمعت أبخرةَ الأنفاس، وليس لغايةٍ بعينها، إنّما لاكتمال الغضب .. لعلّ يُبنى على الدّم مقتضاه ..
4
الشاخصون، سجناء الأفكار، على مواعيدهم القابلة للصرف والنحو، يتصعدّون نوتات زرياب، بيتهوفن وموزار، السنباطي وسيّد درويش. حين تقطّعت أوتار الحياة، استخدمنا كرات الصوف، لكن، لا تفي بالمطلوب؛ فانبثق عن سلالات إبن رشد .. حالات اختناق فكرية، لذا، سكن الفاطميون عن قاهرة المُعزّ، والعباسيون عن بغداد الرشيد، والأمويون عن شام عمر بن عبد العزيز، والخلفاء وقعوا في شرك وحراك المهاجرين والأنصار.
الطلقة، وقد أصابت ماء القصب، الشوارع والأزقة، الملاعب وأحراج الصنوبر أصابها الملل وكثيرٌ من عيون القناصة. والولد يحرث الوقت بكلاشينكوف أمام الفرن لجائعين ، وقد ذهل عن المشاهد الفظيعة .. ولولا كريمٌ أمسك باللحظة، لتمكّنَ بعض العملاء من النيل منّا جميعاً.
بعد سفرٍ .. غرَقٍ  .. وقوعٍ في مكين الدّم. حارسُ غرفة التعذيب .. أذكر اسمه وشكله، هل ما زال حيّاً .. لست أدري، كما لو مأساة حصلت، وقعت للتوّ. ولأنّني من أترابي .. وهم منّي، ولأنّي واحدٌ ومقسومٌ بلا نهاية، أمليتُ على الطيور المهاجرة رؤياي، وأملتُ من جِنِّ سليمانَ بعض جين وفودكا وكافيار وسيجار كوبي، أيضاً، بأن يتحوّل هذا الكوب لكأسٍ في الليالي الملاح، ولا يمنع من ليلةٍ عابرةٍ في حريم السلطان، كي لا نصابَ بمزيدٍ من الخصاء في العقل والنفس، لعلّ يُبنى على ليالي الدّم مقتضاه..
5
قالوا عنهُ، عنّي لاحقاً. وأفردتُ أجنحة الملائك ليوم الحساب، كان سبتاً وسبباً لصهينة الأديان، ولم يفرغ إبراهيم من بنيه، فكان يغرق ثم يطفو، حتى الحربين الكونيتين، فليس هو من بلاد الرافدين، ليس من بلاد الشام ومصر، وهرتزل يشقّ نقاب أوروبا، فانصاعوا كحُمرٍ مُستَعْبَدة، وعبد الحميد الثاني .. لا يقوى على الانقلابيين، وشرفاء العرب ترهّلوا في أنخاب الإنكليز والفرنسيين، أين منها سيرة تغلب وكليب، وثائق سنودن، سنونوات الحسين، ممالك الأندلس، أطلنطا ولاس فيغاس، غجريات الشرق والغرب، الخزريون في فلسطين، الفينيقيون في بلاد أميركا اللاتينية، الفراعنة في العالم الجديد وكلدان وآشور، وعامليو ابن سبأ .. في يمنهم السعيد – المُدّمى، كذا، مزامير الطغاة والمتسعدنون، مرتزقة بلاك ووتر، فاغنر والسفارات، اللحم بعجين والكبة النيّة .. العرق والتبولة، قسد وأحاديث الدول النووية، اعترافات المجانين، السلاجقة والمماليك .. أمَّةٌ كأنّي بها تحدّرت عن هاتي السلالات؛ فضاعت الأحساب والأنساب. وعليه، عقوبات البيت الأبيض على العِجل الأحمر والأسود حتى حين، لعلّ يُبنى على الدّمِ مقتضاه ..

شاهد أيضاً

حمامة السلام وغصن الزيتون

كتب د. تيسير أبو عاصي – الاردن   بعد مرور ستة اشهر على الجرائم الانسانية …