المختار و صديقي جورج

زمن المختار

د.سلمان صبيحة

عندما كنت أدرس في الصف الثامن الإعدادي عام 1975 في مدرسة الحارة القريبة من ساحة “الحمام” في اللاذقية طلبت منّا معلمة اللغة العربية الآنسة “جيهان” أن نكتب موضوع تعبير على شكل رسالة لصديق و قد كتب التلاميذ كلٌّ بأسلوبه و لصديقه و كتبت أنا وقتها موضوع بعنوان :
“رسالة إلى صديقي جورج” فأُعجبت المعلمة بالموضوع و لفتَ انتباهها كيف اخترتُ اسم جورج كصديق لي و أنا و كل طلاب المدرسة من بيئة مختلفة و ليس في حارتنا أو حيّنا
“حي المنتزه” أي عائلة اسم ابنها جورج “طبعاً في ذلك الزمان” ، فكل الأسماء هناك علي و حسن و أحمد و حسين و محمد ومصطفى وجعفر…إلخ .
استغربت الآنسة أن يكتب مثل هذا الطالب الذي يسكن في هذا الحي الشعبي المتواضع رسالة كهذه، غير أنها لم تستطع إخفاء إعجابها بما كتب و طلبت من الطلاب أن يصفقوا لزميلهم على هذا الموضوع المميز . من جهة أخرى الآنسة “جيهان” بدأت تفكر ملياً بموضوعي الذي كتبته وربما من باب الفضول و حب المعرفة والإطلاع سألت مدير المدرسة و مختار الحي عن عائلتنا، فأكد لها المختار أننا من سكان هذه المنطقة أبّاً عن جد و قال لها: هذه العائلة من أطيب وأصدق و أشرف الناس بالحي و لكن للأسف عندهم “علة ” واحدة ، التفت حوله و كأنه سيقول كلاماً سريّاً و شيئاً خطيراً
و”همس في أذنها” قائلاً: هي عائلة شيوعية و العياذ بالله “.
و بعد فترة سألتني الآنسة: هل بالفعل عندك صديق اسمه جورج؟.
قلت لها: نعم ، عندما كنا نسكن في دمشق كان عندي رفيق اسمه جورج يسكن في القصَّاع و كان عندي مجموعة من الأصدقاء من مختلف مناطق سورية أيضاً وهم: جاك و عمر و مصطفى و علي و سليمان و آغوب ومحمد وكاوى و ثائر و بديع و عبد الرحمن و مأمون و حسين و عاطف و جميل و أذاد و بلال و فاروق و هارون و… و هنا قاطعتني وقالت لي: كفى … هذا رائع، بعد ذلك وضعت يدها على كتفي و نظرت إليَّ بإعجاب
و قالت: سأزوركم في البيت و أتعرف على أهلك. و بالفعل أتت المعلمة إلى بيتنا و استقبلتها والدتي و أختي الكبيرة بكل ترحاب و بعد أن رأت بيتنا المتواضع الذي هو عبارة عن بيت عمال بسطاء ، فالوالد كان يعمل هو و الوالدة في : “الريجي” أي مؤسسة التبغ والتنباك.
و بعد أن عرفت الآنسة تركيبة بيتنا و حبّنا للعلم و المعرفة و خاصة عندما لفتت انتباهها المكتبة في “الصالون” و كمية و نوعية الكتب التي تحويها ، يبدو أنها ارتاحت لنا و أخبرتنا عن ما يقوله الناس عنّا و نقلت لنا المعلمة بشكل خاص ما دار بينها و بين مدير المدرسة و المختار من حديث و كيف أن المختار يعرف كل شيء عن العائلة و لديه كل المعلومات عنا وعن غيرنا بالتفصيل .
لذلك بعد زيارة الآنسة و الحوار الذي دار معها في البيت بدأتُ أفكر في هذا المختار الذي لم يلفت انتباهي سابقاً و ما هي المؤهلات و الشهادات العلمية و الشروط المطلوبة لكي يصبح الشخص مختاراً؟ علماً أنه في ذلك الوقت لم يكن يلفت انتباهي سوى منصب رئيس الورشة في معمل التبغ الذي كان دائماً والدي يتحدث عنه إضافةً إلى مدير المدرسة و المعلمين و كذلك كان يلفت انتباهي بشكل خاص شرطي المرور بلباسه و عصاه المميزة و هو الذي يستطيع بإشارة منه و بصفرة صغيرة أن يوقف أي سيارة تسير على الطريق، أما بعد الموضوع الذي كتبته و زيارة المعلمة لنا و حديثها أصبحتُ أفكر بشيءٍ آخر و بشخصٍ آخر اسمه “المختار” ،لدرجة أنني بعدها كلما كنت أشاهده في الطريق أو في أي مكان أُلقي عليه السلام بكلِّ احترام و أدب وأقول له كما يقول له الكبار :
كيفك مختارنا.
إذن فمن هو المختار …؟.
عُرف المختار على أنه أحد ممثلي السلطة المركزية على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى في القرى و الأحياء و هذا المنصب
” المختار ” موجود على سبيل المثال في سورية و لبنان أما في مصر فيسمى ب” العمدة”.
لقد كان للمختار مكانة معتدة في المجتمع ، فهو يجب أن يكون من أصحاب الأملاك و حالته المادية يجب أن تكون جيدة ، فكان على المختار في ذلك الزمان أن يكون شهماً كريماً جوّاداً يستمع للجميع و يصغي له الجميع ، إذا أمر يطاع و إذا وعد أوفى ، وكان له مجالسه الخاصة في المضافات و الدواوين يتحدث فيها فيما يخص شؤون البلدة أو العشيرة و أحوال الناس ، كما كان لكبار السن اللذين كان يطلق عليهم اسم ” العضوات” أو مجلس القرية أو الحي نفس التقدير و الاحترام من الجميع.
و هكذا أصبح من المتعارف عليه أن المختار أو العمدة هو همزة الوصل بين الحكومة و الشعب و عمله مرتبط بتسيير و تيسير أمور المواطنين من سند إقامة أو عقد أجار ، وتبليغ المكلفين بالالتحاق بالخدمة العسكرية أو بتبليغ القرارات القضائية أو غيرها من الأمور الروتينية العادية ، و كان للمختار دور اجتماعي كبير في فض الخلافات و النزاعات الأسرية و العائلية… إلخ.
لقد تباينت شخصيات المخاتير بين هذا المختار أو ذاك ، في هذه المنطقة أو تلك وتناقلت الأجيال قصص و حكايا و طرائف عن المخاتير على مر السنين ، كذلك شاهدنا العديد من المسرحيات و المسلسلات التلفزيونية و الأفلام السينمائية التي تجسد شخصية المختار لعل أبرزها صورة مختار
” ضيعة حلوم ” في مسرحية ضيعة تشرين و شخصية المختار “البيسة” في مسلسل ضيعة ضايعة
و غيرها من شخصيات المخاتير الأخرى التي تجسد الواقع ببساطة و عفوية من خلال مشاهد درامية كوميدية ظريفة .
في هذا الزمان زمن
” ثورة المعلومات ” و التطور الحياتي الهائل اليوم و انقلاب المفاهيم و القيم
انقرضت مهنٌ عريقة و ظهرت مهنٌ جديدة و تبدلت الصورة البسيطة العفوية للمختار حتى أصبح في بعض الدول من أصحاب السوابق و “البلطجية ” و أصبحت لبعض المخاتير عقلية خاصة بهم مستهجنة من الجميع يضرب بها المثل
حتى أصبحت مصطلحاً جديداً في عالم السياسة لدرجة أن بعض الدول الغربية و أمريكا تحديداً تعاملت وتتعامل مع بعض الدول ” بعقلية المختار” بشكلها السيء وإعطاء الأوامر والإملاءات، مما أدى إلى اختلال توازن العالم و بالتالي التَّخبط في العلاقات الدولية .
“المعتوه ترامب ” أتقن دور المختار و العمدة معاً ليظهر علينا بشكل مقرف بلقب
” مختار الكابوي ” و هذا ما أكده لي صديقي جورج من خلال المراسلات المتبادلة بيننا ، ” فجورج مستقر مع عائلته في كندا منذ أكثر من ثلاثين عام وهو عنصر فعال ونشيط في رابطة المغتربين السوريين هناك.”،جورج بالطبع لم ينسَ موضوع التعبير ، بدليل أنه سألني في رسالته الأخيرة عن أخبار الآنسة جيهان فأخبرته بأنَّ الآنسة جيهان للأسف قتلوها الإرهابين المجرمين مع عائلتها و مع العائلات المسالمة الأُخرى أثناء ارتكابهم لمجازر قرى ريف اللاذقية الشمالي عام 2013 ، وتابعت رسالتي قائلا له :
على سيرة المخاتير فقد قام الإرهابيون الحاقدون بقطع رأس مختار قرية الآنسة جيهان و كذلك ذبحوا شيخ القرية وارتكبوا أبشع الجرائم بحق الأطفال و النساء والشيوخ ومارسوا موبقات لم تعرف الإنسانية مثيل لها على الإطلاق..طبعاً بدعم وتخطيط من المختار الأمريكي ، الذي أوهم البعض أن هذا هو زمنه.
بالتأكيد إنه لزمن سيء
لكن من مآثره أنه زمن سقوط الأقنعة ، فهذه الأيام ” ياصديقي جورج ” على الرغم من قساوتها و مرارتها غير أنها كشفت لنا الكثير من الخفايا و الخبايا و أصبحنا أكثر ثقة بأنه لن يصح إلّا الصحيح و بأن هذا الزمن هو زمن الشعوب التي إنحازت إلى قادتها الأبطال الصامدين المناضلين المقاومين لمخططات المختار الأمريكي و حثالته الإرهابية المأجورة.
إنه زمن النهوض العارم و قيامة الأوطان المحتلة و شعوبها المقهورة التي لابدَّ من أنها ستنظف نفسها بنفسها وفق نظام كوني دقيق يعتمد على قوانين الديالكتيك العلمية الثلاثة المعروفة وهي :
– قانون نفي النفي .
-التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي.
– وحدة و صراع الأضداد.
لذلك و من هذا المنطلق ياصديقي إني أرى بأن غداً سيكون أفضل و أجمل بفضل دماء الشهداء و التضحيات الكبيرة التي قدمها جيشنا العربي السوري البطل مع حلفائه الأوفياء و أصدقائه الشرفاء
و بأن صمودنا و مقاومتنا لكل المخططات المشبوهة و دحرنا للإرهاب و انتصارنا الكبير عليه لم يذهب هدراً و بأن الحلقة الأساسية الآن هي التمسك بالموقف الوطني أكثر من أي وقت مضى و عدم فقدان الرؤية الصحيحة وضياع البوصلة و أنَّ حجر الزاوية في ذلك هو بالتأكيد الموقف من القضية الفلسطينية و إسقاط الصفقات المشبوهة و فضح المخططات الإمبريالية الأميريكية و الصهيونية و مقاومة التطبيع مع العدو الإسرائيلي الغاصب و دعم محور المقاومة في حربه الوطنية العظمى ضد جميع أشكال الإرهاب العسكري و العهر السياسي و النفاق و التضليل الإعلامي و القهر الإقتصادي الممنهج أميريكياً و غربياً وفق خطط و برامج دقيقة توضع في أقبية البنتاغون ليتم تنفيذها لاحقاً من قبل رأس الإرهاب العالمي العدو الصهيوني الإسرائيلي و أدواته و أذنابه العملاء الخونة المأجورين من المحيط إلى الخليج ،
في الختام يا صديقي جورج لك التحية و الاحترام و أقول لك و أطمئنك بأن دماء الشهداء الأبرار و دم الآنسة جيهان و مختار قريتها و دماء كل الأبرياء اللذين رَووا تراب الوطن لنْ تذهب هدراً…
آني على ثقة بأنَّ هذا الزمان كما قال سيد المقاومة هو زمن الإنتصارات …وهاهي سورية الحبيبة بقيادة أسد المقاومة السيد الرئيس بشار الأسد تسطّر أروع ملاحم البطولة و الفداء في إنقاذ البشرية من الإرهاب الفاشي و النازي الجديد وتصنع نصراً للبشرية و للتاريخ هز الدني .
د.سلمان صبيحة
27/9/2021.

شاهد أيضاً

الفنان الفلسطيني سانت ليفانت يكشف عن أغنيته “قلبي ماني ناسي”

سانت ليفانت يقدم “قلبي ماني ناسي” بأسلوب موسيقي متنوع ومعقد رسالة عميقة ومؤثرة من خلال …