اوغست رودان (1840 -1917)
بقلم الدكتورة بهية أحمد الطشم
انّه من العبث الشّديد ,لامحالة, أن نتصوّر حياتنا دون ردّها لِما يقتضيه العقل وقوته التفكيرية,ولا غرو في ذلك لأنّ كل ما هو عظيم في الحياة هو من صُنع الفكرة العظيمة ,تلك التي تتكون في حنايا العقل ( مركزه الدماغ) وتتمظهر في المبادىء الصحيحة ,فالعقل الذي يحتل منزلة المقياس لمجمل الأمور وينفذ الى أعماق المسائل ويتحرّى الصّحة في الوقائع يؤذن عن كثب بالحقيقة التي شكّلت الشغل الشاغل لمعظم عقول الفلاسفة والمفكرين.
ذلك أنّه (العقل) يُغني عند الانسان تذوّق المعرفة ,ويوقظ فيه الشعور بضرورة الوقوف على حقيقة المسائل, واذا كان الأمر كذلك بالنسبة لعامّة الناس فهو أدق عند المشتغلين في المسائل الفكرية والعلمية.
ولعلّ التوقف بشديد التأمّل عند أيقونة خالدة في الابداع لمنحوتة الرسّام والنحّات العالمي أوغست رودان, واستناداً الى تذكّرنا بهذا الصّدد لأكثر العبارات المؤثرة في تاريخ الفكر الانساني “الجسم آلة النفس.” لابن سينا و (الكوجيتو)لمؤسس المذهب العقلي في الفلسفة رينية ديكارت “أنا أفكر اذاً أنا موجود.”
يُذعن نجم المنحوتة “الرجل المفكّر” الى ” مبدأ التنظيم وأب الأفكار على اقتحام المجهول وتحويل مستحيل الجهل الى ممكن “المعرفة”,اذ يُضفي العقل صفة نفسه التعقّل كمقياس على الأمور,وينفض عنها غبار الأزمنة ويوطّن فيها فضولاً جميلاً.
اذاً يصوّر التمثال رجلاً متأمّلاً يعيش بعقله خلوة حميمية مع بنات أفكاره ,حيث يتبلور دور العقل في الديناميّة التفكيرية ويسند الرجل رأسه الى يده كأدلّ دليل على عمق العملية التفكيرية في لدُن الدماغ (مركز العقل) .
ويكمن نجاح رودان في أنّه استطاع فنياً تصوير عملية التفكير وهي أصعب عملية للتصوير ,حيث لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة أو لمسها, وكانت قد استغرقت عدّة سنوات من الجهد الدؤوب في انجاز هذا العمل.
وتبدو الحواس (محور فلسفة الجسد) متضافرة في حنايا فلسفة التأمّل العقلي لاستحضار أفهوم الحدس والذي أعطاه ديكارت ( الحدس)مؤسس المذهب العقلي سمةً الانتباه العقلي الصافي في ذروة التأمّل التفكيري.
وكما يغرس المفكر في التحفة الفنية قدميه بشدة قي الأرض كدليل على الاصرار في الوصول الى المعرفة الحقّة واليقين الراسخ بعد عصف ذهني ساطع.
وكذلك تعكس وضعيّة الجلوس على الصّخرة الثابتة انطباعاً بارزاً بأنّ الانسان المفكّر أراد أن يبني معرفته على الصّخر والصلصال ,وليس على المتحرك من الرّمال ,حيث تُسبغ الصخرة السّمة الساطعة في سيمياء الأفاهيم على أفهوم المعرفة المنشودة والراسخة التي لا تتزعزع أو تتغير البتّة.
وتكمن المفارقة العظمى في سيرة ابداع رودان المتفجرة من مبلغ ألم صارخ في حياته ,حيث عاش طفولة قاسية في عائلة فقيرة جداًوكان يعاني ضعف النظر الشديد ,وبالرغم من ذلك أصرّ على أن يتعلم لوحده,سيّما بعدما رفضت مدرسة الفنون في باريس طلبه الدراسي آنذاك لمرات عديدة,فعمل في البداية كحرفيّ ومزخرف للنقوش ليكمل مسيرته على دروب الابداع .
وفي الخلاصة, نلتمس حكمة باهرة ألا وهي أنّ الشغف باليقين هو الدافع الأكبر لدينامية التفكير (أهم وظيفة للعقل) وكذلك وظائف التحليل والتمييز والربط والفهم,فكلّما انتعشت الحرية الفكرية ,كلّما انتعشت الحقيقة,فالعقل المفكّر يثمر البديهيات المنطقية والمفاهيم المعرفية ويحملنا نحو أعلى تعبير عن وجودنا ….على اعتبار أنّه القوة الكبرى لحُسن القول والفعل, وطبقاً لِما قال ديكارت في كتابه (مقالة الطريقة لحُسن قيادة العقل) :” لا يكفي أن نملك فكراً جيداً ,المهم أن نطبّقه تطبيقاً حسناً.”