اسماك البحر هربت من الوطن خوفاً من الغرق..

بقلم البروفسّور طلال درجاني،

بيروت في 04 آب 2021.

 

البحر يغرق فوق شرفات بيروت ويزحف ببطء.. أفقيّاً وعموديّاً. مياه البحر تغمر الجبال والوديان المولودة من الرماد والمعجونة بدم الشعب البريء والحيوانات الأليفة… . تراكمت املاح البحر على مفارق الطرق وشيّدت تمثالاً لكل مارد في انفجار 4 آب 2020..

إعصار… يجرجر أطفالنا حبال الغسيل الناعمة وبها بقايا جدران المدينة الملوّنة، يجرجرونها بين الضباب الذي محا الافق نهائيّاً عن خريطة الوطن. سقفت الجدران البحرَ بلوحات فنيّة من انفجارات مخبّأة في عنابر تنتظر الانفجار الكبير.. لحظات وننتهي من مشروع تبليط البحر بغبار الشوارع المغطّاة بخبث بواخر مطلية بألوان عهر السلطة وبنارها التي تحاصر السماء وآلهتها، حاملةً على أكتافها شظايا وأشلاء شعب، اقتظّت في صناديق تسبح فوق السطوح وقد علّقت في هواء الجريمة، واعتلت كل الفضاءات بصريخ دماء حُفِرت فوق كل السماوات.

تطاير عجوزٌ من نوافذ المدينة، وضاع بين هدير دموع الهاربين على عكاكيزهم العرج، وبجانبه قطط منهمكة بفتح ونهم المعلّبات المتطايرة من دكاكين الفقراء. يبحث العجوز عن إله النور في ظلمة فوق الشمس والقمر. تعب العجوز.. جلس يخمّر دماء المرفأ في نفق حطام زجاج الحانات والمطاعم، لملم عن الأرض فتات الخبز الممزوجة بقطرات دمه وقد رشحت من جبينه، حتى بدأ يقطّر بحراً آخر ترسو على موانئه بواخر الوطن الحقيقي التي لا تشحن الا الروح الانسانيّة فقط.

هجمت الضباع على العجوز واغتصبت مياه بحرنا، فتبخّرت المياه وجفّت وتجمّعت في غيوم اصطناعيّة حتى أمطر طوفان من الشر مسحوبٌ برعد الحرب وبرق التشرّد ومطر النيران السامّة. هرست الضباع خبز العجوز بأقدامها الوحشيّة، التصق الخبز على النعال الهمجيّة وانطلقت الضباع ترقص “رقصة الزلزال”، زلزال دمّر هواء الوطن وسجنه في مستوعبات جاهزة للرحيل.. رحل الهواء سرّاً، والوطن.. مات علناً.

لا وطن بين سنابل القمح المحروقة.. نساء الوطن هجرته الى بحار لم تُكتَشف بعد، علّها تلد فيها آلهة تحفر آباراً جديدة فتكوّن في فضائه مرفأً لبواخر الانسان الذي يؤمن بالحق والحقيقة المطلقة، لأن العدالة في وطني اعدمت نفسها بمشنقة عنبر رقم 12 بعدما عصفت مياه حدوده وسهرت بين جذوع شجر المدينة الساكنة المُحِبّة للحياة، لتقتلعها قبل الفجر من أعماق تربتنا النقيّة، وتحوّلها الى سياج شاهق من الاسمنت الخبيث. علت المياه أكثر وأكثر وأصبحت بيروت خزّان جثث، تغمره الأعمار المختلفة وكلّ فئات الدم، فكانت فرصة “الضباع”، فرصتهم ليتسابقوا ويغوصوا في رائحة الموت ويستحمّوا بعطر الابرياء ويجولوا بين التوابيت التي حوّلوها الى مراكب وبواخر تنقل براميل النيترات الى مدن سالمة أخرى..

فجأة.. قرع رئيس “الضباع” جرساً بإيقاع مرعب، فتفرّق “الضباع” ليجمعوا ما بقي من قطع لحم البشر الذائبة والملتصقة بزفت الخيانة.. راحوا يكدّسونها في اكياس سوداء قاتمة وبنَوا منها عنابر جديدة، في داخلها قاعة محاكمات زائفة بكل ملفّاتها وقضاتها ومحتوياتها الصدئة… أرسلوا لحمنا إلى مصانعهم وأعادوا تصنيعه، قبل أن يعيدوه لنا بحلّة جديدة.. قابلة للاستهلاك الآدمي..

رحنا نبتاع لحم بعضنا البعض ونأكله ونلتذ بالانتصارات الوهميّة والعيش في سفر دائم مع وعلى جثث لا ندري أنّها لأبنائنا… اتّسعت المقابر، ونشطت تجارة سرقة الجثث.

شعب لبنان يبحث عن معبدٍ على كوكب في فضاء بعيد عن رائحة البارود، معبد يصلّي فيه صلاته الخاصّة غير التقليديّة، صلاة من أجل اكتشاف سماء جديدة، آلهتها تحاسب الظالمين وتخطّ كتاباً مميّزاً بقوانينه العادلة الفاضلة التي لا تساوم اطلاقاً مع الاشرار.

دخان المرفأ غيوم من الشر منتشرة بين حدائقنا وزاحفة باتجاه أسرّة ومدارس أطفالنا فلنمزّقه بأظافرنا ولنصدّه برموشنا ولنعلنها ثورة فكريّة حقيقيّة حرّة تلتزم بالانسان والانسانيّة فقط.. لأنه بغير ذلك، لن يكون الأحياء أحراراً ولن يكون للدماء عيد..

شاهد أيضاً

قمم عربية ليس لها اي قرارات…

بقلم/حميد الطاهري عقدت قمم عربية في الماضي والحاضر وليس لها اي قرارات صارمه ضد عدوة …