محمد الجواد.. البرهان على سماوية الإمامة كالنبوة

  • جميل ظاهري

صوّر الامام أبو جعفر الثاني محمد بن علي الجواد عليه أروع الفكر والعلم الاسلامي والذي حوى فضائل الدنيا ومكارمها، وفجر ينابيع الحكمة والعلم في الأرض، فكان المعلّم والرائد للنهضة العلمية والثقافية والسد المنيع أمام الأنحراف في عصره؛ ما دفع العلماء والفقهاء، ورواة الحديث، وطلبة الحكمة والمعارف، للاقبال عليه لينهلوا من نمير علومه وآدابه باعتباره المعين الذي لا ينضب للفكر الإسلامي الأصيل، مستمداً بعذوبته وصفائه من القرآن الكريم والنبي الأكرم (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين) مباشرة.. وهي المصدر الصافي والأصيل، والرصيد الإلهي الكافي للعلوم والمعارف اللازمة لتغذية حركة الحياة والفكر لدى المجتمع الإسلامي والبشري برمته، وتزويده بما لابد له منه في مسيرته التكاملية الرائدة، نحو هدفه المنشود.
الامام الجواد رغم صغر سنه تقلّد الامامة والزعامة الدينية وانفتح عليهما مبكراً بعد أن استشهد والده الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام بسم المأمون العباسي، وهو في سن السابعة من عمره الشريف ولقب بـ”الامام المعجزة”، فحيّر العقول بعلمه الوافر وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله سبحانه وتعالى في شريعته، واستطاع صلوات الله وسلامه عليه بحداثة سنِّه أن يُظهر ثبات الامامة وصلابة الولاية الربانية المفروضة ليس على المسلمين لوحدهم فحسب بل على سكان المعمورة جمعاء وجده الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم جاء لانقاذ البشرية من الشرك والظلالة والظلمة والجهالة نحو العلم والمعرفة والوحدانية والنور والهداية.
بلغت رسالة الامام الجواد لهداية الأمة وهو صبي كدليل وبرهان قاطع على أن الامامة كالنبوة مهمة إلهية سماوية تعطى لمن هو أهل لها ولا ريب في أن يكون الامام تسلم مهام الامامة في الصبى كما حدث في النبوة للنبي عيسى عليه السلام ونبينا يحيى (عليه السلام) ايضاً كونها رسالة سماوية ومنصب إلهي حيث يقول القرآن الكريم “وآتيناه الحكم صبيا” – سورة مريم (12)، وكذلك علاقاته سلام الله عليه بأصحابه وشيعته، وكيفية تعامله معهم، سيما فيما يرتبط بتنظيم أمورهم، ومعالجته لمشاكلهم فيما بينهم، فيما يرتبط بالمهمات الموكلة إليهم الى جانب مقارعته وتصديه لظلم بني العباس على عهد سلطة “المأمون” و”المعتصم” الظالمة.
ظاهرة تولّي شخص لإمامة أي زعامة الامة الاسلامية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً وهو في سن الصبا، ظاهرة ظهرت لاَول مرة في حياة الاَئمة على عهد الامام الجواد عليه السلام، حيث اشار الى اهميتها الفيلسوف الكبير الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سرّه في 29 ذي القعدة سنة 1388 للهجرة، بقوله: “أنّها وحدها كافية للإقتناع بحقانية هذا الخط (الامامة) الذي كان يمثله الامام الجواد عليه السلام.. إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الامامة الواقعية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويتولّى زعامة الطائفة في كلِّ المجالات الروحية والفكرية والفقهية والدينية؟!”.
الفترة الزمنية التي عاشها الامام أبو جعفر الجواد الذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده الأليم وبقى جسده الطاهر تحت أشعة الشمس لثلاثة أيام على سطح داره ليواسي جده الامام الحسين في البقاء على الثرى بأرض كربلا ثلاث أيام بلا غسل ولا كفن؛ تعتبر فترة زمنية متميزة سياسياً، وفكرياً، واجتماعياً؛ حيث تلك السنوات القلائل المشحونة بالحذر والترقب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشمي خصوصاً؛ للسياسة التي اتخذها “المأمون” ودوافعه الخبيثة في تقريب الامام الجواد (عليه السلام) وإنزاله تلك المنزلة منه بعد أن قتل والده الامام الرضا عليه السلام، وهذا الترقب والحذر راجع لعدة أمور لعلّ من أهمها ما يوجزه المؤرخون بأنه يصب في دهاء ومكر المأمون العباسي وحقده الدفين لآهل البيت العلوي.
الطاغية العباسي المأمون ولأجل رفع أصابع الإتّهام عنه باغتيال الامام الرضا عليه السلام، أراد أن يثبت ظاهرياً للعوام والخواص حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ,اهل بيته الكرام، من خلال بقائه الظاهري على ولاء وحب البيت العلوي؛ لذلك أظهر اهتماماً زائداً مخادعاً مزيفاً، وتكريماً متميزاً للاِمام الجواد فأقدم بالإجبار وتحت طائلة حدّ السيف على تزويجه إياه من أبنته زينب المكناة بـ”أم الفضل”، وإسكانه قهراً وعنوة قصور السلطنة، وأمر ولاة الاَقاليم والخطباء بإظهار فضائل الاِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات خديعة .
التاريخ يحدثنا عن تدبر الامام الجواد عليه السلام ضد هذه المؤامرة العباسية الخبيثة حيث انصرف سلام الله عليه الى مدينة جده رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد زواجه بـ”أمّ الفضل” محبطاً بذلك مكر “المأمون” وفوّت عليه تدبيره في محاولة إحتوائه وفصله عن شيعته وجماهير محبيه (كما ذكره المسعودي)، وأنّه بقي في المدينة المنورة يتعاهد أمور شيعته حتى إستدعاه الحاكم العباسي الطاغية “المعتصم” والذي خلف المأمون في السلطة، في أول سنة 220 للهجرة، وأجبره على الإقامة في بغداد حتى استُشهِد بأمر من “المعتصم” ضمن مؤامرة نفذتها زوجته “أم الفضل” بنت المأمون في آخر شهر ذي القعدة من تلك السنة، واستشهاده وهو سلام الله عليه في غضارة العمر وريعان الشباب.
لا يسع المقال هذا بقصره وضيقه أن يحتوي على جوانب حكمة وحنكة ودهاء وذكاء الامام محمد الجواد عليه السلام فكيف به إذا أراد أن يعكس صورة البحر الهادر والجارف للأفكار الانحرافية والتزوير التي عاشها المسلمون أيام السلطة العباسية وسعيها المستدام الحثيث على تحريف حقائق الفكر الاسلامي المحمدي الأصيل كما فعل من قبلهم حكام بني أمية الطلقاء المنحرفون الطغاة وكما يفعل أحفادهم اليوم في البلاد الاسلامية خاصة في بلاد الشرق الأوسط ، حيث التحريف والتزوير وتشويه الاسلام الحنيف وتكفير الآخر والإفتاء بقتله وسبي نسائه ونهب ماله وهتك عرضه وتدمير بلاده ونهب ثرواته، من سوريا حتى اليمن ومن مصر حتى البحرين وافغانستان، ظلم واضطهاد واحتلال وقتل وعدوان وسفك دماء.
سعى الامام محمد الجواد عليه السلام طيلة حياته القصيرة الزاهرة في حفظ وتقوية إرتباطه بشيعته عن طريق نصب الوكلاء وإرسال الموفدين، وأمر الوكلاء والموفدين بالعمل بما من شأنه تقوية وحدة المسلمين خاصة الشيعة والإحتراز من التفرقة، حيث بعث وكلائه الى المناطق البعيدة مثل الأهواز، وهمدان، وسيستان وبلوجستان، وقم والري (في ايران)، والبصرة، وواسط، وبغداد، والكوفة (في العراق)؛ وساهم خلال مدة إمامته التي لم تدم أكثر من سبعة عشر عاماً في إغناء معالم مدرسة أهل البيت عليهم السلام وحفظ تراثها، حيث تتلمذ على يديه أكثر من مائة من الثقات، منهم إمرأتان، صنفوا في مختلف العلوم والمعارف الاسلامية وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر بعضاً من اصحابه (عليه السلام)، الذين روى علماء الرجال والمحققون عنهم:
الف ـ أحمد بن محمد بن خالد البرقي: صنف كتباً كثيرة بلغت أكثر من تسعين كتاباً.
ب ـ علي بن مهزيار الأهوازي: له اكثر من ثلاثة وثلاثين كتاباً.
ج ـ صفوان بن يحيى: له كتب كثيرة، وله مسائل عن الكاظم (عليه السلام).
د ـ أحمد بن محمد بن أبي نصر: كان عظيم المنزلة، له كتاب الجامع، وكتاب النوادر.
jameelzaheri@gmail.com

شاهد أيضاً

وجه كتاب توصيات لوزارة التربية

مطر: “فلنخفف على طلاب المدارس الرسمية” تجاوبا” مع طلاب المدارس الرسمية في صرختهم حيال الامتحانات …