الشلال المبارك

الدكتور ربيع الدبس

من القصائد العصماء التي تأثرتُ بها على مقاعد الدراسة ، قصيدةُ “الشلال” للأديب الكبير أمين نخلة، وفيها:
يا أبا الأزرق المصفِّقِ في النهر لرقص الشعاع في الأضواءِ
مِنّةٌ أنتَ من حياةٍ وخصبٍ
هبَطَتْ مِن علٍ على الأوداءِ
تنسج الخصب للمروج رداءً
ليت لي منك فضل ذاك الرداءِ
وأنا ابْنُ الغمام مخضوضر الذهن
وإنْ كنتُ ساكنَ الصحراءِ
وقد ارتأيتُ في هذه المناسبة الجليلة التي دعانا إليها الناشط الثقيف الدكتور علي رفعت مهدي، حيث ننتدي اليوم في ذكرى غياب العلّامة المرجع، إطلاق واحدة من مزايا العطاء المتدفق على سماحة السيد محمد حسين فضل الله فجاء هذا النص بعنوان “الشلال المبارك” لأن التدفق ما فتئ يطاول الهضْبَ ، ولأنه غيثٌ تضمّخَ بالأصالة والبركات.
والحق أن خلود الأعلام في وجدان أمتهم يتوقف على مقدار إسهامهم في التراث الحضاري فكراً وفقهاً ورؤى وتضحيات ، ومبررُ وجودهم في إشعاع تاريخها أنهم إضافة حضارية إلى مآثرها. فكيف إذا جمعوا إلى تلك المآثر إنشاء المؤسسات الجدية الراسخة، وكيف إذا باح نصُّهم النثري والشعري بأسرار الجمال؟ واتّصَف اجتهادهم الديني بالتجلي التجديدي والأخلاقي العميق ؟
لقد قابلتُ العلّامة المجددِّد مرة واحدة في منزله بمعية الصديق الدكتور ابراهيم فضل الله. لكن مواقفه، منذ بدايات تَكَوُّن وعيي السياسي والثقافي، طالما استرعتِ انتباهي الفكري والوطني والديني، فكنتُ أقص النصوص المنشورة من خطبه وتصريحاته في صحيفتَي “النهار” و”السفير” وأحتفظ بها مؤرَّخةً لأستعيد مسَرّة قراءتها في لحظات الهدوء. وأَذْكُر الكثير من محطات مواقفه التي كانت تتردد فيها ألفاظ مثل “حركة وحركية وتحرُّك”. ولعل ذلك دلالة على إيمانه بأن الحركة عكسُ الجمود، وبأن التطور هو من سُنّة الحياة ومُحفّزات الوجود… بهذا المنظور لا بُد من اعتباره مُعَلّماً بأعمق ما يكون التعليم وأغنى ما تختزنه كُواه المفتوحة على الآفاق. قال وليم يِيتْس وهو أحد أهم الأعمدة في البنيان الثقافي الإيرلندي: “أنْ تُعَلّم لا يعني أن تملأ إناءً، بل أن تُشعل ناراً”.
أذْكر أيضاً أن مجلس الطلبة في كُليتنا الجامعية دعا سماحته لإلقاء محاضرة. وبعد انتهاء المحاضِر من حديثه، في يوم غزير المطر كان الطلاب الواقفون في الباحة المسقوفة متفوقين عدداً على الجالسين، أجاب سماحته أحد الطلاب بالقول الواثق: “لا أتحرّج مطلقاً من سؤال أحدكم عما إذا كان الله موجوداً. فهذا السؤال أضعف من أن يصمد أمام سيد الوجود وخالق الكون، لكنني أنصحكم جميعاً بأن تُعَقلنوا إيمانكم، وأن يكون فهمكم للإيمان مُستقى من المنبع قبل الروافد، ومن المرجعيات المتنورة لا من المتخلفين الذين لا علاقة لهم بجوهر الدين”.
ثمة موقف آخَر أَسُوقه في ختام هذه المداخلة وقدِ انْحَفَرَ في ذهني كالنحت المعرفي بإزميل العِزّ الذي نشأتُ على اعتماده…هذا الموقف جاء في تعليق آسِر للسيد فضل الله على محاولة تكريس خرافة لبنانية جاء فيها أن ما يُسمى “مجْد لبنان” أُعطيَ لصرحٍ معيّن أو لطائفة محددة ، فقال سماحته :إن مجد لبنان لم يُعطَ إلا لمقاومته وشعبه.
في ذكرى الرجل الكبير الذي استشرف كثيراً من معالم التشظي في شعبنا، وحَذّرَ طويلاً من مؤشرات التجويع والإفقار والإذلال في بلدنا النازف حتى الإحتضار، يعنينا ألّا نيأس، فنحن نعاني ونتألم لكننا لا نُذَل ولا ننسحق. إنما يعنينا أن يبقى أهلنا مستضيئين بالمنارات، مستظلين الكبار الباقين في الأحداق ولو رحلوا بالجسد. قال أنطون قازان: “الذين يؤدون قسطهم للعلى لا ينامون.. إنهم في يقظات الناس”.

والسلام

ألقيت في بلدة علي النهري البقاعية وبُثَّتْ مباشرة على قناة “الإيمان” بتاريخ 4 تموز2021

شاهد أيضاً

الموضوع في القراءة النقدّيّة عند ياسين النصيِّر قراءةٌ في كتاب الأب بالتبني

الاديب إبراهيم رسول الصفةُ التي تتصفُ بها كلّ الإصدارات النقدّيّة للناقدِ ياسين النصيِّر أنّها صفةُ …