القوى السياسية لا تعلم بالآتي القريب وكلمة السر تقطيع الوقت… 

ابراهيم بيرم


منذ ما ينوف على أربعة اشهر، طاشت تماما بوصلة المشهد السياسي في بيروت، وباتت غالبية المكونات السياسية الاساسية تقيم مكرهة على لايقين من أي تفصيل يتصل بالمستقبل، كما باتت تعيش وسط ضبابية مما يجعلها عاجزة عن تقديم رؤية متكاملة ومقنعة وتنطوي على فصل المقال لما هو مرتقب، وصارت مجبرة على سلوك مسلكين لا ثالث لهما: الاول العزف على وتر لعبة تقطيع الوقت الى أجل موعود نهايته ايلول المقبل، وتحديد هذا الموعد يندرج تحت حسابات وتأويلات عدة. الثاني إجادة لعبة افتعال المعارك الجانبية (صلاحيات) وايقاد نيران الحروب الصغيرة من خلال تقاذف كرة المسؤولية واتهام الآخر بالتعطيل من جهة، وعبر اعلان التمسك بعناوين صلبة من نوع المبادرات التي تجبُّ ما قبلها، واطلاق مقولات من طينة أن لا أبعاد خارجية تُذكر لديمومة مأزق الفراغ الحكومي الفارض نفسه بعناد على صفحة الواقع منذ ما يزيد على ثمانية اشهر، مما يثبت ان المعضلة الحالية هي داخلية وتعزى الى صراع ارادات لا هوادة فيه بين طرفَي التأليف، أي الرئاسة الاولى والرئيس المكلف. كل ذلك عصارة استنتاج يزعم مطلقه انه يتصف بالرشد والعقلانية والموضوعية، وقد توصل اليه عدد من الفاعليات واللاعبين السياسيين الذين يحبون ان ينسبوا لأنفسهم صفة المرجعية بفعل تراكم الخبرات والتجارب عندهم، ونتيجة معاصرتهم لتقلبات الاحداث السياسية منذ اواسط الثمانينات.

وبناء على هذا التشخيص يتبدّى جليا انه بات يتعين على اللاعبين الاساسيين الذين اعتادوا التحريك ان تكون المهمة المسندة اليهم هي ادارة عملية تقطيع الوقت، واستتباعا ابتكار “الاغطية ” اللازمة لهذه المهمة التي تزداد صعوبة مع تعاظم الانهيارات، وذلك عبر الآتي: 

– بات ملقى على عاتق الرئيس المكلف سعد الحريري مهمة ان يمضي هذا الوقت المستقطع بين أمرين، تارة اعلان الصمود في موقع الرئيس المكلف الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، وتارة اخرى الكشف عن دنوّ أجل العزوف والعدول، وقد زهد في الواقع المرير الذي وجد نفسه محاصراً ظلماً وعدواناً بين قضبانه.

– بات لزاما على رئيس المجلس النيابي ان يعلي الصوت على نحو شبه يومي بما مفاده ان المبادرة التي عمل على اطلاقها قبل نحوشهرين ما برحت حية تسعى وتُرزق بفعل امر واقع من عناوينه: 

1- ان لا بديل سواها في الوقت الحاضر وليس من بوادر تفصح عن ان هناك مَن يعدّ عوضاً عنها لا من الداخل ولا من الخارج.
2- ان غالبية المكونات السياسية ارتضتها وسلّمت بها، واكثر من ذلك تعاملت معها على اساس انها خلاصة خلاصات المبادرات منذ ان حمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غضبه ومبادرته الى بيروت بُعيد ساعات على الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت. 

3 – استتباعاً ان احداً من هذه الاطراف لم يجرؤ بعد على المجاهرة برفض هذه المبادرة.

4- انها تحظى بدعم الثنائي الشيعي الذي مازال بركنَيه يرى ان لا بديل من الرئيس المكلف لبلوغ السرايا الحكومية. 

– في الموازاة، بات على الرئاسة الاولى ومَن سار في ركابها المجاهرة يوميا بانها تنتظر على أحر من الجمر عودة الرئيس المكلف من غيبته الصغرى ليقدم صيغة ثانية لتشكيلة حكومية يفترض انها من 24 وزيراً، لان صلاحية الصيغة الاولى المودعة لدى هذه الرئاسة (من 18 وزيراً) انتهى مفعولها.

– وفي الوقت عينه، يتعين على “حزب الله” ان يستخدم بحرفية اكثر من ذي قبل اسلوب التقية السياسية امام جمهوره وحلفائه، خصوصا ان من مواصفات هذا النوع من الثقافة السياسية التعامل ببرودة مع تسارع الاحداث بهدف إفقادها عنصر المفاجأة ولاحقا تمييعها على غرار ما حصل في الاجابة على طلب “التحكيم” الذي تقدم به رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل الى حليفه السيد حسن نصرالله.

امام هذه السردية، فان السؤال المتعين طرحه هو: لماذا تلجأ الاطراف الاساسية الى هذا الاداء؟ 

ببساطة لان هذه الاطراف باتت مقتنعة بأمرين واقعيين اثنين: 
الاول انها استنفدت بعد هذه الفترة من المراوحة وتوالي الاخفاقات كل ما بأيديها من أوراق ومحاولات لتقديم اجابات شافية ومقنعة.

الثاني انها اقرت ضمناً بان المطلوب منها مساكنة لعبة الفراغ وتقطيع الوقت في انتظار نضج معالم التسوية المقبلة التي تتجمع نذرها بشق النفس في الاقليم.
ماذا بعد كل هذا التشخيص الذي لم يعد خافيا او مستترا؟ وعلى اي شكل من الاشكال يمكن ان تستقر التسوية التي يشاع ان ساعتها آتية لا ريب فيها؟ 
عندما انعقد اللقاء الثلاثي الاميركي – الفرنسي – السعودي على هامش مؤتمر روما قبل ايام، وجد المعنيون الرئيسيون باللعبة ضالتهم المنشودة فدعوا المتصلين بهم الى انتظار نتائج ما من شأنها ان تنهي حال الاستنقاع الحاصلة، لكن اسبوعا واحدا كان كافيا لتسري بعدها مقولة ان فرنسا نجحت في انتزاع تفويض من الطرفين الاميركي والسعودي لكي تعاود مبادرتها ولكن بعناوين مختلفة، من ابرزها ترويج فكرة حكومة لا تُعقد رئاستها للحريري وتكون مهمتها الحصرية الاشراف على الانتخابات الموعودة.

في غضون ذلك، زعمت جهات لبنانية ما مفاده ان جهة غربية كونت اخيرا صورة مفادها ان استطلاعات الرأي اظهرت ان نتائج الانتخابات ستكون مقاربة لنتائج الانتخابات الاخيرة مع فارق بسيط لا يتعدى الخمسة او الستة نواب في الساحة المسيحية (احصاءات “حزب الله” تتحدث عن هامش يراوح ما بين ستة الى ثمانية نواب). وعليه فان من غير المفيد “الرهان على تجديد الشرعية” للطبقة السياسية عينها في صناديق الاقتراع، وهذا يعزز احتمال التمديد للمجلس الحالي. وفي الموازاة ثمة معلومات بدأت تتحدث عن ضرورة اعطاء الحريري فرصة “انسحاب آمن ومشرّف” من خلال ابرام تفاهمات معه حول كل شيء. وبناء على كل ذلك كان بديهيا ان تعلو اصوات تتحدث عن رؤوس كبيرة قد آن اوان خروجها من المشهد، اذ لا يمكن ان تبقى سعيدة في مواقعها وقد شاركت في ادارة مرحلة انتهت بهذا الحجم من التداعي والانهيارات. 

وعليه فان ابواب الافتراضات والاحتمالات مشرعة على مصاريعها، وبالانتظار لا أحد يجرؤ على الزعم ان عنده علم اليقين بما هو آت.

النهار

شاهد أيضاً

8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة

تؤثر خيارات نمط حياتنا بشكل كبير على صحتنا، حيث يمكن أن تؤثر بشكل إيجابي أو …