المرض في الرأس … والمداواة بمكان ٍ آخر

طعّان حبشي

وهيبة إمراة قويّة ، قدّها على قدّ شجرات السنديان التي ظلــّلتها ، صلابتها من صلابة الصخور والجلاميد التي نشات بين شواهقها ومـُسنـّناتها ، لونها الأغبر ، زاد غبرة ً على لون التراب الذي عركته بيديها ودحسته برجلـّيها ، طوال ما يـُناهز المائة سنة من عمرها الطويل المديد ، والذي لم تعرف خلاله ، لا الدواء ولا العقاقير ولا المسكنات والمهدئات ، التي نعتبرها في أيامنا هذه ، الخبز اليومي رديفة الرغيف ، لا غنى لنا عنها ، ولا مفر منها في حياتنا ، حتى بات تناول البعض منها ، يـُشكـّل في الحقيقة إدمانا ً، لا يقلّ خطورة ، عن إدمان المخدرات . وهيبة هذه لم تزرطبيبا ًفي حياتها، ولم تدخل عيادة ً ولا مستشفى ، ولم تقصد صيدليّّّّة ، وكانت الطبيعة التي عاشت في أحضانها ، هي مـُعينها الوحيد على ما كان يـُصيبها من أمراض ٍ وتوعكات ٍ صحيّة ، وكان أولادها وأحفادها يتباهون بسرد الأخبار عن سلامة حواسها وعافيتها ، كما كانوا في الوقت ذاته ، يسخرون من أنفسهم ومن معارفهم وأصدقائهم ، بسبب هشاشة وضعف المناعة التي لدى جيلهم ، ضد الأوبئة والجراثيم وهم في عزّ شبابهم ومنتصف أعمارهم ، قياسا ًبما كان لديها هي من المناعة المدهشة المكتسبة والمحصـّنة لجسمها ضد الأمراض والأسقام ، والتي رافقتها حتى في شيخوختها وأواخر أيام عمرها .
أضف الى ذلك ، أنها كانت تحافظ على كامل وعيّها وإدراكها لكل ما كان يجري من حولها ، وكانت تتمتع بالطرافة والظرافة والفكاهة ، فعندما تعاظمت أوجاعها قبل رحيلها من هذه الدنيا ، نقلها أولادها وقد أثقلها المرض الى المستشفى بدون إرادة ٍ منها ، وهناك وعلى أثر معاناتها من آلام ٍ حادّة لا تـُطاق في رأسها ، كانت الممرضات من وقتٍ لآخر يُعطينها المسكنات والمهدئات ، من خلال وضع تحميلة لها ، أو شكـّها بإبرة ٍ في عضلها . في إحدى المرات ، إشتدّت عليها نوبات الألم فإستدعيّ الطبيب المعالج ، الذي راح يسألها عن حالها ويـُحادثها ممازحا ً ومـُطمئنا ًإياها ، ومن ثمّ قام بالكشف عن مؤخرتها ووخزها بإبرة ٍ كالعادة ، وعندما إنتهى ، أشارت بيدها الى رأسها وقالت له بصوت ٍ مرتفع : ” إنـّي موجوعة كتير يا بنيّ حطـّولي لزقة خلّ على راسي ” لكنـّه لم يبالي بما قالت ، فزعقت بوجهه بنبرة ٍ غاضبة ” الظاهر يا حكيم ، ما بتعرف كوعك من بوعك ، شو خص المخ بالمشخ ، أنا بصرخ راسي آخ يا راسي ، وأنت بتضربني طيـّازي ، الله يوفقك تركني فلّ على بيتي ” فإبتسم الطبيب وسمح لها باللـّزقة التي أعانتها في صراعها المحموم وهي تواجه آلام الأجل المحتوم .
إنّ بساطة الجدّة وهيبة لهي أبلغ حكمة من معرفتنا التي نعتدّ بها ، فما فات وغاب عنها من المنطق ، في عالم الطب ، نفوّته ونستغيبه نحن اليوم بفلسفتنا وإدعاءاتنا وإنحرافاتنا في عالم السياسة والإدارة ، فما جاء على لسانها ، طبعا ً ببرءة الغير عارف والغير مُستبين ، بمعنى وضع الإصبع على الجرح في الجسم العليل ، ينطبق تماما ًعلى واقع جهالتنا ، بمعالجة مواضع الخلل في جسم المجتمع المريض الذي فيه نحيا ونعيش .
فالمرض يكمن في راس الهرم ( ونقصد برأس الهرم الطبقة المتربّعة على مفاصل الحكم الأساسيّة ، وهي السلطات الثلاث : التنفيذيّة ، التشريعيّة ، والقضائيّة وما يتفرّع عنها ) ، والمداواة والمعالجة تجريـّان في الأمكنة الخطأ ، بحقن القاعدة المهترئة والبالية والمفكـّكة أساساً ، كنتيجة تسلسليّة تراتبيّة من أعلى الى أسفل ، بالمهدئات والمسكنات هنا وهناك وهنالك في أطرافها وأذنابها ، حيث لا يُجدي نفعا ًولا يفي تعبا ًولا يرأب صدعا ًولا يُصلح أمرا ً.
فإن أردنا حقيقة ً، بناء مجتمع ٍ سليم ٍ ومُعافى ، علينا أولا ًالبدء من المؤسسات الأم المذكورة آنفا ً، بإيجاد بنية مؤسساتيّة خدماتيّة حديثة متطورة لا تمت بصلة ٍ الى قديمها وثانيا ً خلق مفهوم جديد ، يرقى بالجهاز البشري ممّن يتحملون المسؤوليّة فيها ، ويشرفون على قيادتها وإدارتها ، الى آفاق ٍ حضاريّة مثاليّة ، قوامها : القانون والنظام ، العدل والإنصاف ، الكف النظيف ، العلم والكفاءة ، القوة والقدرة ، المحاسبة والمعاقبة ، التقدير والمكافأة ، والمساواة والسواسيّة بين كل الفئات والمواطنين والمناطق دون تحيّز ٍ أو تمييز . وإلا سنبقى في القاعدة كما نحن ، وعلى حالنا ، نتخبط على غير هدى في متاهات المفاسد والمخازي ، مرهونين ومأخوذين بالأداء السيء لسقيمي الرأس المُُصابين بالقصور والتـّقصير ، وبالعقم والعهر ، في المجالين الإداري والسياسي .

شاهد أيضاً

قائد الجيش استقبل الامين العام للمجلس الأعلى السوري اللبناني

  استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة الامين العام للمجلس …