سايكولوجيّة القلق في لوحة الرسّام العالمي ادفار مونش ( 1863 _1944)

بقلم الدكتورة بهية أحمد الطشم

تنسكب المعاناة بتباين وجوهها في قالب ابداعات العُظماء ابّان تنوّع الارهاصات الزّمنية في سيرورة عُمر البشرية ,وكأن ّ المعاناة هي السّبب الأعظم لوجود العُظماء , ذلك أن الفيلسوف , الرسّام  والشاعر ليسوا غرباء عن حيثيات بيئتهم ,وقد قال ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع او ما اصُطلح على تسميته علم العمران في هذا الصّدد:” الانسان ابن بيئته”.

مع الاشارة الى أننا نختلف بدرجة التأثير والتأثّر في محيطناوبيئتنا , ولعلّ هذا الاختلاف يمثّل المسوّغ الأكبر لطرائق العيش المختلفة في الحياة وكذلك لدواعي التأقلم المتعددة.

واذا ما كان التعريف الأوسع شهرةً للانسان بأنّه: حيوان عاقل.”فهو أيضاً حيوان قلِق أو العكس لذلك حيوان ضاحِك ,ولعلّ مكمن الفرق البيولوجي بين الانسان والحيوان هو أنّ الانسان يمتلك الدماغ( مركز العقل) والمخ معاً ,في حين أنّ الثاني يمتلك المخ فقط.وكذلك ينسحب الفرق البيولوجي على الفروقات الأخرى لينعكس ذلك جلياً في المجالات السايكولوجية ,السوسيولوجية ,الابستمولوجية والانتروبولوجية على حدٍ سواء….

وفي سياق استقراء اللوحة ( القلق والمرض)التي نحن بصدد تحليل أبعادها وهي مرسومة بريشة الرسّام العالمي النرويجي ادفار مونش ,العاشق للفلسفة والمتأثّر عظيم التأثّر بنيتشه ويونغوالمنغمس عميقاً بأسباب القلق ونتائجه .

تُعتبر هذه االأيقونة وليدة معاناته البالغة  وألمه الصارخ مع ظروفه القاسية في ظل العنف الذي مارسه عليه والده في طفولته , و حيث شهد ايضاً على صراع أمه واخته الكبرى مع مرض السّل ثم موتهمابعد ذلك, الأمر الذي شكّل ضربةً مُوجعة للرسّام الحسّاس ,الرائد في رسم الانفعالات ,نقل الشعور عبر الخطوط والألوان ,حيث اسّس لنمط انسيابي انطباعي في فن الرسم يقوم على موضوعات سايكولوجية  ,وعبّر عن آلامه ومشاعره وأحاسيسيه الدفينة كنوع من التفريغ في المشاعر على الورق. 

مونش المنخرِط  بجمّ التأثر في أهم حنايا فلسفة فيلسوف ارادة القوة نيتشه Nietshe سيّما ما يخصّ  منها عبارته الذهبية :” كل ما يتألم يريد أن يحيا.” ,كذلك شغفه ب يونغ رائد التحليل النفسيوكل الفلاسفة الذين ساورهم القلق  كأحد أبرز مقومات الفلسفة الوجودية: هيديجر, كيركغارد  وغيرهم.

ولا غرو فلوحاته  كلها تمحورت حول الحياة الباطنية لللانسان ,والتي تُعنى بالمشاعر والانفعالات خلال احتكاك النفس ( مصدر الانفعالات) بالمواقف المختلفة المحفّزة للقلق .

لقد انبثقت الكآبة المُلازمة للقلق من نفس مونش ,فرسمها ( معالم الكآبة) بالابداع الخارق,كنوعٍ من الاسقاط النفسي ,(projection)ولكن بصورة فنية راقية.

وبالعودة الى حنايا لوحة القلق ,اذ رسم مونش شقيقته المريضة ,فكان مرضها بمثابة الحدث الدائم الذي استثار وعيه ولاوعيه والذي حرّك ريشته  ليُدلي بدلوِ انفعاله العارم على لوحته .

تبدو الفتاة  الجميلة والمريضة على فراش الموت وخلفها وسادة بيضاء كبيرة ,والى جوارها امرأة بغاية الحزن  وهي منحنية الرأس ,ولا تستطيع النظر الى عيون الفتاة كي لا تستطيع المريضة الامساك بالحقيقة الهاربة…..,اذ تتوجه عيون الفتاة الى النافذة مستشرفة لحظة أمل في ذروة الضعف…

وبموازاة ذلك يبرز كوب يحتوي على كمية ضئيلة  من الشراب ,ويتوسّط المنضدة الى جانب سرير الفتاة ,اذ يحفّز هذا الكوب خيالنا ويحثّ ذاكرتنا على استحضار أهم  حنايا ملحمة جلجامش ,حيث جاب بطلها مختلف حدود الارض باحثاً عن سرّ الخلود وعن دواءٍ أوشراب ناجع ضد الموت سيّما بعد موت صديقه انكيدو والذي رفض جلجامش ان يصّدق موته,  فعكست هذه الملحمة الصراع بينغريزتي الايروس والثاناتوس ( الحياة والموت),وكان قد تم تدوين هذه الملحمة السومرية الخالدة على اثني عشر لوحاً من الطين.

وضمن اطار الابعاد الفلسفية للألوان :تطغى الألوان الدافئة  التي تسِمها لمسة قاتمة كأدلّ دليل على عمق الانفعالات التي حرّكت ريشة الرسّام ابان هندسة الخطوط والالوان لهذه الأيقونة الخالدة,والتي تنم عن انسجام واتحادٍ عارمين بين ماهيّة الشعور الانفعالي وفلسفة الرسم.

اذاً تصقل المعاناة المتجسدة في قلق المبدعين من رسّامين ,فلاسفة وشعراء النفوس ,وتحلّ فيها المعاني الراقية  لأنّها تشدّ أزرها في اقتحام  معارك الحياة الوجودية محاولةً اقتناص فرصة أمل  لعلّها تدبّ الخوف في قلب الخوف.

واذا كان لا بدّ من القلق في صيرورة الحياة,فلا مناص في الاطار عينه من التسامي عليه  ليمرّ  في سيرورة أعمارنا كظرفٍ طارىء ونسبي وليس بشكل جوهري ودائم.

شاهد أيضاً

قميحة: “انعقاد الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني خطوة مهمة في مسيرة التطوير والتحديث”

رأى رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والابحاث – كونفوشيوس، رئيس جمعية “طريق الحوار اللبناني الصيني” …