فلسفة الزمن في لوحة ” ثَبَات الذاكرة”

للرسّام العالمي سلفادور دالي( 1904- 1989 )

بقلم الدكتورة بهية أحمد الطشم

” انّ الانسان هو كائن الأبعاد :الماضي، الحاضر, والمستقبل.” هي العبارة الفلسفية الراسخة في كل زمن والتي أطلقها رائد الفلسفة الوجودية مارتن هايدغر صاحب كتاب:”الوجود والزمان.” The being and time.

فالعلاقة حميمية بامتياز بين الوجود والزمن,ذلك أنّ الماهية الأنطولوجية  للانسان منطبعة بطابع الكينونة ابّان سيرورة الزمن,وتستذكرها الذاكرة في خضّم ارهاصات وجودها.

ولا شكّ أنّ الكائن البشري هو المؤثّر الأكبر في الوجود يتأثر كلياً أو نسبياً و بالضرورة في حتميّة الزمان.

تشكّل هذه الأيقونة “ثبات الذاكرة” للفنان الاسباني العالمي سيلفادور دالي ,والتي نحن بصددها علامة فارقة في مجال الفن السريالي ,دالي رائد السريالية والعاشق للفلسفة والمتأثر تأثراً عظيماً بالفلاسفة:  نيتشه, سبنيوزا, كانط والمُرتكِز على أفكار ديكارت( رائد الفلسفة العقلية وصاحب الكوجيتو  cogito:أنا أفكر اذاً أنا موجود.) في الرسم.

وفي الصّدد عينه نلتمس تأثّره العارِم بسيغموند فرويد ( رائد التحليل النفسي) عبر التجسيد بالخطوط والألوان الاستثنائية لأفهوم الحلم في لوحاته سيّما في حنايا هذه اللوحة (ثبات الذاكرة) التي تنبثق من غياهب الأحلام المتماهية مع اللاوعي وتساور الخيال والواقع في آن ضمن مفارقة تتأملها ملكة الحواس واقواها(حاسّة النظر) وتخاطب الحدس بأقوى لغة أثناء  سريان الزمان في عالم الوجود.

ترمز الساعات الذائبة والمائلة في ارجاء الأيقونة الى مرور الوقت الغير منتظم والذي يسري أثناء الحلم,ذلك أنّ الوقت لا يحمل تأثيراً في عالم الأحلام ,لذلك فالمؤشرات على التوقيت (الساعات) تذوب دونما فعاليّة.

بالاجمال ,الزمن هو محور حياتنا واورغانون (أداة المنطق) المُلازمة للوعي ضمن يومياتنا, فهو الاطار المحوري والحاسم والمحدِّد لمعالم حيثياتنا في فلسفة وجودنا,ولكن الوقت الاعتيادي يغدو اعتباطياً داخل الحُلم.

لقد رسمَ دالي زمان الحُلم في ساعات ذائبة ومائلة من عُمر الوجود ,وهو الذي عاش في كنف عائلة ثرية جداً ,حيث احتضنت موهبته ,وقد انبرى دالي الى  اصقالها في أعظم المعاهد ,ومن ثمّ التقىخلال مسيرته الفنية بأشهر الرسّامين :بيكاسو ورافيييل وغيرهم…..

ولعلّنا اذا ما استقرأنا سايكولوجياً في أبعاد اللوحة والتي يشغف صاحبها بالصور اللاشعورية لفرويد ,اذ نكتشف أنّ شخصيته تنطوي على طبع النرجسية والعبقرية المجنونة والتي تبلورت في الرسوم الغير تقليدية ,فتجنح الى الخيال  ويحاول المنطق أن يلتمس طريقاً اليها .

فالساعة الذائبة والمتدلية على جذع الشجرة تنطوي على أنّ الوقت أثناء الحلم لا يُزهر ولا يُثمر البتّة, وكذلك هي السّاعة المركونة على  سطح المنضدة ,حيث تدلّل على جمود الوقت وعدم فعاليته .

أمّا المساحة ذات اللون البنيّ فتدلّل على الارض القاحلة المتداخلة مع مساحة ضئيلة من البحر الازرق في أعلى ذروة من مفهوم التناقض ,ونستذكر ازاء ذلك ثنائية الليل والنهار في رُزنامة تقويم ارهاصات الأزمنة.

وتعكس الصخور الى يمين اللوحة طرف شبه جزيرة كاب دي كريوس في شمال شرق كاتولونيا (مسقط رأسه).

وبخصوص الألوان التي تزدان بها اللوحة : الأصفر, البني,الأحمر والأزرق فكلّها تتماهى في اطار معنى واحد لترسم لون  التلاشي والفناء في الزمن  كنهاية  محتومة لكل بداية.

وازاء الساعة الحمراء  في أسفل يسار اللوحة التي يغطيها النمل,أو بالأحرى أنّ النمل يأكل اجزاءها فهي ترمز الى فناء للطريقة الاعتباطية في تتبع مرور الوقت. 

لقد كان دالي متعطشاً لنظريات سيغموند فرويد للتحليل النفسي ,ممّا أدّى به الى اطلاق الطريقة الحرجة للبارانويا وهي عبارة عن ممارسة ذهنية للوصول الى اللاوعي لتعزيز الابداع الفني.

وهو القائل:” الذكاء بلا طموح مثل العصفور بلا اجنحة”,ونستذكر في السّياق عينه مقولة بارزة في مقالة الطريقة لحُسن قيادة العقل عند ديكارت: “نحن متساوون في قوة العقل ومختلفون في قوة الاختراع والتخيل والذاكرة.”

ولعلّ ادراك أهمية الوقت هو بوابة الحكمة ,اذ مهما عظُم شأن الانسان فهو لا يستطيع شراء دقيقة واحدة من عُمر الزّمان ,فلنعش أسياد وقتنا عبر استثماره بأرقى الوسائل, ولنؤمن بأن الوقت الأنسب لتحقيق أحلامنا العظيمة هو (الآن) وليس غداً وذلك  قبل هروب اللحظات من أعمارنا,وما الذاكرة الا ذاكرة الانسان وذاكرة والاجيال كانطباع نوعيّ للهُوية الفردية والجماعية في حيّز الوجود.

اذاً تعبّر هذه اللوحة الزيتية المعروضة في متحف الفن الحديث بنيويورك أقوى تعبير عن تكسير حدود الزمن أو تجميده للحظات شتى ما يعكس جليأً محاولة الرسّام العالمي دالي الحثيثة في البحث عن الخلود خارج عقارب الوقت.

وأخيراً, كتب تاريخ   23/1/1989 نهاية حياة  المبدع سيلفادور دالي في كتاب الزمان ,ولكن اسمه سيبقى خالداً في ذاكرة الابداع على مدى الأزمنة والاجيال المتعاقبة في الوجود.

شاهد أيضاً

طرابلس عاصمة للثقافة العربية

  المرتضى من بلدية طرابلس: مرحلة الانقسام والتجاذب رحلت ولن تعود ونستبشر بمرحلة جديدة تجلب …