رحلة في بلد الاشعاع

رواية في حلقات للأديب احمد فقيه

الحلقة -12- (النتيجة الحتمية)

       مصاريف المدارس والعلاج تثقل كاهل إسماعيل، فيفكر بشراء سيارة جديدة ليعمل عليها لتحسين دخله، لأن السيارة القديمة لم تعد قادرة على القيام بما يجب، وهذا يضطره للإستدانة من مراب جشع يدعى “سبيطين”، الذي يشترط عليه دفع مبلغ 4000ل.ل. كفائدة سنوية، وأن يسدد الدين الأصلي وهو 20000 ل.ل. بعد عشرسنوات، وإلا صودرت جميع أملاكه، بما في ذلك السيارة، البيت والأرض في البلدة. وكان إسماعيل يسدد الفائدة المقدرة كل سنة ويحاول إدخار ما يستطيعه للدين الأصلي، إلا أن الأجل أوشك ولم يستطع توفير المبلغ المطلوب.

    لم بيق على الموعد المحدد لتسديد الدين سوى أسبوع.. وبلغ مدى الحيرة والقلق بإسماعيل مبلغاً لم يعد يحتمل التستر عليه.. وعاد من عمله في المساء، بعد يوم مثقل بالتعب والهم والتفكير، وبكلمات مقتضبة حيا أولاده الذين صادفهم في طريقه، ثم دخل غرفته مسرعاً، وأقفل الباب خلفه. 

    استولت الدهشة على رائد حين لمح والده وهو يدخل.. إنه لم يشاهد مثل هذا العبوس وذلك التجهم على وجهه من قبل أبداً.. كان استقباله لهم دائماً مصحوباً بابتسامته المعهودة التي تفيض حباً وحناناً.أما الآن فالأمر مختلف تماماً.. بلع الشاب ريقه بصعوبة وهو يقول في نفسه : “الله يستر!.. لا بد أن هناك أمراً خطيراً يحاول الوالد إخفاءه عنا..”

     وفكر رائد ملياً فيما عساه أن يفعل ليساعد والده ويخرجه من عزلته ومن همومه.. فسأل عن والدته في البيت لكي يستفسر منها الأمر، لعلها تدري بما يشغل بال الوالد، ولكنه وجد بأن والدته عند الجيران لقضاء حاجة ما.. فصمم على أن يسأل والده بنفسه. فقد أصبح شاباً ومن حقه، بل من واجبه، أن يشارك والده في السراء والضراء.

    ولكن، كيف يدخل على والده؟!..هنا المشكلة.. فالوالد دخل وأقفل الباب خلفه؛ وهذا يعني أنه لا يريد أن يدخل عليه أحد.. ما العمل إذن؟..

    وأخيراً، إستطاع أن يهتدي إلى حل يخرجه من مأزقه.. رفع يده، وهي مازالت ترتجف، إلا أنه تجرأ وطرق الباب طرقاً خفيفاً، ثم نادى بصوت يكاد لا يُسمع: “أبي.. كتبي ما زالت في غرفتك لأنني كنت أذاكر دروسي فيها قبل مجيئك.. أريد أن أخذها لأتابع الدراسة.. لأن غداً تبدا إمتحاناتنا..”

فسمع صوتاً مختنقاً، متحشرجاً، يقول :

-إدخل!..

     دخل رائد فوجد والده ممدداً على إحدى الكنبات وهو لا يزال في ثياب العمل حتى أنه لم يخلع حذاءه.. كان مستلقياً على جنبه الأيمن، مسنداً رأسه إلى ذراعه اليمنى، باسطاً راحته على الجزء الأعلى من مقدمة رأسه. أما عيناه فكانتا ساهمتين في لوحة معلقة على الحائط المواجه له.. كانت اللوحة تمثل منظراً طبيعياً مكوناً من سلسلة من الجبال تخترقها وديان وأنهار. وتلتقي هذه الأنهار في منبسط من الأرض عند سفوح مجموعة من هذه الجبال، ويتجمع جزء من مياه هذه الأنهارفي هذا المنبسط ليكون بحيرة جميلة فيها طيور تسبح، وقوارب للتنزه، وبعض صيادي أسماك ينشرون شباكهم.. كما أن هناك على أحد جوانب هذه البحيرة، منزلين بديعين، أحدهما فخم تبدو عليه إمارات الشموخ والإستعلاء، والآخر بسيط صغير تبدو عليه علامات التواضع .. ومن سلسلة الجبال، يبرز خلف هذين المنزلين جبل شاهق برأسه الذي يقذف الحمم البركانية في كل إتجاه… وقد أصابت بعض هذه الحمم ذلك البيت المتواضع، فأضافت عليه صبغة من الجلال والروعة والرهبة…

    وكان يبدو على إسماعيل التعب والوجوم وهو ينظر إلى هذه اللوحة، كأنه يحاول أن ينفذ من خلالها إلى أعماق خالقها ليدرك ما يرمي إليه بهذه الظلال والألوان البديعة الساحرة..

    ولعل الذي دفعه إلى هذا الإلهام هو ما يجيش في نفسه من إضطراب وقلق، وحزن وألم…

    لم يستطع رائد مقاومة الدموع عندما أحسّ بلهيب المحنة التي يقاسيها والده؛ فجلس إلى جانبه وقلبه يكاد ينفطر ألماً وحزناً..

    وخيم السكون لحظة على جو هذه الغرفة الصغيرة بأبعادها المحدودة، الكبيرة والتي لا نهاية لحدودها بما يجيش فيها من عواطف…

     وأخيراً كسر رائد هذا الصمت وتكلم بصوت فيه رجرجة من أثر البكاء الذي يحاول كتمانه، موجهاً كلامه لأبيه الذي ما زال ساهماً كأنه لا يشعر بوجود إبنه، أو حتى بوجوده هو.. فقال رائد: “أبي.. أبي.. لقد أفنيت حياتك وأنت تجاهد وتعمل ليلاً ونهاراً من أجل تنشئتنا ورعايتنا.. وأنت تقسو على نفسك وتتجاهلها من أجلنا. ولكن، يا والدي، كما نحن لنا عليك حق التربية والرعاية، فلنفسك عليك حق كذلك فيجب أن تعطيها حقها من الراحة والعناية.. وإذا لم تهتم بنفسك، فسوف يأتي يوماً وترى فيه نفسك عاجزاً عن أداء المهمة التي كرست حياتك من أجلها، ألا وهي تربيتنا نحن..” وكان رائد قد شعر بأسى عميق عندما شاهد والده على تلك الحالة وتمنى من كل جوارحه لو يستطيع أن يفديه، وأن يحمل عنه كل ما يثقله من أعباء وهموم.. وعندما وصل بكلامه إلى هذا الحد سره جداً إن وجد والده قد انصرف عن شروده وإسهامه واتجه نحوه مصغياً بكل إهتمام وتودد، فشجعه هذا على المضي في كلامه، فتابع دون أن يترك فرصة لوالده كي يرد عليه قبل أن ينهي ما في جعبته : “…هذا وأرجو ألا يفوتك يا والدي بأني قد أصبحت والحمدلله، بفضل جهدك وتربيتك، شاباً، ويمكنني أن أحمل عنك بعض العبء إذا لزم الأم، ولا داعي أن تثقل على نفسك وتحملها ما لا تستطيع. فلذلك أرجو يا والدي أن تطلعني على ما  يشغلك، علني أستطيع تخفيف الخمل عنك..”

    عندما سمع الوالد هذه الكلمات من إبنه، نسي كل متاعبه ومشاكله، وهب من رقدته، واحتضنه، ولم يستطع بالتالي أن يقاوم تيار الدموع التي امتزجت بدموع الإبن على خدي الإثنين. إنها دموع الفرح رغم كل ما بها من ألم.. لقد فرح الوالد بما شاهده وسمعه من ولده مما يدل على فهم وإدراك مع استعداد لتحمل المسؤولية، وحمد الله وشكره على أنه استطاع أن ينجب ولداً ويرعاه إلى أن أصبح على هذا المقدار من التعقل والحكمة.. أما الإبن فكانت فرحته ناجمة عن إستجابة والده له، واستبشاره خيراً بهذه البادرة التي قد يكون فيها شفاؤه وعودة البهجة والصحة إليه.

    وبعد فترة صمت، والوالد يحاول أن يكفكف دموعه، أجاب قائلاً : “يا بني.. صحيح لم يعد هناك متسع من الوقت للكتمان.. وأنك قد أصبحت فعلاً على مستوى المسؤولية.. وأني لا أشك بأنك ستتصرف بتعقل وحكمة، حسبما تقتضيه الظروف..

    “إن ما أعاني منه يا بني هو الحاجة!.. لقد حاولت جاهداً أن أؤمن لكم ما تحتاجونه، وعملت كل ما أستطيع، ولكنني فشلت.. نعم فشلت..وبعد أسبوع.. أسبوع فقط سيذهب من أيدينا كل شيء ونصبح “على الأرض يا حكيم”!.. بعد أسبوع سوف يستولي المرابي”سبيطين” على السيارة والنمرة وأصبح أنا بلا عمل، أو أنني سأضطر للعودة للعمل كأجير عند مالكي السيارات، وبهذا لا نستطيع سداد نصف مصاريفنا. كما أنه سوف يستولي على بيتنا القديم الذي ورثناه عن جدك المرحوم في “وادي اللوز”، وبهذا نصبح بدون بيت في بلدتنا ومسقط رأسنا، وتصبح جدتك بلا مأوى.. وكل هذا لأننا لم نستطع تسديد الدين الذي استلفناه منه منذ عشر سنوات، والذي سيستحق سداده بعد أسبوع تماماً..”

إجتر رائد المرارة، وبلع ريقه كي يبلل حلقه الجاف، وقال لوالده :

-والأربعة آلاف الذين تدفعهم كل سنة؟!

-لا شأن لهم بالقيمة الأصلية للدين.. إنهم الفائض السنوي للدين..أي الفائدة التي تتوجب على الدين في خلال سنة واحدة.. أما الدين نفسه لم ندفع منه شيئاً حتى الأن.. المرابي لم يرضى أن ندفع إلا المبلغ كاملاً، وأقصى مدة لدينا للدفع كانت عشر سنوات.. وبعد أسبوع تنتهي المدة..

     وعندما اتضحت لرائد أبعاد المأساة، وخبث المرابي هتف منفعلاً، على غير عادته:

-هذه سرقة.. هذا إختلاس.. يا له من دنيء حقير!!! كيف تقبل معه بهذه الشروط؟!..

-قبلت لأنه لم يكن لدي خيار، وكان علينا أن نفعل شيئاً لنستطيع الإستمرار..

أدرك رائد عظم المحنة، فلم يرد أن يزيد خوفاً من أن يتضايق والده. وعلى الرغم من شعوره بخطورة الموقف إلا أنه كمعظم الشباب الذين لم تضع الحياة بصماتها بعد على تصرفاتهم وتوجهاتهم، إعتقد بأنه بالإمكان الرجوع إلى بعض أصدقائه، وتدبير الأمر، لذلك سأل والده: 

-ما هو المبلغ المتوجب علينا دفعه الأن؟!

فقال والده:

مجموع ما هو مطلوب دفعه هو أربعة الاف فائدة عن هذه السنة بالإضافة إلى المبلغ الأصلي وهو عشرون ألفاً. ومجموع ما استطعت تجميعه مما معنا ومن أصدقائنا هو سبعة عشر ألفاً.. ويكون الباقي علينا تدبيره هو سبعة ألاف. وبعد أن فكر رائد قليلاً، قال لوالده:

-لا بأس يا والدي.. سأحاول تدبير الأمر أنا.. إطمئن!

ولكن الوالد المجرب الذي عرف الحياة ووعورة مسالكها، قال بصوت يخالطه الشك والريبة والتعجب في آنٍ واحد:

-كيف يا رائد؟!.. ماذا ستفعل؟!..

-“لا تخف يا والدي!.. إني أعرف بعض الأصدقاء الميسوري المال الذين لا يتأخرون عن مد يد المساعدة لي عند اللزوم. وكثيرون من هؤلاء الأصدقاء لهم حسابات توفير في البنك بأسمائهم.. ولكن هذا يحتاج لبضعة أيام لأتصل بهم لأن بعضهم يقيم في صيدا، وآخرون في بعلبك أو طرابلس.. ومنذ مدة لم أرهم لأننا كنا في فترة مراجعة في المنازل وغداً ستبدأ الإمتحانات، قد ألتقي بأحدهم، وقد لا أرى أحداً منهم حسب التوزيع.. ولا أستطيع الإتصال بهم في أماكن سكنهم إلا بعد الإمتحان.. لذلك على سبيل الإحتياط سأذهب الآن إلى “سبيطين” وأحاول إقناعه بأن يمهلنا لمدة لا تتجاوز العشرة أيام نكون عندها إنتهينا من الإمتحان، ودبرنا المبلغ المطلوب بإذن الله، وإذا لم يقبل بهذه المهلة، فسأضطر للسفر إليهم حالاً، ولو إضطرني هذا للتأخر عن الإمتحان..”

     ولكن الوالد الذي أثقل كاهله الدين، أصبح يخشى، ويتعوذ بالله منه، وخاف إن استدان ولده من زملائه فعلاً، لا يستطيع سداد هذا الدين نظراً لما عليه من ديون وواجبات أخرى، وبهذا يكون قد أوقع ولده في مأزق لا يريده له أمام أصدقائه، فقال لإبنه: 

-لنفرض أنك استطعت إقناع ذلك الحيوان الجشع “سبيطين” وتمكنت من تدبير المبلغ خلال هذه الفترة.. ألا ترى بأنه سوف نحمل أنفسنا عبئاً جديداً قد لا نستطيع القيام به.. وماذا سيكون موقفك عندها أمام زملائك؟!..

     فأجابه إبنه على الفور: “لقد فكرت في هذا يا والدي، ووجدت له حلاً إن ساعدني الله عليه، وأني بإذنه تعالى سأوفق ما دمت أنوي خيراً.. فبعد أن أنتهي من الإمتحان مباشرة سأبحث عن عمل.. فإن وفقت، سيزيد دخلنا بالطبع، وبهذا نستطيع أن نوفر ما نسدد به ديوننا. أما بالنسبة للدراسة فإني أعلم بأنه يصعب عليك أن أتركها، وكذلك يصعب عليَّ، ولكن سأحاول التوفيق بين الدراسة والعمل.. وعلى كل فالأمور مرهونة بأوقاتها وظروفها، فلنبدأ بما يجب عمله الآن.. لذلك أرجو أن تزيل عن نفسك الهم والكرب، وأن تستقبل الحياة بوجه باسم صبوح كما عودتنا أن نراك.

-إنه ليحزنني تركك الدراسة يا ولدي ولكن ليس باليد حيلة.. سر يا بني حرسك الله، وسدد خطاك!..

     لم يكن إسماعيل مقتنعاً تمام الإقتناع بخطة ولده رائد، لأنه يعلم بأنه من الصعب إقناع “سبيطين” بالتراجع عن رأيه، أو عن مكيدته التي طالما إنتظر نتيجتها. وإذا نجح في هذا فإنه من الصعب أكثر أن يجد صديقاً يقرضه سبعة ألاف ليرة لوجه الله، وبدون أي ضمان. ولكن “الغريق يتعلق بقشة” أملاً بالنجاة.. وهكذا ترك الأمور تسير حسب ما قدر الله لها، ولم يرض أن يكون حجر عثرة في طريق حل لا يملك هوأفضل منه. ولذلك سمح لولده بمغادرة المنزل داعياً له بالتوفيق.

ليلة صعبة

     وها هو الليل قد انتصف، ورائد لم يعد بعد.. وبدأ الشك يساور إسماعيل الذي أخذ يضرب أخماساً بأسداس، ويحسب للأمر ألف حساب، وقد إحتار ماذا يقول لزوجته وأولاده الأخرين الذين أخذوا يسالونه بإلحاح : “أين رائد؟!.. أين رائد؟!.. “

     وكان قد أخبر زوجته عندما عادت من عند الجيران في المساء، ولم تكن تتوقع مجيئه مبكراً على غير عادته، بأنه قد أرسل رائد في مهمة وسيعود منها عما قريب، وهي كعادتها لم تكن تحب المجادلة أو النقاش في أمر لم يرد صاحبه أن يفصح عنه. فلم تسأل زوجها إلى أين أرسل رائداً، ولا عن المهمة التي أُرسِلَ بشانها. بل إكتفت بأن علمت بأن زوجها هو الذي أرسله، إذن لا خوف عليه، وهذا كل ما يهمها..

     ولكن الآن وبعد أن إنتصف الليل او كاد، إحتار ماذا يقول لنفسه وماذا يقول لزوجته.. واخيراً بدأ يحدث نفسه محاولاً إقناعها بشيء يخرجها من وساوسها وشكوكها : “..لا بد أن رائد لم يتمكن من إقناع “سبيطين” بالخطة التي رسمها.. وهذه، بلا شك أول تجربة له فلم يرض أن يعود خالي الوفاض.. إذن لم يكن أمامه متسع من الوقت، فتابع مسيرته إلى أحد أصدقائه الذين قال عنهم، والذين إعتاد أن يقضي عند أحدهم بضعة أيام اثناء العطل الدراسية.. لكن لماذا لم يتصل بنا أو يخبرنا بأنه ذاهب إلى كذا أو..

     ..لا بد أن الوقت داهمه ولم يرد العودة للبيت، ومن ثم الرجوع إلى المدينة لكي يستقل السيارة التي توصله إلى مبتغاه.. أو أنه قد يكون أرسل خبراً مع بعض السواقين  أو الجيران الذين نسوا بدورهم أن يخبرونا..”

     بهذه الأفكار طمأن إسماعيل نفسه، أو حاول طمأنتها.. وأما بالنسبة لزوجته التي بدا عليها القلق واضحاً، فقال لها:

– يبدو أن رائداً قد عرج لزيارة صديقه “عدنان” في صيدا.. قال قبل مغادرته بأنه سيتصل به إذا وجده في البيت، وسوف يزوره، ويبيت عنده الليلة إذا وجد الظروف مناسبة لمراجعة بعض الدروس معه..

      وبات الجميع وكل منهم لا يخلو من الوساوس والشكوك وخاصة إسماعيل الذي كان يؤرقه ويقض مضجعه شعور مبهم. وكان قد طلب الإنفراد بنفسه تلك الليلة، مما جعل زوجته تنام مع أولادها في غرفتهم، إلا أنه إستيقظ بعد غفوة قصيرة مشوشة الأفكار، وكان وقت الفجر لم يحن بعد، فجلس في سريره، وأخذ يسبح الله.. وما هي إلا ثوان وإذا بزوجته تدخل عليه مرعوبة، وهي تعتقد بأنه ما زال نائماً فقالت له بشيء من الدهشة و الإستغراب :

-ألم تنم بعد يا أبا رائد؟!.. خير إن شاءالله!.. ما بك؟!.. لماذا أنت جالس هكذا؟!..

     فشعر إسماعيل بوخزة في قلبه.. لم يكن ينتظر مثل هذه المفاجأة، ولا مثل هذه الأسئلة التي زادت أفكاره تشويشاً وبلبلة. ولكنه مع هذا أجاب زوجته والإرتباك باد في لهجته وحركاته :

-لقد.. استيقظت قبل قليل.. فوجدت الفجر لم يحن بعد، فجلست أسبح الله.. منتظراً صلاة الفجر.. لكن ما بالكِ أنتِ؟.. خير إن شاءاالله؟!!..

-والله يا أبا رائد ” إن كان الكذب حجة فالصدق ينجي”.. والصحيح أني مشغولة على رائد وما ذقت طعم النوم حتى الآن!..

فرد عليها زوجها بشيء من العصبية:

-أن ما فينا يكفينا يا أم رائد!.. ولا داعي لتضخيم الأمور أكثر مما يجب.. فلنسلم أمرنا إلى الله، وهو يفعل ما يشاء..

      لأول مرة تسمع من زوجها مثل هذه اللهجة فشعرت بأن شيء ما يعتمل في داخله ولكنها بعد هذه الكلمات القاسية والتي تحمل معنى الأمر، بل الزجر، انكفأت المرأة وعادت أدراجها وفي نفسها غصة.. أما إسماعيل فقد بقي فترة يسبح الله وهو في الفراش ويدعوه سبحانه وتعالى أن يسهل أمر ولده ويرده إليه سالماً إلى أن بزغ الفجر، فنهض وتوضأ، ثم صلى ودعا الله طويلاً في سجوده وركوعه.. وكانت العبرات تنحدر ساخنة على وجهه تأثراً بخشوعه لله تعالى. وقد زاد هذا الخشوع عمقاً وإنفعالاً ذلك الشعور المبهم الذي سيطر عليه منذ أن غادر رائد البيت..

     طلع النهار وما زال إسماعيل جالساً يفكر فيما يمكنه أن يفعل بعد أن بلغ القلق منه مبلغاً لا يطاق. يريد أن يخرج للعمل ولكن رجلاه لم تساعداه على الخروج.. كيف يمكنه أن يقود سيارته ويتجول هنا وهناك وهو مشوش الأفكار ولا يدري ماذا حل بولده؟!.. ماذا يفعل إذن؟.. فهو لا يدري.. حدثته نفسه عدة مرات بالذهاب إلى بيت “سبيطين” والسؤال عما إذا كان ولده قد أتى إلى ذلك المكان أم لا، ولكن شيئاً خفياً كان يمنعه. لا يحب أن يرى ذلك الرجل.. كلما تذكره أو فكر فيه كان يشعر بانقباض مشوب بشيء من الخوف والقلق..

     كان من عادته أن يخرج مبكراً بعد الصلاة للعمل، فينقل ما يتيسر له من عمال وموظفين إلى أعمالهم، ومنذ حوالي التاسعة يمر بالبيت فيتناول بعض الطعام، ثم يعود ليتابع عمله.. ولكن اليوم، ها هي الساعة قد أصبحت السابعة ولم يخرج. وعندما سألته زوجته، أجابها بأنه يشعر بصداع قوي ولا يستطيع الخروج للعمل، قد يخرج بعد الظهر إذا تحسنت أحواله. ولكن الزوجة زادت مخاوفها، وأدركت أنه لا بد في الأمر شيئاً لا يريد زوجها أن يطلعها عليه.. ومع هذا كظمت غيظها، وصبَّرت نفسها على ما يعتمل في صدرها من شجون، ولم ترد أن تنتزع من زوجها ما لم يرض الإفصاح عنه..

وأخيراً لاحظت بأن زوجها يريد الإنفراد بنفسه، إذ أنه قليل الكلام دائم الشرود، فأرادت أن تخلي له الجو، ولكنها سألته قبل أن تخرج إن كان يريد شيئاً لتهيِّئَه له.. فأجابها بأنه يريد فنجاناً من القهوة فقط.

      وما أن خرجت زوجته إلى المطبخ لتحضر القهوة حتى سمعت صوت جاره “سليم” ينزل عليه كالرعد القاصف، فيهز كيانه، وهو يقول : 

-إسماعيل!.. إسماعيل!..

     فنهض إسماعيل نحو الباب ورجلاه ترتجفان، وهو يقول بصوت مرتعش :

-خير.. خير إن شاءالله!.. ما الخبر يا جار!…

فرد الرجل وهو ما زال يلهث :

-ألم تسمع الراديو؟!.. جريمة!.. جريمة في “سن الفيل”.. وحسب ما فهمت من الموجز أن الضحية هو “سبيطين” المرابي الكبير المعروف الذي لم يترك فرصة للقضاء على الضعفاء والإنقضاض عليهم.. وقد علمت أخيراً بأنك وقعت في حبائله.. فارجو أن يكون الله قد خلصك منه، وخلص الكثيرين غيرك!..

      وبينما كان سليم يتحدث إلى إسماعيل وهما يدخلان إلى غرفة الجلوس، كانت أم رائد قد أتت بالقهوة ودخلت عليهما، فسمعت بعض حديث سليم فامتعضت لقتل “سبيطين” وأظهرت بعض الأسى والحزن عليه.. إذ أنها في الحقيقة لم  تكن تعرف الكثير عن هذا المرابي. كل ما تعرفه هو أنه أنقذهم من الفقر والبؤس بما قدمه لهم من دين قضى حاجتهم به. وأما عن المبلغ السنوي الذي كان يدفعه زوجها فكانت تعتقد بأنه جزء من الدين، وبهذا عملت حسابها أربعة آلاف لمدة عشر سنوات يعني أربعين ألفاً. أي أن العشرين ألفاً التي إستدانوها عليهم أن يدفعوها أربعين في خلال عشر سنوات. وكانت تعرف في ذاتها بأن هذا ظلم وإجحاف، إلا أنه لا سبيل إلى غير هذا.. ومهما كان فهذا أفضل من الحالة التي كانوا فيها.. لذلك ترى بأن “سبيطين” رغم علاته، فقد قدم لهم خدمة، ولا بد أنه قدم ويقدم لغيرهم مثلها.. إذن لا داعي لقتله أو للحقد عليه بهذه الصورة التي تراها من جارهم “سليم”.. ولم تخف شعورها هذا بل قالت موجهة كلامها لجارها :

-هذا حرام يا جار!.. حرام يُقتل “سبيطين”.. فأنا لا أنكر بأنه جشع، ويأخذ “القرش إثنين أو أكثر” إلا أنه يفرج كثيراً من الهموم، ويسهل أمور الكثير من المحتاجين. وقبل أن يجيبها الجار أشارت له ولزوجها بتناول القهوة…

    إلا أن إسماعيل شعر بأن الأرض تميد من تحته عندما سمع هذا الخبر، وبدا عليه إرتباك وقلق شديدان، فسأل سليماً وشفتاه وكل جسمه في حالة إرتعاش : “لكن.. ما.. الذي أخذ “سبيطين” إلى سن الفيل؟!” ثم رفع صوته أكثر :

-ألم يذكر… الر.. ر.. راديو.. إسم.. القا.. تل؟..

فلم يدر “سليم” ولا أم رائد لماذا تغير حال إسماعيل إلى هذه الصورة، ولكنهما حسبا أن المفاجأة أثرت عليه، فأجاب “سليم” :

-لم أسمع كل تفاصيل الأخبار، وإنما سمعت أخر الموجز الذي جاء فيه : “وقعت جريمة ليلة أمس في “سن الفيل”، ذهب ضحيتها رجل يدعى “سبيطين”.

      وفي كل لحظة كانت تمر وعند كل كلمة كان يقولها “سليم” كان إسماعيل يشعر بأن الخطر يقترب منه شيئاً فشيئاً، وأن ذلك الشعور المبهم الذي كان سبب قلقه وتوتره قد أخذ يزداد ويستفحل إلى أن بلغ ذروته.. فلم يتمكن عندها من السيطرة على شعوره، فخرجت منه كلمات أشبه بالهذيان : 

-لقد فعلها!.. لقد فعلها!.. لم أكن.. أتوقع هذا منك.. يا.. رائد!…

كان يتفوه بهذه الكلمات، وكأن روحه تخرج معها شيئاً فشيئاً.. حتى أنه عندما لفظ آخر كلمة كان قد إنهار على كرسيه كلية، وغاب عن الوعي، بينما قطرات من العرق البارد كانت قد إنتثرت على جبينه ووجهه الذي بدا أصفر باهتاً كوجوه الأموات.

     كانت الدهشة عظيمة بالنسبة لكل من عفراء وسليم. إلا أن دهشة عفراء، بالطبع، كانت أعظم وأبلغ.. فالأمر يتعلق بزوجها وإبنها، وفوق هذا فهي لا تعرف معنى أو مبرراً لهذا.. إلا أنها رغم كل ذلك لم تترك العاصفة تجرفها.. بل وقفت في وجهها كالطود الشامخ.. فطلبت من جارها، الذي كان لا يزال مبهوتاً، بان يساعدها على نقل زوجها إلى السرير.. وبعد أن تم لها هذا، تولت هي رعاية زوجها، وطلبت من “سليم” بأن يتكرم باستدعاء أي طبيب يجده، وناولته بعض الدراهم التي كانت معها، إلا أن الجار رفض، وسار مسرعاً.. وبعد لحظات كان الطبيب يخرج من غرفة المريض، وهو يوصي إلى الزوجة بما يجب عمله.. وقد أخبرها بأن الصدمة كانت قوية، وقد يبقى غائباً عن وعيه عدة أيام، وعليه أن يعوده كل يوم لمراقبة حالته ولإعطائه بعض المنشطات…

إلى اللقاء في الحلقة الثالثة عشر

شاهد أيضاً

بري والحريري وسلام ووزراء ونواب وشخصيات سياسية وحزبية ونقابية ودينية من مختلف المناطق اللبنانية هنأوا العمال في عيدهم العالمي

إعداد وتنسيق مدير التحرير المسؤول: محمد خليل السباعي توالت ردود الفعل من شخصيات سياسية وحزبية …