رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للاديب احمد فقيه

الحلقة الثامنة (المعاناة تتناقم)

كان إسماعيل وفياً جداً لوصية ورغبة والده رغم كل ما كان يكابد جراء الضغط على عواطفه وأحاسيسه، ورضي بقضاء الله وقدره، وكان مخلصاً لأبعد الحدود مع إبنة عمه هند، واستمرا في العمل سوياً في الحقل بأقصى إستطاعتهما. وتمضي ثلاث سنوات على زواجهما ولم ينجبا، مما جعل هند تلجأ للمشعوذين الأمر الذي يودي بحياتها. فيعود إسماعيل للوحدة والتفكير.

إنقضت سنة تقريباً على وفاة هند وإسماعيل يغالب تلك السفوح الصخرية بمعوله، وقد شعر بثقل العبء الملقى على كاهله، كما أنه أحس بمرارة الوحشة القاتلة التي خلفتها هند بعد وفاتها.. فعلى الرغم مما كان يجد في هند من عدم التجاوب مع مشاعره وأفكاره إلا أنه قد تبين له الآن الكثير من جوانب محاسنها التي خفيت عنه، ولم يشعر بها في حينها. لقد كانت هند تتميز بصوت دافىء حنون جعل أذن إسماعيل تنجذب لسماعه لا شعورياً عندما كان يشدو ببعض الأهازيج والأغاني الشعبية.. وكان من عادة هند أن تترنم بهذه الأغاني عندما يحمى وطيس العمل، فكان غناؤها هذا يلهب قوّتيهما نشاطاً، ويسرع بخطى الوقت الثقيل فلا يشعران به. وهذا النوع من الغناء ليس مقتصراً على هند، بل معظم أهالي البلدة صغاراً وكباراً ينشدونه، كل حسب رغبته، وحسب مشيئته. إذ أن معظم هذه الأهازيج أو الأغاني كانت تهدف إلى تسلية العامل في حقله، وبعث النشاط فيه للإسراع في عمله وصرف الملل أو الكلل الذي قد يتسرب إليه بعد طول إجهاد ونصب.. وهكذا كانت هند تردد هذه الأغاني عفوياً كما تفعل معظم بنات قريتها بدافع غريزي عندما تشعر بأن الملل والتعب سيتسللان إلى كيانها. فإذا بها تجد الشمس قد مالت للمغيب دون أن تشعر بطول ذلك النهار الذي إنقضى بحرارته اللاذعة، أو بردِّهِ القارص.

أما إسماعيل الذي كان دائماً مشغول الفكر لم ينتبه لهذا وإن كانت إذنه تطرب لذلك الصوت الرخيم تلقائياً وتتجاوب معه مما كان يثير فيه حركات إيقاعية: كأن يسرع بمعوله أو منجله، أو يدندن بكلمات تتفق مع النغم الذي يسمعه..

ويبدو أن إسماعيل قد إكتسب هذه العادة من حياته التي قضاها في المقهى في بيروت، إذ كان يعمل طوال النهار وقسطاً من الليل على أنغام الراديو.. فلم يدر بخلده أن ينظر إلى ذلك المغني، إذ أنه يعرف مسبقاً بأنه جهاز يدار بيد الإنسان..

وهكذا مضت ثلاث سنوات وإسماعيل يعتقد بأن ذلك الصوت الرخيم الذي كان يلازمه ما هو إلا نغم صادر عن جهاز كذلك الذي تعود على سماعه في المقهى.. وعندما إختفى ذلك الصوت إستدار إسماعيل ليرى ماذا حدث للجهاز، فإذا به قد غاب عن الأنظار والأسماع، ولم يخلف سوى ذلك الشعور الذي تخزّن في أعماق إسماعيل، وبدأ الآن يطفو ويظهر على السطح على شكل أنّات وآهات..

كان له رفيق يعمل معه ويسير إلى جانبه، وقد يكلمه أحياناً إذا إقتضى الأمر..

أما الآن فليس له من مؤنس سوى تلك الصخور الصماء الجامدة، ذات الوجوه المكفهرة، ولا من صوت يشنف أذنيه، ويخفف عنه ملله وكلله سوى صوت معوله الذي يصطدم بتلك الصخور فتردد أصداءه الروابي والتلال، والذي قد يتلاشى أحياناً في غمرة من صفير الرياح القارصة وزمجرة الرعود القاصفة، أو صوت المنجل وهي تهوى على رؤوس السنابل فتحدث فحيحاً كفحيح الأفاعي في أشهر الصيف اللاهبة..

وعندما وصل إسماعيل بتأملاته إلى هذا الحد، أخذ يؤنب نفسه مقلباً يديه بعد أن يلقي بمعوله جانباً ويقتعد الأرض:

” كم كنت أحمق عندما كنت أطلب من هند ما لا طاقة لها عليه، وأتجاهل ما لديها من صفات ومحاسن أفتقر أنا إليها؟!.. يا للغباء.. يا لغباء الإنسان!!.. ينشد الكمال من غيره ولا ينظر إلى ما في نفسه من نقص!! تباً لي ولأمثالي!!.. آه.. كم أنا ظالم جائر؟!.. “

” … علينا أن نتقبل من الآخرين ما قد يتراءى لنا أنها هفوات!!.. لماذا نفترض، أو نطلب من غيرنا أن يكونوا نموذجاً للكمال الذي نتخيله نحن، والذي لا وجود له إلا في الأوهام؟!.. آه.. كم من صفة عند هذا أو ذاك تعتبر نقيصة عندي أو عند غيري؟!.. لماذا نطلب من الآخرين أن يكونوا نسخة طبق الأصل عنا، مع أن لكل منا جبلة خاصة تميزه عن غيره من بني جنسه؟!.. ومن يعرف من هو الأصلح من بين هذه الملايين من البشر؟!.. مسكين ” بني آدم “!.. كل فرد يعتقد بأنه هو الأفضل، وهو الأكثر ذكاء، والأكثر حكمة وتعقلاً، و.. وعلى هذا يبني إفتراضاته على غيره ممن يقابلهم: فمن يجد فيه أقرب الصفات إليه يعتقد بأنه أفضل الآخرين.. وتتدرج نسبة أفضلية الآخرين حسب نسبة قربهم أو بعدهم عن ميوله ونزواته.. “

هذا هو الإنسان الذي توصل إسماعيل إلى إكتشافه في ذاته.. وقد حمد الله على ما هيأ له من السبل لإكتشاف نفسه والعمل على إصلاحها قبل أن يجرفها تيار الغواية والغرور..

وبينما هو غارق في بحر تأملاته يجوب أعماق نفسه بحثاً عما تكون قد إرتكبت من أخطاء على غير قصد منه، تبادر إلى ذهنه ذلك الحب الجارف الذي ملأ عليه جوارحه منذ سبع سنوات تقريباً، والذي ما زال يهزه من قمة رأسه حتى أخمص قدميه كلما تراءى له بالرغم من أنه قد عمل على وأده وإخماده في صدره مجيراً لا مختاراً، فأصبح والحالة هذه بمثابة التابوت الذي يحمل جنازة حبه ويطوف بها أينما حل.. وبعد أن سبر أغوار نفسه تماماً تأكد له بأن هذا الحب كان هو الحاجز الجليدي الذي وقف بينه وبين إبنة عمه المسكينة هند.. ولم يعد يستبعد الآن بأنها ذهبت ضحيته..

وعندما تمثلت له هذه الصورة على حقيقتها من جديد، إقشعر جسمه، ثم أعقب القشعريرة زخات من العرق البارد، وشعر بشيء من الغثيان والدوار، ثم أخذ جسمه يرتعش وأسنانه تصطك..

وصل إسماعيل إلى البيت وهو في حالة يرثى لها من الأعياء والتعب.. فنزل عن حماره، وذهب رأساً إلى فراشه فتمدد عليه دون أن يخلع حتى حذاءه. فلاحظت أمه ما عليه من أعياء وإرهاق، فبادرت تساعده، وتنزع ملابسه، ثم تستبدلها بثياب النوم، وهي تسأله بلهفة عما به، فيجيب:لا شيء.. إنه بعض التعب فقط، لا يلبث أن يزول مع النوم والراحة.

فتسرع الأم المسكينة وتغلي له بعض الأعشاب التي كان يحبها، وخاصة في مثل هذه الحالات، فتهدؤه وتكسبه بعض الدفء.. وينام نوماً عميقاً..

وعندما فتح عينيه، كان الوقت قد قارب الفجر.. نظر حوله، فشاهد خيالات وأشباح تتراقص وتتشكل بأشكال مختلفة على جدران الغرفة وسقفها. فدهش في بادئ الأمر، ولكنه سرعان ما سمع أزيز النار المضطرمة في الموقد. فإلتفت ناحيتها، فإذا بأمه ما زالت تجثم بجانبه تسخن بعض أكياس صغيرة مملوءة بالرمل، وتضعها بين رجليه تحت اللحاف. وعندما سألها عن هذا، أجابته وهي مسرورة لأنه إستيقظ وهو بحالة جيدة:الحمدلله!.. يبدو أنك أحسن حالاً الآن.. لقد قضيت الليلة بكاملها وأنت ترتعش وتنتفض، ثم هدأت بعض الشيء، وأخذت تهذي بكلمات لم أفهم منها سوى ” المعلم ” وهناك كلمة أخرى لم أستطع أن أتبينها تماماً، فتارة تبدو لي كأنها ” خسراء “، وأخرى أعتقد أنها ” عذراء “، وهذا كله ضمن كلام مبهم لا يعرف أوله من أخره. وقد إنشغل بالي عليك كثيراً، ولذا فإني مسرورة جداً الآن لأنك والحمدلله بكامل وعيك، وعلى ما أرى فإن تلك الشدّة قد زالت عنك إن شاء الله.. ولكن قل لي يا بني: هل تتذكر شيئاً مما قلته لك الآن، أو مما قلت أنت في نومك؟..إني لا أذكر شيئاً من هذا يا أمي.. ولكن يجب أن تنامي الآن لأنك قضيت الليلة ساهرة.. فإذهبي ونامي، ولا تنشغلي عليّ، فإني والحمدلله بألف خير بفضل رعايتك وسهرك..

أدامك الله وأبقاك لنا وللخير عوناً وسنداً..يبدو أنك تعبت كثيراً بالأمس، فيجب أن تأخذ كفايتك من الراحة، ولا تذهب غداً للعمل، والله هو ميسر الأمور، فلا تحمل هم..غداً سوف نرى ما يريد الله.. فإذهبي الآن إلى الفراش قبل أن تشرق الشمس، ويصبح النوم متعذراً.ألا تريد أن تتناول بعض الطعام، إنك لم تتعشى! لقد هيأت لك بعض اللبنة والبيض المسلوق، وما زال إبريق ” الزهورات ” ملآناً..جزاك الله خيراً، يا أحلى وأطيب أم، وأعز إنسان عندي!.. فإني لا أشتهي طعاماً الآن، وكل ما أريده هو أن تنالي بعض الراحة، كما سهرت على راحتي.. فإني لا أحتمل رؤيتك تعبة مرهقة..

فأتت الأم بفراش وتمددت بجانب إبنها، ولم تتركه لوحده.. وعندما إطمأنت عليه، أغمضت عينيها وأسلمت نفسها لسلطان الكرى الذي لا يُغلَبْ.

أما إسماعيل فقد قضى الجزء الباقي من ليلته مفكراً، ومؤنباً نفسه على ما صنعت يداه:هل حبي لعفراء كان وهماً أم حقيقة؟!

وبعد أن يستعرض الموقف من جميع جوانبه، يجد بأن هذا الحب كان حباً صادقاً، وإلا لما بقي يختلج في صدره حتى الآن رغم أنه تعمد وأده..هل في هذا الحب ما يشين، أو ما يجعلني أخفيه، أو أبتعد عنه؟!

وبعد طول تفكير وتقليب للأمور، يجد بأن هذا الحب كان طاهراً مقدساً لدى الطرفين..

وهذه القدسية جعلت كلاً من الحبيبين يعتبر كلمة “حب” أقل بكثير مما تسمو إليه هذه الكلمة أصبحت مبتذلة، وأحياناً تقال بسبب أو بغير سبب، لذلك لم يسمع أي منهما هذه الكلمة من الآخر، وإنما كان يرى هذا الحب مجسداً في نظرات الآخر وحركاته وسكناته. كل عضو فيهما كان ينطق بالحب إلا أفواههما..

الندم

وهنا تأججت عواطفه من جديد، وجاشت نفسه بالبكاء، ثم فاضت عيناه بالدموع، وأخذ ينتحب ويرثي حبه المدفون وهو يعض على أصابعه تارة وعلى شفته السفلى تارة أخرى كلما تذكر بأنه فعل هذا الذي يجب ألا يفعله حفاظاً على نفسه وعلى غيره، وأن هذه المدة الطويلة إنقضت ولم يحاول أن يخبر عفراء أو على الأقل والدها بما أجبر على فعله بعد وفاة والده.. ولكنه بعد أن يأخذ الندم منه مأخذه، وينال منه تأنيب الضمير مناله، يجد لنفسه بعض الأعذار، فيستدرك:ولنفترض بأنني سعيت لإخبار عفراء أو والدها فماذا عساني أن أقول لهما؟! أهل يعقل بأن أقول لعفراء بأنني مجبر على الزواج من إبنة عمي عملاً بوصية والدي؟!.. بلا شك إنها سوف تستسخفني، بل ستحتقرني، وتتهمني بالخيانة والغدر!..

أو أنها تصدم بالخبر، ويصيبها بعض السوء. إذن عدم إخبارها كان أفضل.. وكذلك المعلم ” أبو خليل “، فإن رسالتي له إن لم تضرّه، فهي لم تكن لتفيده بشيء..

وهكذا يخلص إلى تبرئة نفسه من كل شائية، وينحو باللائمة على الأقدار التي قادته إلى هذا المنزلق..

وبعد أن يشعر بأنه بريء من كل إثم، تعاوده الثقة بنفسه وصلاحها.. فيعود إلى التفكير بعفراء وما عساه أن يكون قد حل بها طوال هذه السنين.. فهل يمكن أن تكون قد تزوجت؟!.. هل نسيته؟!.. وهل هذا يعقل؟!.. إنه لم ينسها.. إنه لن ينساها أبداً مهما طال الزمن، ومهما حصل..

ثم تصل به مناجاته إلى شيء من العزم والحزم، فيقول في ذاته وهو ما زال ممدداً على فراشه:إذا كنت قد أجبرت على الإبتعاد عن عفراء فيما مضى لأسباب قاهرة، فما يمنعني من السؤال عنها الآن.. قد أظفر برؤيتها ولو عن بعد، أو أعلم عنها شيئاً، أو من يدري..؟!

وعندما أشرقت شمس الصباح نهض إسماعيل، وجمع ثيابه في حقيبة، وحلق ذقنه ، ثم تناول بعضاً مما كانت قد أعدت له أمه للفطور، وإنتظر قليلاً حتى إستيقظت، فقبلها على جبينها والإبتسامة تملأ وجهه بشراً.. فإستبشرت أمه خيراً، ثم إستغربت حركته، فإستفسرت:إلى أين يا إسماعيل؟!.. خير إن شاء الله يا إبني؟!.. كيف صحّتك الآن.. ألا تريد أن ترتاح بعض الشيء؟!..إن شاء الله خير يا أمي!.. صحتي والحمدلله ممتازة.. لا تقلقي أبداً! وإني أودّ الذهاب إلى بيروت لقضاء بعض الحاجيات.. فإذا لزمك شيء إتصلي بسلمى أو ضرغام ريثما أعود.. أو أكتب لك من هناك إذا تأخرت لسبب ما.. ولا أريد أن أوصيك بالعم سلمان فهو كما تعلمين بمثابة والدي.. والآن أستودعك الله، وأطلب دعاءك ورضاك!..رافقتك السلامة يا إبني!.. دير بالك على نفسك وإحذر أولاد الحرام!..

البحث

كان أول عمل بدأ القيام به إسماعيل في بيروت هو البحث عن ذلك المقهى ذي الواجهات الزجاجية والسقف القرميدي، والذي كان يطل على أحد الشوارع الرئيسية المؤدية إلى قلب المدينة. ولكنه لم يجد لمثل هذا المقهى من أثر على الرغم من أنه طاف بالمكان عدة مرات.. وعندها بدأ يشك فيما إذا كان هذا هو المكان أم أنه قد تاه، وخاصة بعد أن وجد الكثير من المعالم المحيطة به قد تغيرت، ولم تعد تحمل ذلك الطابع الذي ما زال مائلاً في مخيلته..

وبعد أن أعيته الحيلة، وأخذ منه التعب كل مأخذه، لجأ إلى السؤال، فوجد على مقربة منه رجلاً يدفع أمامه عربة مملؤة بأنواع الخضار والفواكه وينادي بأعلى صوته:” بحمدوني ” يا عنب.. يا رمان ” برادى ” يا رمان..

” أصابيع البوبو ” يا خيار..

فوقف إسماعيل برهة وهو يحاول أن يسأله، ولكنه خجل من أن يقطع عليه هذا النغم الذي لا يكاد ينتهي حتى يعود من جديد.. وأخيراً شاهد سلة تتدلى من الطابق الثالث في أحد الأبنية المطلة على نفس الشارع، فإلتفت إلى الأعلى، فإذا بسيدة تمسك بالطرف الآخر للحبل، وتنادي:ثلاثة كيلو خيار، وإثنين كيلو عنب، ونصف كيلو فليفلة، من فضلك!..

فتوقف البائع عن الإنشاد برهة، وأمسك بالسلة، وتناول ما بها من دراهم، ثم وزن الكمية المطلوبة، وهو يردد أحياناً أنغامه المألوفة، ولكن بطريقة متقطعة.. وعندما إنتهى من عملية الوزن رفع السلة مشيراً للسيدة بإنتهاء العملية. فأخذت السيدة تشد الحبل، وعاد الرجل فوضع يديه على عربته، وهو يهم بدفعها أمامه، بينما يحاول العودة بصوته إلى ترديد نغمته المعهودة، ولكن إسماعيل إغتنم هذه الفرصة وفاجأه قبل أن يرفع عقيرته:من فضلك.. كلمة لو سمحت!..نعم.. تفضل!..هل تعرف ” مقهى السعادة “، صاحبه يدعى ” المعلم أبو خليل “؟..لا أعرف أبو خليل ولا أم خليل.. ولا علاقة لي بالمقاهي.. فالحمدلله لست من زبائنها.. إبتعد عنها يا بني أحسن لك.. هذه نصيحة أب لإبنه.. إنك ما زلت شاباً، إبتعد عنها أحسن لك إنها مصدر خراب ودمار وتعاسة لكل من يأوى إليها.. وكذلك سباق الخيل، فلا تحاول حتى الإقتراب منه فكم خرب شباباً وبيوتاً.. إبني أنا واحد من هؤلاء الذين قضى عليهم هذان المرضان.أرجوك يا سيدي، إني أقدّر نصيحتكَ، ولكني أريد المقهى لأقابل فيها شخصاً فقط، وليس ل…

فقاطعه البائع على عجل، وأجابه وهو يدفع بعربته إلى الأمام:إبحث إذن.. قد تكون هنا أو هناك، فلا يهمني أين تكون!..

وقف إسماعيل حائراً مشدوهاً وهو يفكر فيما قاله هذا الرجل.. وأخيراً هز رأسه وهو يقول لنفسه:لقد كان الرجل على حق.. إن هذه المقاهي ليست إلا مضيعة لوقت وجهد الكثيرين من الشباب، ومضيعة للدراهم لما يقامرون به، وفي النهاية، هي مضيعة لحياتهم لما قد يحصل فيها من شجار وتنازع يصل في كثير من الأحيان إلى درجة القتل، كما حدث، ويحدث دائماً مع الأسطى ” أبو عكر ” وشلّته!.. ألم تكن هذه الأعمال هي التي نفّرتني من العمل في المقهى، وسعيت أخيراً لتركها بعد أن أحصل على عمل أعتاش منه غيرها، وهذا ما دفعني إلى تعلم قيادة السيارة؟!.. ولكن كيف نسيت هذا، وإستمريت في العمل في ذلك المقهى لسنتين آخريتين؟!.. أه إن الحب!.. إنه الحب، مغير الأحوال، الذي بث فيّ رغبة البقاء قريباً من عفراء، هو الذي جعلني أتحمل ما لا ترضاه نفسي!.. ولكن مهما تكن الظروف، فسوف لا أعود إلى العمل في مثل هذه الأماكن مهما تطلب ذلك!.. أما سباق الخيل، الذي طالما سمعت عنه الكثير، والذي يفترض أن يكون متعة للناس، فإذا به ينقلب إلى مصدر للشقاء والتعاسة، والحزن والأسى، لقلوب الكثيرين، فهذا المكان سوف لا أذهب إليه مطلقاً إن شاء الله، عملاً بوصيتك أيها الرجل الكريم، رعاك الله وسدد خطاك!..

وبينما هو واقف، تنبه على صوت آخر ينادي:معانا صحون.. معانا كاسات.. معنا كبايات.. معانا فناجين قهوي..

وكان يمطّ بكلماته بحيث تأخذ أكبر حيّز زمني ممكن، وتُبقي على نغم معين لا يتغير مع الترداد..

تردد إسماعيل برهة: أيسأله أم لا يسأله.. أيسأله أم لا يسأله.. وأخيراً، تجرّأ، وتقدم من البائع ذي القامة الطويلة الشامخة، والوجه الذي لوحته الشمس فأصبح نحاسياً، وإنتظر حتى وصل إلى المقطع ” قهو..ي “، فوقف أمامه معترضاً طريقه وهو يرفع بإصبعه كما يفعل التلميذ أمام مدرسه، ويقول:أتسمح لي بكلمة، يا سيدي؟أهلاً وسهلاً تفضّل!.. تفضّل يا بني.. تفضّل!..هل تعرف لو سمحت مقهى ” السعادة “؟لا ” السعادة ” ولا ” التعاسة “!.. ليس عندي وقت للتعرف على المقاهي.. آسف.. عن إذنك!..

ودون أن يعيد الإلتفات إلى إسماعيل أو يعيره أي إهتمام، دفع بعربته أمامه، ورفع صوته منادياً، وتابع سيره..

بلغ العجب والدهشة بإسماعيل أشدّهما، وأخذ يتساءل عما حدث للناس:

” ألهذه الدرجة ينفرون من المقاهي؟!”..

وقرر بأن يترك البحث في ذلك النهار، ليتدبر أمر مبيته.

إلى اللقاء في الحلقة القادمة

شاهد أيضاً

قائد الجيش استقبل الامين العام للمجلس الأعلى السوري اللبناني

  استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة الامين العام للمجلس …