للذكرى 

د.السيد محمد الحسيني

في زمن الأوغاد، تعاهدت مع شقيقي أن نرحل في أرض الله الواسعة. ركبنا البحر تاركين خلفنا كل شيء، لم نحتفظ إلا بصندوق خشبي عتيق أخفينا فيه كنزنا!..

مرَّت علينا لياليَّ صعبة، كنا ننظر فيها الى النجوم وُنسَّبَحُ الله كثيراً، كانت الحيتان تقتربُ من المركب وتُحَمْلِقُ في وجهينا ثم تغوص في أعماق البحردون رجعة..
كان أديمنا خبز نخالة القمح، كنا ننظر الى الأفق البعيد على أمل بلوغ ميناء خلاصنا ..

مرَّت بنا طيور النورس ، العجيب أنها كانت تأكل على ألواح مركبنا ما إصطادته لتوِّها من أسماكٍ لم يسبق أن رأيناها في حياتنا! كنا نشاركها طعامها، لم تمانع في ذلك ..

عند كل فجر، كنا نفيق على عزف قيثارة جميل آتٍ من البعيد مع ريح الصبا في مشهدية أسدل الضباب عليها بعضاً من حيائه وتكفلت نجمة الصبح في تلوين ظلالها!..
عند إنتصاف الشمس في كبد السماء، كنت وأخي نفتح صندوقنا ونتنشَّق منه عبق أكواز الصنوبر التي غطينا بها كنزنا ! فندخل في لحظة تأمل ما عهدناه البتة ..

إعتاد غرابٌ أبيض على زيارتنا من حين لآخر حيث كان لا يحلو له المكوث إلا على صندوقنا العتيد! كنا نفتقده حين يطيل الغياب، ونُسَّرُ لرؤيته عند عودته، كان أخي يرمي له بعضاً من حبات الصنوبر فيكسر بمنقاره الغليظ قشرتها ليأكل اللُّب .كان يرمقه بنظرة فيها الكثير من الإمتنان والوداعة!..
كان هذا الغراب يأتينا بحبات من اللؤلؤ من حين لآخر، يحملها بمنقاره ويضعها بيد أخي !

ذات صباح جاء صديقنا الأبيض برفقة طائرٍ لم نر مثله قط! قد أسدل ريشه الملائكي على مركبنا وإستغرق في سبات عميق، عند إنتصاف النهار فتح حدقتيه الزرقاوتين ونطق بلسان عربي فصيح :”عند المساء سيقذفكم الموج الى جزيرة النسيان” ثم إرتفع الى السماء ليتوارى خلف السحاب .

خفت على أخي! وقبل مغيب الشمس، حملته رغما ً عنه ووضعته في الصندوق! حين أتى أمر الله لم أجده بجانبي! ها أنا وحيداً أعيش ذكراه …


(درب الآلآم)

شاهد أيضاً

قالت الصحف: لبنان بين الورقة الفرنسية والمبادرة المصرية!

ينتظر لبنان مضمون الورقة الفرنسية حيال الوضع في جنوب لبنان وعينه على المبادرة المصرية المتعلقة …