•طعام رمضان (٢):

“المحاشي” إختراع وسط آسيوي يتربع على عرش مائدة رمضان

زياد سامي عيتاني*


تحتل اللحوم على اختلاف أنواعها مكانة كبيرة على موائد العرب، إلا أن منافسها الأبرز الذي يمكنه سحب البساط من تحتها، ويجعل الجالسين إلى المائدة ينصرفون عن الاهتمام بها، هو “المحشي”.


“المحشي” بكافة أنواعه نال مكانة كبيرة في قلوب الشعوب العربية، وأصبح الأكلة المفضلة لديهم، فلا تخلو عزومة من أطباق “المحشي” الشهية، فلا تجد أحد لا يحب المحشي، بل هناك من يفضل نوع عن الآخر.
وفي شهر رمضان المبارك تتربع أصناف “المحشي” المتنوعة والمتعددة، والمعد تحضيرها وطهيها بطرق ومذاقات مختلفة، على عرش المائدة الرمضانية بقوة، لا سيما خلال العزومات والولائم، لأنها تعبر عن تكريم إستثنائي للضيوف والمعازيم…


•إختراع وسط آسيوي:

“المحاشي” إسمها العالمي “دولمه”، وهي التسمية القديمة من العصر الروماني، وأطلق عليها العثمانيون تسمية “صُغدية” ومعناها “حشوة”.
“الدولمه” إخترعها أهل وسط آسيا كأكلة حفلات، ممكن أكلها ع الواقف وبدون سكب بصحن، بحيث صار الرز واللحم محمول داخل الخضار بدل ما يكون العكس.


•السلاجقة نشروها على سواحل المتوسط:

مع السلاجقة في القرن العاشر وصلت تقاليد “الدولمه” لقصور الأمراء بمنطقة المشرق وإيران وصارت على سواحل المتوسط، واحتفت فيها جداً سلطنة الروم فيما بعد من نيقيا وقونيه إلى أن وصلت أقصى غرب الأناضول، وبسلطنة الروم أُضيف ورق العنب لعيلة “الدولمه”، وصار يعرف ب “اليبرق” (اليبرغ).
كذلك في العراق وأثناء حكم السلاجقة أضيف البذنجان لعائلة “الدولمه”، وأضيفت البندورة كذلك للحشوة.


•العثمانيون أدخلوها للدول العربية:

وظهرت “الدولمه” في الدولة العثمانية مطلع القرن الرابع عشر، وأدخلته إلى الدول العربية مع بدء السيطرة عليها مطلع القرن السادس عشر، خصوصاً أنهم تبنّوا الكتير من المطبخ الرومي وصار عثماني.
ومع العثمانيين وصلت “الدولمه” لموائد أكابر بلاد الشام والمصريّين، لطالما كانت من أهمّ الحضور على موائد الولاة والباشاوات والبكوات.


•مكوناته وأصنافه:

المكونات الأساسية ل “الدولمه” هي الرز واللحم، وخضار قابلة للحشو، حفر أو لف، والصنف النباتي من “الدولمه” بدون لحم واسمه “الكذابي”.
وأدى إختلاف المحاصيل الزراعية بين دول المنطقة إلى تميز كل دولة بأنواع معينة من المحشي حسب المحاصيل المتوافرة بها، فاستخدمت أنواع أخرى من الخضروات في صناعة هذه الوجبة، مثل الباذنجان، الكوسة، الملفوف، البندورة، البطاطا، والبصل، من خلال إزالة “قلب”هذه الثمرات ووضع “حشو” بداخلها.
كما أدى اختلاف النمط الغذائي لكل دولة إلى اختلاف “الحشو” ففي مصر الغنية بالأرز أكثر من اللحوم يكون عبارة عن الأرز بالخضروات أو الأرز المبهّر المطعم بنسبة قليلة من اللحم المفروم، وفي تركيا والشام ولبنان يقل استخدام الأرز والخضروات ويكثر استخدام اللحوم.


•العرب يطورونها:

طوّر العرب تلك الأكلة التركية، لتصير جزءاً من تراثهم، ويتفوقون في صناعتها على الأتراك أنفسهم. وهي تنتشر في البلدان العربية أكثر من دولة المنشأ، إذ شهدت بعض الدول تطويراً لإخراج طبق المحشي حسب المتاح من المحاصيل الزراعية والنمط الغذائي السائد.


سوريا ولبنان والأردن وفلسطين من أكثر البلدان إدخالاً للتعديلات على الأكلة، التي تعرف بأسماء عديدة مثل “اليالنجي” الذي يطلق على طبق ورق العنب البارد بالليمون والزيت بدون لحم، و”اليبرق” الذي تُضاف فيه قطع اللحم والدهن إلى مكونات الحشو لإعطاء نكهة خاصة، مع الحفاظ على الملفوف”، والفليفلة والكوسا والباذنجان، مع المرق الأحمر، بسبب إضافة صلصة الطماطم.


ويُعرف المحشي في فلسطين والأردن باسم “ورق دوالي”، وتعد الدولتان أول من استخدم ورق العنب في الحشي.
تنافس المطابخ المصرية نظيرتها بقوة في “المحاشي“، لأنها المصب الأكبر لكل التجارب وأكلات المطابخ، سواء التركية أو العربية. وهي أضافت العديد من الأنواع للمحاشي مثل أوراق الخس واللفت والبطاطس والخيار والطماطم، كما أن الأرز المصري هو المكون الرئيسي في كل المحاشي العربية.


في المغرب والجزائر يتم حشو البصل إلى جانب الأنواع المعروفة.
أما في تونس فيُعرف المحشي باسم “فندق الغلة”، ويضيف الطهاة قطع الخبز والجبن المبشور والبيض ضمن خلطة الحشو، إضافة للأرز واللحم المفروم لزيادة الشعور بالشبع.
وتعمل بعض مطابخ المغرب العربي على استبدال الأرز بالبرغل لدى حشو الباذنجان.


•ضيوف الوالي في مصر ظنوه سماً:
ثمة قصة تراثية طريفة تداولها المصريون، بإن أول طبق “محشي” تم تقديمه في للمصريين، كان في قصر الوالي العثماني، وكان الوالي العثماني يعقد كل فترة اجتماع بأثرياء وأمراء مصر داخل قصره، وفي إحدى المرات كانت الوليمة تتضمن “الدولمة” أو “المحشي”، وظنوا أنه سيقتلهم بالسم بعد اعتقادهم أنه ورق شجر مسموم، ولم يتناولوه إلا بعد أن اكل الوالي بنفسه.


•المحشي شرط للزواج في العراق:
تعد “الدولمه” من الوجبات الأساسية لدى العراقيين، وتقاس بها مدى مهارة المرأة في الطهو. كما تكون الفتاة التي تتقن إعدادها مطلوبة أكثر للزواج ومرغوبة من أهل الشاب، الذين يطمئنون على مستقبل ابنهم، ما دامت زوجته قادرة على صنع هذه الأكلة بمهارة.


نختم هذه الرحلة الممتعة مع أكلة تدخل القلب قبل المعدة ببيتين وصف بهما إبن الرومي “المحشي”، قائلاً:
 وباذنجان مَحْشِي تراهُ
يعومُ كعنبرٍ في دُهنِ بانِ


*باحث في التراث الشعبي.

شاهد أيضاً

منتدى الأمن العالمي ٢٠٢٤ يشهد دعوات لتعضيد الوحدة الإفريقية

الرئيس الروانديّ يؤكد أن الاستثمار في الشعوب هو حجر الزاوية في الوحدة رئيس مفوضية الاتحاد …