رحلة في بلد الإشعاع

رواية على حلقات للأديب أحمد فقيه

الحلقة الثالثة ( المخاض العسير )

دقّ الجرس، وبدأت الحصة الأولى من ذلك اليوم، وإتخذ كل تلميذ مكانه في فصله.. وكان إسماعيل قد إختار لنفسه مكاناً متقدماً لكي يكون على مقربة من المدرس والسبورة، ولا يفوته شيء من الشرح.. وبعد قليل دخل ” جو “، فجلس إلى جانبه، وكعادته حيّاه:

بون جور مسيو رشيدي.

فإزداد ضيق إسماعيل، وشعر بأنه يكاد يختنق، إلّا أنه كتم هذا، وردّ:

صباح الخير يوسف، أهلاً بك!..

وفي هذه الأثناء دخل المدرس فوقف التلاميذ إحتراماً.. وبعد أن حياهم، طلب منهم الجلوس ( بالعربي )، وعرفهم بنفسه، ثم أخبرهم بأنه سيدرسهم مادة ” التاريخ ” وأعطاهم جدولاً بمواعيد حصص هذه المادة من كل أسبوع.. وبعد هذا باشر بكتابة عنوان الدرس على السبورة، ثم تبع ذلك بالشرح، والمناقشة، ثم التلخيص..

أمّا إسماعيل فقد نسي كل ما كان يضايقه قبل الدرس، وإندمج مع المدرس كلية.

وكعادته، فقد كانت إجاباته ممتازة جداً بالنسبة لباقي زملائه.. فشكره المدرس وهنأه على حسن إستجابته، وتمنى له النجاح والتوفيق.

وسر إسماعيل جداً من هذا التقريظ الذي أعطاه زخماً جديداً، كما أن سروره كان عظيماً من الدرس الذي كان بالنسبة له شيقاً وممتعاً بالإضافة إلى أنه شعر عند إنتهائه بأنه ملم بجميع نواحيه وأن بإمكانه أن يعيد شرحه كما فعل الأستاذ تماماً، وأن تلك النقاط البسيطة التي سجلها عن الدرس تجعله يعود إليه في أية لحظة، فيتذكر كل ما دار حول الموضوع مهما طال عليه الزمن..

ولكن على الرغم من هذا السرور البالغ والشعور المفعم بالرضا، كان إسماعيل يشعر بإنقباض في نفسه كلما راوده ذلك الإحساس المبهم الذي تسلل إلى نفسه عندما كان جالساً على الشرفة في ذلك الصباح.. وكان كلما راوده هذا الشعور حاول دفعه عنه بتحويل تفكيره إلى نواح أخرى..

كانت الحصة التالية في جدول ذلك اليوم هي ” كرامير ” ( قواعد لغة فرنسية ).. وحضر المدرس الذي كان قد عرفهم بنفسه بالأمس، لذلك لم يضيع مزيداً من الوقت، فرأساً، بعد التحية المعتادة، كتب عنوان الدرس الذي كان مراجعة عامة عن الأفعال وتصاريفها.. وبعد أن كتب المدرس العنوان على اللوح أردف هذا بمقدمة وببعض التوجيهات، وكلها باللغة الفرنسية، طبعاً، وإسماعيل لم يكن ليفهم أية كلمة مما يقال، إلّا أنه عازم على ألّا تفوته أية مسألة مهمة إلّا ويسأل عنها ويعمل جهده لكي يفهمها وإلّا ستستمر الدروس وهو في مكانه: ” مثل الأطرش بالزفّة “. لذلك عندما شاهد على السبورة العنوان: ” Les Verbes ” تذكر هذا الإسم وعرف بأنه كان وزملاؤه يرددونه كثيراً، ومعه أحياناً كلمة: ” Avoir ” أو ” Etre “، ولكنهم لم يكونوا يعرفون ماذا يقصد بهذا أو ذاك، سوى أنها تعابير خاصة بالقواعد الفرنسية. وعليهم أن يحفظوها صما بدون تلكؤ، والويل ثم الويل لمن يتردد أو يتلكأ في إنشادها.

وعندما تراءت له الصورة القديمة، شعر بضيق شديد، ولم يكن يريد أن تتكرر هذه الأمور، فقال لنفسه: ” يجب أن أكون واعياً منذ البداية “.. يجب ألّا أترك أية كلمة تفوتني!.. ” ولهذا أنتهز فرصة إنشغال المدرس بالكتابة على السبورة، وسأل زميله ” جو “:

ماذا تعني كلمة ” لِ ڤيرب “؟..

أوه!.. أوه مسيو!.. أوه مسيو!.. ما بتعرف شو يعني ” لِ ڤيرب “! ڤيرب يعني أفأال.. أفأال.. مثل: ” أهب ” = ( J’aime ) أو ” أزهب ” = ( Je pars ).

إلّا أن الأستاذ كان قد إنتبه إلى الوشوشة التي لم تعد وشوشة بالنسبة لـ ” جو “، فإستفسر بإنفعال وغضب، بالفرنسي طبعاً، عن هذا، فقال له جو (بالفرنسي كذلك) بأن زميله: ” زاهر ” لا يعرف ما معنى ” لِ ڤيرب “!.. فدهش المدرس، وكان يريد أن يقول شيئاً، إلّا أنه تراجع وإلتفت إلى إسماعيل وأخذ يسأله بالفرنسي من أين هو، وفي أية مدرسة تعلّم، ولكن إسماعيل شعر بحرج شديد، وإحمرّ وجهه خجلاً، ولم يعرف كيف يجيب حتى على كلمة واحدة.. وعندها إضطر المدرس أن يسأله بالعربي. وعندما علم المدرس الجهة التي درس فيها هزّ رأسه، وتابع شرحه دون أي تعليق. فقط قال لإسماعيل:

إذا أردت السؤال فاسألني أنا، أو أجّل السؤال لما بعد الدرس.

وعاد المدرس ليسأل التلاميذ، فيطلب من هذا أن يصرّف فعل كذا بالمضارع، ومن آخر فعل كذا بالماضي وهلم جرا.. وأخيراً أراد أن يشرك إسماعيل بالدرس، فقال، وهو يشير إليه:

Conjuguez le verbe ” Avoir ” au present! (المقصود: صرّف الفعل ” Avoir ” بالمضارع).

فهذه الجملة ليست غريبة على إسماعيل، فكان يسمعها تتردد وتتكرر مراراً أثناء دراسته السابقة، لذلك إنطلق ينشد:

Je suis

Tu es

il est

Elle est

Nous sommes

Vous etes

Ils sont

Elles sont

فإنفجر التلاميذ في ضحك متواصل، وحتى المدرس لم يتمالك نفسه من الضحك، مما أربك إسماعيل وشعر بالحرج والخجل الشديدين، إذ تراءى له بأن الأنشودة المطلوبة، أو أن فيها خطأً كبيراً.. إلّا أن المدرس شعر بحرجه، فأراد أن يخفف عنه بعض الشيء، فقال له موضحاً أحياناً بالعربي وأحياناً بالفرنسي:

هذا ليس فعل “Avoir  “!.. هذا فعل ” Etre “!..

فعل ” Avoir ” يبدأ هكذا:    J’ai _ tu as…..

وهنا تذكر إسماعيل هذه الصورة، فقال: ” وي.. وي.. “، ثم إنطلق ينشد:

J’ai

Tu as

Il a

Elle a

Nous avons

Vous avez

Ils ont

Elles ont

والحقيقة أن هذا ما كان يعاني منه إسماعيل ورفاقه السابقون.. كانوا كالتائهين في بحر اللغة الفرنسية لا يعرفون هذا من ذاك.. كل ما كانوا يحفظونه أو يعرفونه هو مجرد ترديد لأشياء يسمعونها ” كالببغاء “.

وي مسيو

أعقب تلك الحصة فرصة لمدّة نصف ساعة.. فإغتنم التلاميذ الفرصة لإستكمال تعرفهم على بعضهم وخاصة الجدد منهم، الذين أتوا في ذلك اليوم، وكثيرون منهم. خرجوا إلى الساحة أو لقضاء بعض الحاجات.. أمّا إسماعيل فما زال يشعر بوخز الإبر من جرّاء ما أصابه من تقريع.. ويلتفت يمنة ويسرة فيرى معظم الأصابع تشير إليه، ونظرات زملائه التي تخفي تحتها السخرية المغلفة ببعض الشماتة الماكرة، حتى أن زميله ” جو ” قد إنغمس مع زميل آخر في الصف الخلفي في كلام كلّه أحاجي بالنسبة له، وهو لا يلتفت إليه البتة، فإعتبر هذا إهانة كبرى، وضاق صدره حتّى أنه كاد يختنق؛ فخرج من غرفة الفصل وإتّجه نحو مقهى موجود بالقرب من المدرسة.. وعندما وصل، إختار مكاناً منزوياً بعيداً عن الضوضاء ليروح عن نفسه بعض ما تكابده من ضيق وعناء..

وما كاد يجلس على كرسي هناك حتى مرّ به سفرجي، فحاول أن يلفت نظره بتصفيقة من يديه، وهو يقول:

لو سمحت من فضلك!..

فالتفت السفرجي ناحيته ملوحاً بيده، وما أن وصل قريباً منه حتّى قال:

وي مسيو؟..

فبلع إسماعيل ريقه وقال في نفسه: ” حتّى السفرجية هنا لا يتكلمون إلّا الفرنسية!! ولكنه تجاهل الأمر وقال:

قهوة.. قهوة.. ” كافي ” .. مسيو!..

حاول أن يستعين بالقهوة على ما يعانيه من ضيق ولكنه، وإن كانت القهوة قد أنعشته بعض الشيء، لم يستطع إزاحة ذلك الكابوس الماضي بتضييق الخناق عليه شيئاً فشيئاً.. ولكي يبعد ذلك الكابوس ويبدد ما يتزاحم على نفسه من أحاسيس، أخذ يسرح نظره في الأفق البعيد تارة، وفي الأشجار الشاهقة التي تتطاول بفروعها فتلامس نوافذ الأبنية في الطابق الثالث أو الرابع على جانبي الشارع المقام عنده ذلك المقهى تارة أخرى، أو بالنظر إلى من يدخل ويخرج من المقهى مع متابعة، دون قصد، حركة العاملين هناك.. ولكن النتيجة كانت عكسية.. فبدلاً من أن يروح عن نفسه، وينسى ما يعانيه، زاد ما شاهده وسمعه من الناس هناك ضيقاً وإنقباضاً.. فقد عاد إليه تساؤله وإستهجانه لإستخدام الناس هناك وتفضيلهم اللغة الأجنبية على اللغة العربية..

وإحتار في تعليل هذه الظاهرة وتفسير هذا اللغز.. ظن في بداية الأمر بأن ذلك الحي إنما هو فرنسي جملةً وتفصيلا، وأن تلك الكلمات العربية المهشمة التي يسمعها أحياناً قد إكتسبها هناك الناس بفضل وجودهم بين عرب.. ولكنه بعد أن سمع بعضهم ينادي البعض الآخر بأسماء عربية مثل: سهيل – هيفاء – ليلى – سمعان – جميل – فاضل – غادة – حاتم…، أيقن عندها بأن هؤلاء الناس عرب!..

” إذن لماذا هذا التجاهل؟.. لماذا هذا التنكّر؟.. لماذا هذا الإحتقار للنفس والذات؟!! “

هذه أمور شغلت تفكيره وحيرته.. والذي حيره أكثر فأكثر هو أن البلاد بجميع أفرادها وفئاتها قد خاضت معركة الإستقلال عن السيطرة الفرنسية وذهب ضحيتها الكثيرون من أبناء هذا الشعب من مختلف عناصره، وأن الوطن يعيش الآن فجر حريته وإستقلاله، بعد أن تحقق له بدم أبنائه البررة.. ” فما معنى هذه الظاهرة إذن؟!! “..

الوساوس تتزايد

وهكذا ذهب حيث ذهب ليسري عن نفسه ويخفف عنها فإذا به يزيدها عسراً ويحملها المزيد من الأثقال.. ولكن الوقت فاجأه، وقطع عليه حبل أفكاره وهواجسه، فنهض قاصداً الفصل، إلّا أنه لم يشعر بذلك الإندفاع والحماس اللذين كانا يشدانه عند التأهب لسماع درس جديد، وإنما شعر بتثاقل في مشيته لم يعهدها من قبل. على أية حال، حاول أن يتشجع ويتجلد، فأخذ يدفع نفسه إلى الأمام دفعاً حتى وصل إلى غرفة الفصل الذي إلتأم شمله في خلال ثوانٍ.. وبعد قليل دخل الأستاذ محييا:

بون جور!..

وعلى الأثر ردّ التلاميذ بصوت واحد:

بون جور مسيو!..

أمّا إسماعيل فقد بدأ يتقزز من هذه التعابير ويشعر بأنها أشواك تخز جسده.. إلّا أن المدرّس لم يترك فرصة للتفكير، فأردف تحيّته مخبراً التلاميذ، بالفرنسية طبعاً، بأنه سيدرسهم مادتي الطبيعة والكيمياء. ثم ألحق هذا بجدول قسم فيه الأيام التي ستخصص لكل من المادتين. وبعد هذا أخذ يشرح بالكلام الشفهي أحياناً، وأحياناً يستعين ببعض التخطيطات والرموز والتعابير التي لم يفقه إسماعيل منها سوى الاحرف.. فهذا كل ما كسبه تقريباً من دراسته للغة الفرنسية طيلة المدة التي قضاها في  قريته في المرحلة الإبتدائية.

فقد تعلم أول ما تعلم مع زملائه الأحرف ولفظها وتدرجها القاموسي، ثم تكوين كلمات من هذه الأحرف وقراءتها.. ولكن من معاني هذه الكلمات لم يكن لهم أن يعرفوا سوى القليل القليل.. فقط بعض الكلمات والتعابير الشائعة، مثل: طاولة – كرسي – قلم – دفتر – كتاب – صباح الخير – كيف حالك؟.. وما عدا هذا فقد كان الدرس يأخذ طابع الترتيل أو الإنشاد بدون معرفة ما يُقرأ أو يُنشد.. وأحياناً كان يختار المدرس بعض ما يروق له من كلمات ويطلب من التلاميذ بأن يضعوا تحتها خطّأً، ثم يستخرجوا معانيها في البيت من قاموس ( فرنسي – فرنسي )، ويحفظونها مع معانيها عن ظهر قلب. وبهذا تكون الكلمات ومعانيها بالنسبة للطلاب كمن ” يفسّر الماءَ بالماءِ “، فلا يعرفون من الكلمة أو معناها شيئاً.. هذا علاوة على الصعوبة التي يلاقيها تلاميذ في مثل هذا المستوى في إستخراج معاني هذه الكلمات أو في إستظهارها وحفظها ” الببغاوي “..

وخلاصة القول أن إسماعيل وزملاءه في المرحلة الإبتدائية كانوا يحسنون قراءة الفرنسية من حيث الأحرف وما تكونه من كلمات مع ألفاظها، أما معانيها فما كانوا بفقهون منها إلّا ما قلّ وندر.. وأما بالنسبة للقواعد من إعراب أو تصريف أفعال، فلم تكن هي الأخرى تخرج عن هذا المحتوى.. فالتكرار جعلهم يحفظون عدّة نماذج ” إعرابية ” أو ” تصريفية ” .. إلّا أنهم لم يستطيعوا أن يميّزوا أو يعرفوا الفرق بين هذه الصيغة أو تلك، ومتى يمكن إستخدام كل من هذه النماذج.. لذلك كانوا كل ما ذكر أمامهم أو طلب منهم إعراب كلمة أو تصريف فعل، يأخذون بإنشاد ما يتراءى لهم من صور ” قد تصيب وقد تخيب “.

وهكذا كانت تسير أمور الدراسة في تلك المرحلة بالنسبة لمادة اللغة الفرنسية.. أما بالنسبة لبقية المواد، فعلى الرغم مما كان يرافقها من عيوب في عملية التدريس، إلّا أنهم كانوا يفهمونها، بل ويتفوقون فيها أحياناً.. وضعف التلاميذ باللغة الفرنسية، وإدراكهم لهذا الضعف، جعلهم دائمي الخوف من نتيجة الإمتحانات.. ومع هذا فقد كانوا ينجحون بإستمرار ولكن كيف؟!.. هذا ما لم يستطيعوا إدراكه.. وحكاية ” النصف علامة ” لم يعرفوا بها إلّا في آخر المرحلة عندما تقدموا لإمتحان ” الشهادة الإبتدائية “..

وعلى الرغم من هذا النجاح الذي كان يمنى به إسماعيل في كل إمتحان، إلّا أنه لم يكن مطمئناً كل الإطمئنان.. كان يدرك في قرارة نفسه أن نجاحه هذا ناقص.. وإذا حالفه الحظ اليوم أو غداً فلا يمكن أن يستمر إلى جانبه إلى ما لا نهاية.. وهذا ما أقلقه وأقض مضجعه من نتيجة إمتحان الشهادة الإبتدائية.. إذ كان يعلم بأنها شهادة تخضع لإجراءات رسمية مشدّدة، وإذا كان في السابق يسمع كلمة من هذا أو جملة من ذاك اثناء الإمتحان فهنا لا يمكن.. ولكن عندما ظهرت النتيجة وتبين بأنه ناجح، وعلم بأن ” نصف علامة ” كافية للنجاح بهذه المادة، هانت عليه الأمور وإرتاح جدّاً، وأصبح لديه أمل بمتابعة الدراسة إذ يمكنه الحصول على النصف علامة كيفما إتفق، فهذه ليست مشكلة البتة.. ولكن عندما ” حطَّ رحاله ” في المدرسة الجديدة، وشاهد بأن معظم كتبه باللغة الفرنسية، بدأ يشغر بالضيق دون أن يدري السبب، ودون أن يعرف أي شيء عن ما هية هذه الكتب ولا عن كيفية تدريسها، أو المقصود منها.. مجرد مشاهدته لها والنظر فيها كان يقلب مزاجه رأساً على عقب، فيتعمد تجاهلها وعدم التفكير فيها.. إلّا أن شيئاً ما كان يترسب في أعماقه مرة بعد مرة ثم لا يلبث أن يثور كلما سنحت له الفرصة.

وها هو الآن يرى نفسه أمام هواجسه ومخاوفه التي لم تعد شكوكاً، بل أصبحت حقيقة مجسّدة.. ها هو الوحش الكاسر يكشر عن أنيابه، ويقف أمامه وجهاً لوجه ويسد عليه جميع المنافذ..

إنتهى الدرس، وخرج التلاميذ لقضاء فرصة الغداء.. وخرج إسماعيل وهو لا يعي مما سمع أثناء الدرس شيئاً.. وعندما وصل إلى مسكنه، بدأ بتحضير الطعام الذي كان يعده بنفسه لأنه لم يكن يرغب في أكل المطاعم، ولا يلجأ إليها إلّأ عند الضرورة القصوى.. وبعد أن إنتهى من الإعداد، حاول أن يتناول شيئاً يسد به رمقه، إلّأ أنه لم يستطع إزدراد لقمة واحدة..

فقد جفّ ريقه لدرجة أنه أصبح يشعر باللقمة وكأنها شوكة في فمه.. إكتفى ببعض المرطبات، وإستلقى على سريره يتقلب ذات اليمين وذات اليسار بإنتظار إنتهاء الفرصة..

كان الدرسان المتبقيان في جدول ذلك اليوم هما رياضيات: ” ألجيبر و جيومترى ” ( جبر و هندسة ) ولم يكن حظ إسماعيل فيهما بأحسن من حظه في الدرسين السابقين.

وتتابعت الأيام، وتتابعت معها الدروس على هذا المنوال.. كان إسماعيل كل يوم يعتقد بأن شيئاً جديداً قد يحدث ليخرجه من مأزقه، ولكن هذا الشيء لم يحدث.. لم يكن يتصور بأن القدر يمكن أن يسوقه لمثل هذا المصير.. وصعب عليه هذا الأمر جداً، وشغل حيزاً كبيراً من وقته وتفكيره. فكلما خلا بنفسه، كان يغوص في تفكير عميق عن الأسباب التي قادته لمثل هذا المصير: ((.. لماذا.. ليس هناك.. سبب!.. لم أفعل ما يستوجب هذا العقاب المرير.. الشهادة.. قدمتها للمدرسة.. تماماً كما هي، دون تغيير أو تحريف.. إذن لماذا هذه الفجوة؟!.. ألم يروا ” النصف علامة ” في مادة اللغة الفرنسية؟!.. ماذا يمكن لتلميذ لم يتجاوز هذا ” النصف ” أن يفعل؟! هل يستطيع أن يحل جميع هذه الطلاسم والأحاجي؟!.. لا!.. لا!.. لا يعقل!!.. لا يمكن!.. أبداً.. أبداً لا يمكن!.. هذه أمور لا يمكن أن تحدث.. لا.. لا.. إطلاقاً.. بين.. لا بد أن في الأمر.. سراً.. هناك.. ثم.. ثم لماذا هذا الإنتقال السريع المفاجىء من العربي إلى الفرنسي؟! ماذا يحصل.. لو إستمرت الدراسة باللغة العربية؟!.. لا بد أن في الأمر سرّاً!..))

(( ولمن ما شأني أنا بكل هذا؟!.. ما ذنبي أنا؟!.. ماذا أقول لوالديّ الآن؟.. ماذا.. أفعل؟!.. يا رب أرشدني.. أهدني إلى الطريق السليم!.. الست.. ل.. ول.. جميع.. يا رب!..

لقد تهت.. لا أعرف.. أين أذهب.. ولا أين.. ولا ماذا أفعل! النجدة.. النجدة يا رب!.. إنك قادر على كل أمر!.. ))

مضت أشهر وإسماعيل لا يبارح دوامته، يسأل نفسه كل يوم نفس الأسئلة، ولكنه لا يعثر على حل أو جواب.. لم يعد يعرف ماذا يقول لوالديه بعد تلك الرسالة التي عجل وأرسلها إليهما وهو في غمرة بهجته وحماسه. أين ذلك اليوم مما هو فيه الآن!.. إنه لم يعد يطيق صبراً على الجلوس في ذلك الفصل الذي بدا له جامداً كالثلج بعد أن تأكد له عدم جدوى الجلوس فيه أو السعي إليه..

تبدلت الصورة أمام عينيه تماماً.. فبدت له تلك المدرسة التي إعتقد بأنها المشعل الذي سينير أمامه طريق المستقبل المفعم بالأمل والحياة والنشاط، ما هي إلّا زريبة يُلبَسُ الجَهلُ فيها لباس المعرفة.. هكذا، إنقلب ذلك المصباح الهادي إلى غمامة سوداء قاتمة تبعث الظلام والأسى في نفس هذا الفتى التائه الحائر الذي لم ير أنه قد إقترف إثماً يستحق مثل هذا العذاب.

كان يعرف تمام المعرفة بأنه لا يمكن أن ينجح في أي إختبار يجري له في تلك المرحلة ولو بقي فيها، والحالة هذه سنوات وسنوات. ولكنه بعد أن أخبر والديه بما أخبرهما في تلك الرسالة، وجد أنه من الصعب عليه أن يعود ليخبرهما العكس.. وعلاوة على ذلك فقد صعب عليه أن يترك المدرسة إلى حيث لا رجعة، لأنه كان يحب الدراسة والبحث عن العلم والمعرفة.

وبينما كان يفكر فيما يمكنه أن يفعل، كانت الأيام تمر.. وتمر.. وهو غارق في بحور من الهواجس، والعزاء الوحيد الذي كان يخفف عنه ما ألم به هو حضور تلك الدروس التي أحبها من كل قلبه، لا لشيء إلّا لأنه كان يفهمها، وهذا جعله يحول كل جهده نحوها. إلّا أنّ هذا لم يغيّر من شعوره بأن دراسته بهذا الشكل تعتبر مبتورة ولا يمكن أن توصله إلى مبتغاه، وقد إنقطع عن الكتابة إلى والديه لأنه لم يعد يدري ماذا يقول لهما.. فإقتصر على الرد على رسائلهما بإقتضاب شديد، بعد أن كان يجد متعة كبيرة في الكتابة إليهما.

مضت عطلة نصف السنة وكل ما سبقها من أعياد ومناسبات ولم يحاول إسماعيل الذهاب لزيارة أهله أو لقضاء بعض الأيام عندهم رغم توددات والديه إليه بهذا الخصوص، بل آثر البقاء في عزلته يقتل وقته بقراءة الكتب التي كان يشتريها من المكتبات القريبة من مدرسته أو يوصي بعض زملائه فيحضروا له بعضها على سبيل الإعارة.. وكانت معظم تلك الكتب أدبية من قصص وأشعار، وقصائد عربية أو مترجمة إلى العربية.. إذ كان والد ” جو ” يحتفظ بمكتبة عامرة بالمراجع والكتب العربية القديمة والكثير من المخطوطات اليدوية.. وقد رحّب الرجل بإسماعيل كل ترحاب عندما علم بأنه يحب قراءة الكتب العربية، وقال له: (( هذه المكتبة أمامك فإقرأ منها ما شئت ومتى شئت وخذ منها ما يحلو لك بشرط أن تحافظ عليه وتعيده عند الإنتهاء منه )).. فكانت هذه بادرة خففت الكثير عن إسماعيل.

لم يعد إسماعيل يستطيع صبراً على ما هو عليه.. إن ما يعانيه لأصعب من أي وضع آخر يمكن أن يطرأ عليه بالنسبة للموقف.. لذلك قبل موعد الإمتحانات بأسابيع قليلة، وبعد أن تأكد له عدم جدوى الدراسة على هذا المنوال، وأنه لا مفرّ من مواجهة الموقف عاجلاً أم آجلاً، عزم على ترك المدرسة مهما كانت النتيجة.. فقد وجد بأنه بإستمراره على تلك الصورة يزيد المشكلة تعقيداً، ويضيف مشاكل أخرى إلى مشكلته الأساسية.

وهكذا.. نفذ ما عزم عليه، وترك المدرسة.

                            إلى اللقاء في الحلقة الرابعة (الحقيقة المرّة)

شاهد أيضاً

مسيرة شعبية في يريس بمديرية الحزم بمحافظة إب اليمنية بعنوان وفاء يمن الأنصار لغزة الأحرار …

تقرير / حميد الطاهري خرجت في عزلة يريس بمديرية حزم العدين محافظة إب”وسط اليمن ” …