في ذكرى الجمهوريّة العربيّة المتحدة: لا قيامة للأمة دون وحدتها!

د. عدنان منصور*

لم تكن قوى الاستعمار التي سيطرت على دول عديدة فيالعالم، وبالذات على منطقتنا المشرقيّة، أن تتقبّل بأيّصورة من الصور، حداً أدنى من الوحدة التي تجمع شعوبالمنطقة، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية، وماألحقته هذه الخلافة بشعوبنا من إذلال وفقر وبؤس،واستبدادلقد عمدت قوى الاستعمار بكلّ قوّة على منعشعوب الأمة من إرساء دعائم دولة قومية متحدة مقتدرة،تنطلق بكلّ قواها لبناء مجتمع جديد، تنهض بالإنسان،وتواكب التطور الانساني والتقدّم في العالم، وتعزز قيمالحق والعدل.

لقد عرفت قوى الاستعمار جيداً، مدى قدرات وإمكاناتشعوب المنطقة، وما تختزنه من طاقات فكرية وإرثحضاري، وثروات هائلة متنوّعة، وموقع جيو سياسياستراتيجي، وتجاري، واقتصادي، يؤهّلها لأن تكون فيموقع متقدّم، يضع حداً لهيمنتها، ونفوذها السياسيوالعسكري، واستغلالها ونهبها لثروات المنطقة فيمختلف المجالات.

لقد رأت قوى الاستعمار، أنّ الوحدة القومية لشعوبالمنطقة إذا ما تحققت، ستشكل مستقبلاً خطراً، وتهديداًمباشراً لمصالحها وامتيازاتها، وتدخلها، وتعطل أهدافها

الاستراتيجية، وهيمنتها الواسعةلذلك عمدت بكلّ قوةوشراسة إلى الوقوف في وجه التطلعات القومية الوحدويةلشعوبها، وإحباط وإفشال أيّ مشروع أو خطوة تصبّ فيهذا الاتجاهلذلك، ومن أجل الالتفاف على أيّ نهضةقومية وحدوية، قامت دول الاستعمار بطرح المشاريعالطائفيّة لتكون بديلاً عنهاإذ إنّ القومية تجمع وتوحّد،تقوّي وتعزز النسيج الوطني العربي الواحد للأمة، وتبلورأهدافه المشتركة، في الداخل والخارج، على غير الطائفيةالتي تفرّق وتقسّم، تثير الحساسيات والأحقاد، وتدفعبالمواطنين الى التقوقع، والتغرّب عن المجتمع الواحد،فكراً، وعقيدة، ونهجاً، وسلوكاً، وانتماء، وولاءطائفيةتدفعهم بإرادة أو من دون إرادة، للعيش في «غيتوات» منفصلة فكرياً، وثقافياً، واجتماعياً، وسياسياً، وحياتياً،«غيتوات» على أرض خصبة، هي أقرب للخصاموالاختلافات منها، إلى الوفاق والوحدة، ولو أنّ الجميعيتواجدون على أرض جغرافية واحدة.

مع بداية تفجّر الوعي القومي والعربي لشعوب الأمة، معمطلع القرن العشرين، ودعوات المفكّرين والكتاب منحزبيّين وسياسيّين وطنيّين، إلى وحدة بلاد الشام، وماأثارته هذه الدعوات الوحدوية، من هواجس ومخاوفالاستعمار البريطاني والفرنسي، وما قد ينجم عن الوحدة،من نتائج سلبية تهدّد وتطال في الصميم الوجودالاستعماري، وما يمكن لليقظة القومية والوعي أن ينجزهويطبّقه على الأرض، ويطيح بمصالحه وأهدافه وخططهلذلك، كان عليه العمل بكلّ شراسة، على إجهاضالتطلعات الوحدوية القومية، والالتفاف عليها من خلالمؤامرة وعد بلفور، ومنع قيام الدولة الواحدة، والإصرارعلى تقسيم المنطقة المشرقية العربية الى دول، يُراد منهإبعادها عن أيّ تطلع وحدوي، حتى تظلّ غارقة فيمستنقع الطائفية الانعزالية، والخلافات السياسيةالدائمة،

تؤجّج مكوّناتها الاجتماعية والوطنية الحساسياتالداخلية، والخوف والحذر وعدم الثقة في ما بينها،لتبعدها بعد ذلك،

عن أحوج ما تكون إليه، إلى الوحدة القومية والأهدافالمشتركة، والمصير والإرادة الواحدة.

هكذا فعل الاستعمار البريطاني بعد إعلانه وعد بلفور عام1917، وزرعه في ما بعد الكيان الصهيوني في فلسطين،ورعايته له.

هكذا عمل أيضاً الاستعمار الفرنسي حين قوّض وحدةالعراق وسورية أيام فيصل الأول، وما فعله المندوبالسامي الفرنسي هنري غورو عام 1920 بإنشاء «لبنانالكبير»، بنموذج طائفي فريد مقيت، لا نزال نعاني منآثاره السلبيّة وتداعياته المدمّرة حتى اليوم.

لم يقتصر هذا الأمر على لبنان وحده، بل أراد الفرنسيونأن يعمّموا النموذج الطائفي على سورية ليضربوابالصميم روح قوميتها ووحدتها، ودورها، ومكانتها فيقلب الأمة، وينشِئوا على أرضها كيانات طائفية تصبّ فيخدمة الاستعمار ومصالحهإلا أنّ الوعي القومي للشعبالسوري، وانتماءه الوحدوي الفطري، ونضاله الوطني،أفشل مشروع المستعمر، وأحبط الدويلات الطائفية علىأرضه، انطلاقاً من نضال ومفهوم قوميّ موحد جامعمكوّنات الأمة وأطيافها.

إنّ هدف الاستعمار كان ولا يزال ثابتاً، ولم يتغيّر تجاهالأمة وشعوبها، فهو لن يقبل أن يتوحّد العرب، وبالذاتشعوب المنطقة المشرقية التي عرفت تاريخياً وجغرافياً،وحضارياً ووجودياً ببلاد الشام، حيث جسّدت على الدواموجدان الأمة ونبضها، وقيمها، وعقيدتها ومبادئها،ومقاومتها المستمرة ضدّ قوى الاحتلال والتسلط.

من هنا كانت المواجهة الشرسة وستظلّ، بين القوىالقومية والوطنية، العاملة من أجل حريتها ووحدتها،وقوى الهيمنة الغربية المعادية لأيّ شكل من أشكالالوحدة.

إنّ موقف قوى الاستعمار القديم، والجديد حيال أيّتعاون، أو تنسيق، أو تكامل أو وحدة بين شعوب المنطقة،موقف معادٍ وشرس وسافر، لن يتغيّر، ولن تتراجع عنهبسهولةفهي لم تكتف بالتقسيم القسريّ ورسم حدوددول المنطقة على طريقتها، ووفق رغباتها فحسب، بلعمدت على الدوام الى إثارة وإشعال الفتن الدينيةوالمذهبية، والعرقية، ودعم التطرف داخل كلّ قطر منأقطار المنطقة، وتأجيج الصراعات والخلافات السياسيةوالنعرات الطائفية، واعتماد

سياسة الاحتواء، والإكراه، والضغط، والتفرقة، لحينوجدت الشعوب نفسها وأنظمتها الوطنية تتخبّط فيمشاكلها، وترى نفسها بعيدة عن وحدتها القومية، ماجعلها تتفرّغ للأولويات التي تستدعي مواجهة أوضاعهاالداخلية الخطيرة التي استجدّت، حيث كان لأعدائها اليدالطولى في زعزعة الاستقرار والأمن، والوقوف وراءالاضطرابات هنا وهناك، ما توجب عليها قسراً، صرفالنظر مؤقتاً عن العمل على تحقيق الوحدة القومية،والالتفات إلى مسائل داخلية خطيرة، يحتم عليها العملالمباشر، بكلّ قوّة للحفاظ على الوحدة والنسيج الوطنيلكلّ بلد، لكون الوحدة الوطنية، والحفاظ على نسيجالشعب الواحد، يبقى المقدمة الرئيسة للوحدة القومية لاالعكسخاصة بعد أن استطاعت القوى الغربية ان تمزقوحدة الصفّ الوطني لشعوب المنطقة المشرقية، منخلال قوى الإرهاب، والدعوات الأصولية المتطرفة،والأفكار المتحجّرة، والطروحات السياسية الانعزالية، التيرعتها وغذتها القوى المتربصة في الخارج، ووفرت لها كلّوسائل الدعم والإمكانات، لضرب وزجّ أبناء الوطن الواحدفي مواجهات دموية، ومعارك ساخنة، ألحقت الدمار بدولالمنطقة، وخلخلت مجتمعاتها وأصابت بالصميم وحدةشعوبها.

اليوم ونحن في مواجهة مستمرة لا تتوقف مع قوىالعدوان والتسلط، نرى أنه لا بدّ لقوى النهضة الوطنيةوالقومية من أخذ المبادرة من جديد، واللجوء الىالمقاومة بكلّ قوّة وحزم، وعلى مختلف الصعد، لإفشال مادرج عليه الغرب في نهجه ومؤامراته على الأمة كلها،وحرمانها من ايّ تنسيق أو تعاون أو وحدة أو عملمشترك.

كيف يمكن لدول الاتحاد الأوروبي مثلاً، التي سجل تاريخهاالعداوات، والحروب، والكراهية، والنزاعات، وكانت أوروباسبباً لحربين عالميتين، أن تلتقي شعوبها في ظلّ اتحاد،رغم الفوارق الحضارية، والثقافية، واللغوية، والقومية،والطائفية والجغرافية، والتاريخية؟كيف يُسمح لقبرصان تلتقي داخل الاتحاد مع السويد، رغم التبايناتالعديدة بينهما، وأن تلتقي مالطا مع ألمانيا، واليونان معالبرتغال، رغم الفوارق المختلفة ووو… ويمنع بالتالي أنتلتقي دمشق مع بغداد، أو بغداد مع بيروت، او دمشقمع القاهرة، أو دمشق مع عمّان، في الوقت الذي توحّدشعوبها، حضارة مشتركة، وروابط الجغرافيا والتاريخ،واللغة، والروحانية، فضلاً عن الأمل والمصير الواحد؟!

أيهما أقرب وأيهما يوحّد؟دمشق وبيروت، ام قبرصوالسويد؟القاهرة وبغداد، أم مالطا والمانيا؟عمّانوالقدس، أم اليونان وإسبانيا؟!

لقد وجدت هذه الدول قوّتها وتقدّمها ومنعتها واحترامهاداخل الاتحاد الأوروبيفما الذي يمنع شعوب أمتناالموحدة اصلاً، والمقسّمة قسراً على يد قوى الاستبدادوالاستعمار، من أن تستعيد تاريخها وكرامتها وقرارها

ووحدتها من جديد!

فلتعلم شعوب الأمة كلها، أن لا قوّة لها ولا استقلالحقيقياً، ولا اعتبار لها من قوى الاستكبار والاستغلال، ولانهضة حقيقية تستطيع تحقيقها بعيداً عن وحدتهافخلاصها ومكانتها ونهضتها وقوّتها وسيادتها في اتحادهاوليس في أيّ شيء آخر.

إنها مهمة كلّ القوى الوطنية والقومية، المناضلة الحرةالتي تؤمن بوحدة أمتها، التي هي طريق الخلاص والاقتداروالنهضة والتقدّم التي تصون شعوبها وقوميتها، وتحميأرضها وسيادتها.

لنأخذ العبرة من وحدة الشعوب التي سبقتنا، ومنقادتها، من بطرس الأكبر، وكاترين الثانية، مروراً ببسمارك،وغاريبالدي، وجورج واشنطن، وهو شي منه، وصولاً الىجمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية العربية المتحدة،وهي أوّل وحدة عربية في العصر الحديث، ضمت دولتينعربيتين، مصر وسورية، ولو أنّ هذه الوحدة ضربت يوم28 أيلول 1961، على يد الرجعية العربية والغرب، ما أدّىالى الانفصال بعد سنوات قليلة من إعلانها يوم 22 شباط1958.

تبقى الوحدة أولاً وأخيراً، وقبل أيّ اعتبار آخر، الخلاصالوحيد للأمة، كي تستعيد دورها وانطلاقتها من جديد،لتزيح عن كاهلها، دولة الاحتلال الصهيوني وتمحو آثارالاستعمار وسياساته المستبدّة بحقها وحق شعوبها علىمدار أكثر من قرن من الزمن.

إنّ خلاص الأمة له طريق واحد لا غنى عنه، وهو طريقالمقاومة، التي تبقى بوصلة الشعوب الوحيدة في تحقيقأهدافها في الحرية والوحدة والسير في نهضتها وتقدّمهافالوحدة ليست حلماً أو وهماً كما يتصوّر بعضالمتخاذلين، إنما هي واقع وعلينا تحقيقها وإنجازها بكلّعزيمة، من دون أن نفوّت الفرص، ونضيّع الوقت.

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

شاهد أيضاً

منتدى الأمن العالمي ٢٠٢٤ يشهد دعوات لتعضيد الوحدة الإفريقية

الرئيس الروانديّ يؤكد أن الاستثمار في الشعوب هو حجر الزاوية في الوحدة رئيس مفوضية الاتحاد …