العشاء الأخير في المطعم المفضّل

طعّان حبشي

مُنذ سنوات وأنا أصطحب أفراد عائلتي عدّة مرّات في الشهر لتناول العشاء سويّة في أحد المطاعم ، وكان هذا المطعم مُفضّلاً لديّ، مُعتاداً عليه وعلى ما كان يقدّمه من مأكولات وأطباق لذيذة، يقصده الذواقة من مُحبيّ السهر واللقمة البلديّة النظيفة والطيّبة، وكان ملكاً لصديقٍ كنتّ أعتبره من أعز وأقرب الأصدقاء لي وللعائلة.  في خضم الضجّة التي أثارها مشكوراً وزير الصحة وائل أبو فاعور ، وورود تفاعلاتها ومُستجدّاتها يوماً بعد يوم ،حتى بات الناس في حالةٍ من الغليان ينتظزون أخبارها بفارغ الصبر وعلى أحر من الجمر، لما كانت تحمله لهم من روائح الفساد وفضائح التلوّث والضرر الناخر والناهش لجسم المجتمع اللبناني من سنوات وسنوات، لا مَنْ يسأل ولا مَنْ يُراقب ولا مَنْ يُحاسب ، ” كل مين إيدو إلو ” .                                                                                 

وقد تبيّن نتيجةً لهذه الحملة العشواء ، بأنّ الكثيرين من التجّار الفُجّار والمُتواطئين والمُشاركين كانوا مُتخفّين يلعبون لعبة الموت لمئات الألاف من العائلات ومن أبناء بلدهم دون خوف أو خجل أو وجل. وهم في سباقٍ محموم يحثّهم على الخوض فيه التكالب والطمع والجشع في سبيل تحقيق الربح الرخيص والمال الحرام على حساب صحة المواطن وسلامته غذاءً ، ماءً ، هواءً ، ودواءً .                                                                                                       

المراد من هذه المقالة أنه وفي أحد الليالي ، وبينما كنتّ والعائلة نتعشىّ في المطعم المُفضّل دفعتني الحشرية مقرونةً بما كنت أسمعه وألمسه من إعلان اللوائح والجداول المشبوهة، التي كانت تُعلن لتنبيه الناس ولتوعيّة المُخالفين من أصحاب المؤسسات والمحلات التجاريّة والمطاعم وغيرها …  والتي كان من بينها مرافق مشهورة ومملوكة من أسماء معروفة بعيدة كل البعد عن الظنون والشبهات، وقفت وتقدّمت نحو الشيف ، الذي كان على إلمام بصداقتي لصاحب المطعم، ووجهت إليه بعض الأسئلة التمويهيّة ، ومن ثمّ تمكّنت من الدخول خلسةً الى المطبخ، ويا لهول ما رأيت وشاهدّت بطرف عيني وبدون أن ينتبه أحد لما كنتّ أتقصّد وأتفحص.                          

 أوساخاً وقذارة هنا وهناك في الزوايا والخبايا ، ثلاثة عمّال من جنسيّات أفريقيّة لا يبدو على محياهم ولا على هندامهم أي ترتيب أو نظافة يطبخون ويحضّرون الأطباق ، صدأ وسواد وتعفُّن يعلو مفاصل الآلات والأدوات وأماكن الطهو ، أكياس من النفايات غير مُقفلة وقد تبعثرت منها بقايا القشور والأطعمة والسوائل ، فوضى عارمة وأدخنة نافثة وروائح كريهة…  لم أطل البقاء هناك، وعدّت الى طاولتي وقد أصابني الذهول والإرتباك، لكني تعمّدّت الراحة والبهجة وتظاهرت بإصطناع البسمة والإنشراح كعادتي أمام زوجتي وأولادي، لكي لا أُفسد عليهم أجواء جلستهم تلك ، التي كانت قد تكرّرت لمئات المرات بدون أن نبالي أو نكترث لإمكانيّة وجود أي خطبٍ في ذلك المكان ، الذي كنّا نحسبه منزلنا ونحسب صاحبه كفردٍ منّا، وكان ذلك العشاء هو العشاء الأخير في ذلك المطعم ، ولا أكذب إذا ما قلت وفي كل المطاعم أيضاً، إلّا فيما ندر ، إنْ دُعيت أو أُجبرت على تلبية بعض المُناسبات أو السهرات.                                                                                                 

ومن يومها إقتنعت وتيقّنت تماماً، وكما أظهرت لنا مُتابعة معالي الوزير الميمونة والمُستمرّة لهذه الحملة الشعبيّة، التي سُرّ بها المواطن وصفّق لها، والتي لا سابقة لها في تاريخ تعاطي المسؤولين في الشأن العام، بأنّ الإعتناء بجمال وزخرفة الظاهر وخاصةً في لبنان غالباُ ما يُفي وراءه أدران وقباحة المضمون .

شاهد أيضاً

الأسد: موقف سوريا من المقاومة يزداد رسوخاً.. وستقدّم كل ما يمكن للفلسطينيين:

الرئيس السوري، بشار الأسد، يؤكد ثبات موقف بلاده من القضية الفلسطينية والمقاومة، على الرغم من …