طباعة الليرات تتسارع: نتيجة عكسيّة لإجراءات مصرف لبنان

منذ شهر تشرين الأوّل الماضي، يستمر مصرف لبنان بتطبيق قيود خاصّة على كميّة السيولة التي يسلّمها إلى المصارف بالعملة المحليّة، ما أدّى إلى فرض سقوف جديدة لسحوبات عملاء المصارف بالليرة اللبنانيّة. كما طلب مصرف لبنان من مورّدي السلع المدعومة تسديد قيمتها بالليرة بالنقد الورقي. كان الهدف الأساسي لكل هذه الإجراءات تقليص حجم السيولة النقديّة المتداولة في الأسواق بالليرة وامتصاصها، في محاولة لضبط الانخفاض المستمرّ في سعر صرف الليرة. لكنّ الأرقام المتوفرة اليوم لدى مصرف لبنان تُظهر أن هذه الإجراءات فشلت في تحقيق هذا الهدف بشكل كامل، لا بل وبدل أن يتقلّص حجم هذه السيولة، تسارعت وتيرة تضخّمها مؤخراً، وخصوصاً في بداية العام الحالي.
بحسب الميزانيّة نصف شهريّة التي ينشرها مصرف لبنان، فقد ارتفع بند “الكتلة النقديّة المتداولة خارج المصرف المركزي”، أي إجمالي النقود الورقيّة المتداولة، بنحو 1.46 ألف مليار ليرة لبنان خلال أوّل 15 يوم فقط من السنة الحاليّة، مع العلم أنّ متوسّط هذه الزيادة كل 15 يوم لم يتجاوز حدود 0.85 ألف مليار ليرة طوال العام الماضي، أي أنّ وتيرة الزيادة نصف الشهريّة في حجم الكتلة النقديّة ارتفعت 1.7 مرّات في بداية هذا العام. وبعد هذه الزيادة الكبيرة، أصبح حجم النقد الورقي المتداول في السوق يتخطى 32 ألف مليار ليرة، فيما لم تكن هذه القيمة تتجاوز مستوى 11.17 ألف مليار في الفترة المماثلة تماماً من العام الماضي. بمعنى آخر، ارتفع حجم النقد الورقي المتداول بنحو 2.86 مرّات خلال سنة واحدة فقط.
تسارع وتيرة الزيادة في حجم النقد الورقي المتداول لم يقتصر على الأيام الـ15 الأولى من هذا العام، بل شمل كذلك الفترات التي تلت قرارات “امتصاص السيولة” وتقييد السحوبات بالليرة التي صدرت عن مصرف لبنان منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ما يشير حُكماً إلى علاقة هذه التطوّرات بالقرارات، التي أدّت إلى نتائج عكسيّة مغايرة لأهدافها.

التفسير الذي ترجّحه مصادر مصرفيّة مختلفة لـ”أساس”، يتعلّق برفض معظم التجار في الأسواق قبول الدفعات بالليرة اللبنانيّة عبر الشيكات أو البطاقات المصرفيّة، بعد صدور قرارات الحدّ من السحوبات النقديّة بالليرة، واتّخاذ المصارف قرارات جديدة مثل التضييق على عمليات إيداع الشيكات بالليرة. ولهذا السبب، انتقل جزء كبير من المبادلات التجاريّة بالليرة إلى الإقتصاد النقدي، ولم يعد يمرّ في النظام المصرفي، فازداد تضخّم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة خارج مصرف لبنان. وفي الوقت نفسه، استمرّت السحوبات النقديّة برفد السوق بكميات إضافيّة من السيولة، مع استنزاف عملاء المصارف لسقوف السحب المتاحة للتمكن من استعمال سيولتهم نقداً. علماً أنّ بعض المصارف الكبرى ظلّت تمنح عملاءها سقوفاً مرتفعة من السحوبات النقديّة، خصوصاً التجار منهم، فتجاوزت هذه في بعض الحالات 20 مليون ليرة شهريّاً.
أما العامل الثاني الذي زاد من الطلب على النقد الورقي في بداية هذه السنة بالتحديد، فكان الإعلان عن الإقفال العام الذي شمل المصارف، ما دفع عملاء المصارف إلى سحب حاجتهم من السيولة قبل سريان قرار الإقفال، رغم إعلان المصارف نيّتها الاستمرار في تعبئة ماكينات الصرّاف الآلي. وقد تكون القيود المشدّدة على التجوّل التي جرى الحديث عنها قبل الإقفال، بالإضافة إلى التسابق على تموين المواد الغذائية، من العوامل التي ساهمت بدفع اللبنانيين إلى زيادة سحوباتهم النقديّة قبل
الإقفال.

بمعزل عن أسباب تسارع تضخّم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان، يبقى من الأكيد وفقاً للمراقبين وجود ثلاثة مصادر رئيسيّة ستستمرّ خلال الفترة المقبلة بتضخيم الكتلة النقديّة بالليرة بمعزل عن أي إجراءات سيتّخذها مصرف لبنان:

  • فالمصارف مستمرّة بضخ الليرات في السوق من خلال تمويل السحوبات النقديّة بالليرة من الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة، بحسب سعر صرف المنصّة ووفقاً للتعميم 151. مع العلم أنّ قيمة هذه الودائع المتبقية بالعملات الأجنبيّة تتجاوز حاليّاً 112 مليار دولار يتم سحبها تدريجيّاً وفقاً لسقوف متفاوتة بين المصارف، وهي قيمة ضخمة جداً قياساً بحجم الكتلة النقدية المتوفرة حالياً بالليرة.
  • ومن ناحية أخرى، يستمرّ مصرف لبنان بخلق النقد لإقراض الدولة وتمويل عجز الميزانيّة العامّة، الذي بلغ لغاية شهر آب الماضي 2.53 مليار دولار، أي بمعدّل سنوي يقارب 3.8 مليار دولار. علماً أنّ مصرف لبنان يمثّل اليوم المقرض الوحيد للدولة بالليرة اللبنانيّة، بعد توقّف جميع المصادر الأخرى منذ إعلان الدولة تعثّرها في سداد سندات اليوروبوند في شهر آذار الماضي.
  • كما يواظب المصرف المركزي على خلق النقد لإقراض الدولة من أجل سداد مستحقاتها للمصارف بالعملة المحليّة، وهي مستحقات لم تتوقف الدولة عن سدادها. وقد بلغت قيمة الأموال التي أقرضها مصرف لبنان للدولة لهذه الغاية 2.77 مليار دولار خلال السنة الماضية.

لكل هذه الأسباب، من غير المتوقّع أن يتم عكس المسار التصاعدي لحجم السيولة المتداولة بالليرة قبل أن تتم معالجة آثار الإنهيار الماثلة أمامنا من ناحيتي أزمة المصارف وتعثّر الدولة. أما الخطوات التي حاولت امتصاص هذه الكتلة قسراً، من قبيل السقوف التي جرى فرضها على السحوبات بالليرة، فلا يبدو أنّها ستنتج سوى آثار معاكسة لأهدافها. خصوصاً أنّ محاولة الحدّ من السحوبات بالعملة الوطنيّة ستعني المزيد من التهشيم لدور يُفترض أن تلعبه المصارف في الاقتصاد المحلي من ناحية تيسير وسائل الدفع.
وبانتظار الحلول الجذريّة على مستوى الانهيار المالي، ستستمرّ ظاهرة التضخّم التي تشهدها السيولة المتداولة بالليرة، ومعها سيستمرّ الضغط على سعر صرف الليرة.

شاهد أيضاً

الدكتور بصبوص يشارك في مؤتمر الدوحة الخامس عشر لحوار الأديان

يسافر الدكتور دانيال بصبوص للمشاركة في مؤتمر الدوحة الخامس عشر لحوار الأديان، الذي يقيمه مركز …