المفارقة بين الصّدم والإدهاش

د. باسل بديع الزين

ملتقى الأدب الوجيز

ينبني النصّ الشّعريّ بقصد تحقيق المفارقة. هذاالقصد على بيانه القطعيّ، وجزمه الرّيبيّ، بات، في خلدنا، في حكم البداهة، لا لشيء إلّا لأنّنا نروم المفارقة في أبعادها القصيّة، وتجليّاتها الحدسيّة – التّفكريّة. 

بيد أنّ مناط الخَلْط يبرز في ما أجرؤ على تسميته بالتّحوير المفهوميّ، وأعني، تحديدًا، الخلط بين قدرة المفارقة على الصّدم، وقدرتها على الإدهاش.

الحقّ أنّي لن أعرج إلى باب اللّحمة المنطقيّة، ودور اللبنان العقليّة في تكوين نصّ شعريّ متماسك، ذلك بأني سأفُرِد مقالًا منفصلًا أتناول فيه هذا الجانب. لذاسأكتفي برصد التّفرقة التي أراها بيّنة وضروريّة بين الصّدم والإدهاش.

الواقع أنّنا إذا استعرضنا السّياقات التي يُستخدم فيها فعل صدمَ، لألفيناها كما يلي: 

صدَمَ يَصدِم ، صَدْمًا ، فهو صادِم ، والمفعول مَصدوم. صدَم الشَّخصَ/ صدَم الشَّيءَ: ضربه ودفعه. صَدَمَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ : دَفَعَهُ، صَكَّهُ. صدَمه بالقول: أَسْكَته. صدمَه أمرٌ: أصابه ونزل به فجأة فأثَّر في نفسه. صَدَمَتْهُ الْحَقِيقَةُ : فَزَعَتْهُ، فَجَأَتْهُ. (قاموس المعاني).

بهذا المعنى، نجد أن تأثيرات فعل الصّدم، هي في جلّها، تأثيرات سلبيّة. قل كذلك عن تقنيات الصّدم في كثير من القصائد التي تطالعنا. 

حقيقة الأمر أنّ الصّدم يعمل وفق الآليّة نفسها التي يعمل الإدهاش بمقتضاها، أي التّركيز التامّ على عنصرالقفلة في المقطع الشّعريّ. بيد أنّ الصّدم حالة سلبيّة، تحريك مجانيّ للمشاعر، تسطيح لعلاقات الأشياء، تحوير غير مسوَّغ للعناصر، والحقائق الكونيّة، والظّهورات العاطفية، والحضور الذهنيّ، والتّفتيق الخياليّ. الصّدم تحريك مستكين، وتفعيل معطوب، لآليات الرّصد المكين، والفكر الرّصين. 

كي لا نبقى في إطار التّجريد، لنضرب أمثلة خطّهاالشّاعر نزار قبّاني، مع العلم أنّه لا يُجسِّد وحده تقنيات الصّدم التسطيحيّة، بل يشترك مع شعراء آخر ينفي تسطيح الوعي، وتقليص فعاليّة التّخيّل والترقّب:

“حتّى حبوب النّوم تعوّدت مثلي على الصّحو فلا تنام”

“حين أحبّكِ تكفّ الأرض عن الدّوران”

بوسع القارئ أن يغرف ما يشاء من الأمثلة المشابهة على امتداد دوواين شاعرنا المذكور، وشعراء آخرين. لكنّنا سنكتفي بإيراد هذين المثالين من أجل تبيان غرضنا من الصّدم. إذا أنعمنا النّظر في الجملة الأولى، لألفينا، على الفور، لعبة لغويّة رام شاعرنا من خلالها خلق حالة صداميّة في داخلنا، ونعني قلب الأدوار: إذا كانت حبوب النّوم معدّة لتنويم الأشخاص غير القادرين على النّوم، فإنّ معاناة الشّاعر جعلت الحبوب نفسها تفتقد ماهيّتها، أي قدرتها على إحداث الفعل التّنويمي. بيد أنّ الخطأالمفهوميّ يكمن هنا في كون الحبوب المذكورة لا تحدث الفعل لذاتها بقدر ما تحدثه للآخر، وعليه، فإنّ تأثيرهاالغيريّ في ارتداده إلى ذاتها لا يعني كسر نمطيّة العلاقة بما يُشكّل ماهيّة المفارقة. أضف إلى ذلك أنّ المفارقة التي تهدف إلى خلق أنماط علاقات جديدة تتمتّع بشيء من المصداقيّة والاستشرافيّة واللا توقع المقرون بالإمكان، لا تتوفّر شروطها ها هنا، ولا في السّطرالآخر. إذ أيّ مفارقة في اقتران فعل الحبّ بتوقّف الأرض عن الدوران؟ هل تقتضي ضرورة الحديث عن توقّف الزمن، والشعور الكليّ بحضور الحبيبة وحدها أن يتمّ تطويع القوانين الكونيّة لخدمة الأهداف الذاتيّة؟  أنّ العكس هو الصّحيح، أي كيفيّة تطويع الملكات الادراك والخياليّة والتفكريّة الأنسيّة في خدمة الكشف عمّا استتر، وفضح ما احتجب من التجليّات الكونية، وانحجاباتها.

على المقلب الآخر، يتجلى الإدهاش بوصفه نتاجًالمفارقة قادرة على إحداث قطيعة مع تراث طويل من التوقعات المبنيّة على الحضور الفاعل لقوانين نفسيّة وطبيعية، وحتميّات ظنيّة، وافتراع سبل كشف جديد عن مناطق مجهولة يمكن أن تستبدل حتميات جديدة بأخرى قائمة، وهكذا دواليك.

يحضرني في هذا السّياق قول أدونيس: 

“عندما أسلمتُ نفسي لنفسي

وساءلتُ ما الفرق بيني وبين الخراب

عشت أجمل ما عاشه شاعر:

لا جواب”.

إنّها المفارقة في أبهى حللها، والإدهاش الذي يتجلى في أرقى تجلياته. هنا نعثر، بوضوح، على قلب للمفاهيم التقليدية، قلب صارخ لنزعة الفهم المقرونة بالإجابة . أدونيس يقرع بابًا آخر للفهم الإنساني، ويُفرغ، على طريقة غبريال مارسيل، هشاشة الوجودالقائمة على أولويّة إيجاد أجوبة نهائيّة ودامغة، ويحلّ محلّها منظورًا مختلفًا يروم الكشف عن بنية السّؤالنفسه، وحتميّة التوالد التسآلي في جمالية البوح المعقودعلى استحالة الكشف النهائي، وتركّز جماليّة الكشف الوجودي في الإمساك بتلابيب السؤال والإيغال في مساءلة السؤال نفسه.

بإمكاننا أن نورد أمثلة كثيرة برع فيها شعراء آخرون كالماغوط، ودرويش، وغيرهما، لكنّ سياق البحث يقتضي المقاربة لا الرّسوف. 

وعليه، ينبغي لنا السّعي إلى تناول التّجربةالشّعرية تناولًا صادقًا وشفّافًا، أي السّعي إلى إيلاءالتجربة الشعوريّة، والمكابدة العاطفية، والنزعة الوجودية، بعدًا جديًّا ذا غاية التزاميّة تكمن في تفتيق المحجوبات، وتأويل الظاهرات.

بوجيز العبارة، الإدهاش كنتاج منطقيّ للمفارقة، هو تقنية تحفيزيّة، غير مجانيّة، تتيح شحذ العقول، وتعبئةالخيال، وكسر التوقع غير المقرون بهشاشة اللهو اللفظي، والألاعيب المعنويّة الفارغة.

ربّما سأل سائل: أين الومضة من كلّ هذا؟

الإجابة ببساطة شديدة: الومضة هي المعادل الشّعريّ للمفارقة في أبهى تجلياتها الوجزيّةوالتكثيفيّة، كما أنّها تمثّل السعي الحثيث إلى تكريسالإدهاش المقرون بالعمل التفكريّ، والخياليّ، والفلسفيّ، والوجوديّ، والإنسانيّ، بعيدًا من التّسطيح، وبعيدًا من إفساد الذائقة الشّعرية التي تنساق رويدًا رويدًا وراءالصراخ المنبريّ، والمجاملات الزائفة.

شاهد أيضاً

تطبيق Truecaller.. حفظ للأرقام أم خرق للخصوصيّة؟

هل فعلًا يمكن لأي استخبارات التجسّس منه على مكالماتنا؟ وكيف يعمل؟   د. جمال مسلماني/ …