مواويل سورية…

د. سلمان صبيحة

فرزت الحرب الكونية على سورية مصطلحات ووقائع وأحداثاً جديدة، لا على مكونات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فقط، بل أيضاً، على الحياة المهنية.

(أبو قرعة): موظف مجد في إحدى مؤسسات القطاع العام يبلغ طوله 186 سم ووزنه 123 كغ لقّب بـ (أبي (قرعة)، بسبب حجم رأسه الذي يساوي حجم أكبر بطيخة خضراء عند أبو صطيف بياع البطيخ مقابل ساحة الميسات.. وفي آخر مرة حلق شعره عند الحلاق أخذ منه ثلاثة ألاف ليرة سورية عداً ونقداً، لأن هذا الحلاق يتقاضى الأجرة على المساحة لا على الرأس.

أبو صلعة: صديق (أبو قرعة)، وابن قريته ، وهو أيضاً موظف معه في المؤسسة نفسها، يبلغ طوله نحو 156سم ووزنه نحو 50 كغ، لا يوجد على رأسه ولا شعرة، وعندما سئل عن السبب أجاب إن الحياة والناس تعاونوا عليه ولم يبقوا على رأسه من شعره شيئاً، ولذلك يدلعه زملائه في العمل ويطلقون عليه: لقب أبو صلعة، وهو سعيد بهذا اللقب.

في نقاشهما اليومي الذي يدور عادة في الصباح مع أول فنجان قهوة يبدأ بتقييم الوضع السياسي لا في سورية فقط بل في كل دول العالم ويضعان تصوراتهما وتحليلاتهما ورؤيتهما للمستقبل، أحياناً يتفقان وفي كثير من الأحيان يختلفان، زملاؤهم في العمل اعتادوا على مناقشاتهم وصوتهم العالي، الذي يسمع بوضوح عن بعد.

في يوم من الأيام احتدم النقاش بينهما كالعادة وكان نقاشاً متوتراً، فقد اختلفا على موضوع الدوام في المؤسسة، فأبو صلعة يرى أن الدوام في هذه الفترة يجب أن يكون مقدساً وألا يتهاون فيه: فالحرب شعواء على سورية ويجب علينا أن نكون في العمل ونلتزم أكثر من أيام السلم، وأبو (قرعة) يؤيد أبا صلعة لكن له تحفظ وحيد، فهو يريد أن يؤمَّن للعامل مستلزمات عمله، (يجب أن يؤمن للموظف والعامل مقومات الدوام والعمل لكي يصمد ويعطي ويحسن العطاء).. يتابع أبو قرعة: كيف سألتزم بالدوام دون وجود وسيلة نقل تنقلني إلى عملي….؟!
كيف سأذهب إلى عملي والكهرباء مقطوعة فلا أستطيع أن أحلق ذقني ولا أرتدي ثيابي؟.
كيف سأكون مرتاحاً في عملي وأولادي يلسعهم البرد، ولا أدري كيف سأدبر لهم المازوت والغاز..؟

وعدنا السيد المدير بأن يضع سيارة الـ((ب.م) القديمة تحت تصرفنا..لكن حتى الآن لم يفعل، وإن فعل فمن هو الذي سيستطيع تأمين البنزين لها؟ (وقف أبو قرعة لحظة ثم تابع)….عندما أصل إلى العمل كل يوم أتمنى أن أنام في المكتب، هرباً من طلبات الزوجة والأولاد، وهذا الراتب المحدود الذي لايكفي لإسبوع …وأرى الفاسدين والمنافقين يسرحون ويمرحون دون حسيب ولا رقيب ويعيشون بترف ونعيم وكأن الحرب تعنينا نحن الفقراء فقط.

انفعل أبو صلعة من كلام أبو قرعة وقال له: أنت معارض ومندسّ… أنت معارض لكل شيء ولست منطقياً في تحليلك للأمور، انت “تشطح كثيرا “ودائماً تنسى أننا في حالة حرب ، لو قرأت التاريخ لعرفت كيف صمدت وصبرت شعوب الاتحاد السوفييتي أيام الحرب العالمية الثانية، وكيف انتصروا… وأضاف: هذه كوبا صامدة منذ أكثر من ستين عاماً، وتعيش ظروف الحصار والمقاطعة ولا تركع للإمبريالية… فلا شيء أغلى من العزة والكرامة الوطنية.
أجاب أبو قرعة: (لا، أنت الشبيح أنت وأمثالك وصّلتو البلد لهون.. إنتو ما فيكُن حسّ وطني….إنتو اللي نهبتوا وسرقتوا البلد….وتآمرتوا على الدولة وعلى الشعب)!
أجاب أبو صلعة: (لا، أنتم العملاء… أنتم تتآمرون على الوطن، وتستقوون بالخارج).

نشب عراك بالأيدي بداية الأمر، ثم سرعان ما تطور إلى (مُراقعة)، فنطح أبو قرعة أبا صلعة نطحة ارتجت الصورة أمامه، ونزفت الدماء من وجنتيه، لكنه بادر بقفزة عالية ونطح، أبا قرعة نطحة جعلت الشرر يتطاير من بين عينيه، وبينما راحا يتبادلان الشتائم والضربات.

دخلت عليهما مديرة الشؤون الإدارية تعاتبهما والدموع في عينيها: ألا تخجلان؟ أنتما أصدقاء وأولاد قرية واحدة ، تربيتما معا ودرستما معا وتوظفتما هنا معا … فبدل أن تتعاونا وتتساعدا مع الدولة لإنقاذ الوطن، تضيعان الوقت في جدل أدى سابقاً لهزيمة بيزنطة، هيا اعتذرا لا لأنفسكما، بل للوطن، ضمّدا الجراح، وتعالوا لنتعاون على إطفاء الحريق، ثم بعد ذلك نبحث عن سبب الحريق!
بعد هذا الخطاب المؤثر، دمعت عينا الصديقين الحميمين، وبدأ كل واحد منهما يعتذر من الآخر ويقبل رأسه، فقال الأول: على راسي صلعتك! قال الثاني: على راسي قرعتك!..

ملاحظة: عندما بدأ قطيع الإرهاب هجومه البربري الهمجي ، على قرى ريف اللاذقية الشمالي عام 2013 وارتكب مجازر بشعة لا يتخيلها العقل البشري بحق الأهالي المسالمين البسطاء .الأطفال والنساء والشيوخ ، كانت قرية الصديقين الحميمين إحدى هذه القرى التي تعرضت ايضا للهجوم وفي تلك الليلة السوداء تصادف وجود الصديقين ” ابو قرعة ” و” ابو صلعة ” في القرية فدافعا عنها ببسالة وشجاعة، أسندا ظهريهما على بعضهما وأنشدا: (يما مويلي الهوى يما مويليا، طعن الخناجر ولا حكم الإرهابي فيا )…..

بعد أن انجلت المعركة واندحر الغزاة عن القرية وتحررت بفضل الجيش العربي السوري البطل والقوات الحليفة والرديفة ، تبين استشهاد الصديقين الحميمين دفاعاً عن القرية والأهل والوطن ، حزن كل أفراد القرية عليهم، فالإرهابيون المرتزقة الجبناء نكلوا بجثامين الشهداء فكان جسديهما الطاهرين بلا (قرعة) وبلا (صلعة).

شاهد أيضاً

قائد الجيش استقبل الامين العام للمجلس الأعلى السوري اللبناني

  استقبل قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون في مكتبه في اليرزة الامين العام للمجلس …