السيّد فضل الله ولبنان… الإنسان


د . علي رفعت مهدي


هذا زمنٌ تفترِسنا فيه آلهة الفساد ؛ وينهشُ اجسادنا ارباب المصالح والمحاصصة وتقاسم اشلاء الدّولة والكيان وحتى الإنسان … من كلِّ المِلَل والنِّحل والتيارات والمذاهب والاحزاب والطوائف … وتصادرُ احلام ابنائنا واولادنا الرؤوس العشائرية والعائليّة السلطويّة البعيدة عن المحبّة المسيحيّة والرّحمة الإسلامية …
هذا زمنٌ ليس للإنسانِ فيه قيمَة ؛ ليس له وجود ؛ يُرادُ له ان يكون ببغاء الدين والسياسة والاجتماع ؛ وان يكونَ ضحيّة النهب والسرقة والجشع والطمع والقتل والهوان والذّل ومصداقًا لقول المتنبي :
من يهُنْ يسهل الهوانُ عليهِ
ما لجرحٍ بميّتٍ ايلامُ …
عشيّة ميلاد فادي الانسانيّة والأمل مع مهديّ خلاص البشريّة من آثام وشرور الطغاة المستكبرين والمفسدين والظالمين نؤوبُ الى كلمات الوعي ودروب الهدى لنستقيَ منها محاكاة واقعنا الحالي المأزوم ولندرك العلاج الروحي والمادي لخلاصنا ؛ ومنها الكلمات التي القاها المرجع في سياق محاضرة عن القيم الرسالية في المحبة والرّحمة للمسيحية والاسلام وكأنّه نظر بعين البصيرة منذ خمسةٍ وعشرين عامًا للمأساة التي نحياها هذه الايّام ؛ حيث تحدّث السيد الراحل عام 1995:
المحبة المسيحية والرحمة الإسلامية :
في هذا البلد نبقى نستهلك الكلمات، ونبحث عن الكلمات ، وتسقطنا الكلمات ، وقد تقيمنا الكلمات حتى شغلتنا الكلمات عن وجودنا ، وحياتنا ، وأن الكلمات شغلتنا عن مضمونها ، فأصبحت الكلمة حرفاً يرنّ بدلاً من أن تكون معنى يوحي .. فلماذا هذا الإستهلاك لكلمات الحق والعدل والخير والواقع ينفتح على ألف ظلم وشرٍّ وباطل؟ لماذا ذلك ؟ لأننا نعيش غيبوبة ضبابية استغرقنا في مفرداتها وشُغلنا عن كلّ مَنْ حولنا وما حولنا.
إننا عندما نتحدث عن الخير ، فإن القضية تتحرّك في عطاء ماديّ هنا ، ولمسةِ حنان هناك وابتسامة تشرق في قلب يتيم ، ولكن إن قصّة الخير ليست مجرد حركة في ابتسامة العين والشفتين وعطاء اليدين، بل هي قضية ذهنية تعني أنّك تطلّ على الحياة، فتحسّ بأن الحياة تجتذب عطاءك قبل أن يجتذب الإنسان عطاءك . لأن مسألة الحياة بكل خطوطها وآفاقها وامتداداتها هي قضية الإنسان هنا، والبيئة هناك ، والأحلام والعدل والحق والسلام ..
أن تكون لدينا ذهنية الخير لا تقاليد الخير ..
صنمية التقاليد :
ولعلّ مشكلتنا أنّنا أمّة حوّلت التقاليد إلى أصنام ففرّغتها من داخلها عندما كان التقليد ينطلق من فكرة وقضية أو من فتح وانطلاقة ، حاولنا أن نغلِّب هذا التقليد، وهذه العادة، ولا نسمح لكل المعاني الطيبة في داخل هذه التقاليد أن تشير إلينا : إن تقاليدكم قد تكون إطلالة الخير في تاريخكم، فلماذا جمدتم التاريخ في قلبها وجعلتموها تتحرك من دون أيّ معنى أو إحساس ..؟ قصّتنا هي قصة الذهنية الجامدة المعلّبة التي لا تطيق فكر الآخر ، والإنسان الآخر ، ومبادرة الآخر . فكلّنا يصيح ” أنا ” والقليلون منّا يتحدّثون عن المشاركة في الحياة على قاعدة ” أنا والآخرون ” حتى عندما نتحدث عن الآخرين فإنهم يمثّلون شيئاً في ” الأنا ” بالنسبة لواقعنا الذاتي ، ولهذا فإننا نعمل على أن يكونوا جسراً للعبور ، لا أن يكونوا ساحة للإنطلاق .
لقد عملنا على أن نعيش الصنمية في قلب الدين ، فبعضنا يؤمن بالدين لأن شخصاً ما آمن به ، وهو رمزه ، حتى بات البعض يؤمن بالله لا من جهة أنه يعيش الله عقلاً ووعياً وقلباً وحركة وإحساساً وشعوراً ومنهجاً للحياة.
التوحد بالله :
فلو كنّا نعيش الله كما هو في عليائه لتوحّدنا به ، لأنه وحّدنا في إنسانيتنا عندما خلقنا في كلّ هذه الإنسانية التي هي عقل وقلب وإرادة وروح وملامح فالله وحّدنا، لهذا فلئن اختلفنا في هذه الملامح الإنسانية إلاّ أننا نتوحّد في جوهرها ومعناها وعقلها وقلبها وإرادتها وحركيّتها، فالإنسانية تلتقي بالإنسانية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ولكننا لا نطيق أن نتوحّد لأن الوحدة قد تلغي الكثير من ذاتياتنا وأنانياتنا .. وقد بدأنا نختلف على الله، فنجد أن للمسيحيين ربًّا ، وللمسلمين ربًّا ، ولم يكتفِ المسيحيّون أن يكون لهم ربّ واحد ، وكذلك المسلمون، فانطلقنا نقسّم المسألة : فهذا سنّي يحتاج إلى ربّ على قياسه وهذا شيعي يحتاج إلى ربّ وفق مزاجه ، وهذا كاثوليكي يحتاج إلى ربّ كما يراه ، وهذا ماروني أو أرثوذكسي يحتاج إلى رب على قياسه .
إنك حين تدخل أيّ مسجد، أو أية كنيسة ، تجد انّ هذا المسجد يكون ممنوعاً على أهل المذهب الآخر، وتلك الكنيسة ممنوعة على أهل الكنائس الأخرى، وأصبح لكل منّا حكايات وروايات، وحين تدخل في الكثير من هذه المغاور والكهوف لا تجد لله أيّ معنى حتى في عمق وجدان الذين يصلّون ويصومون …
لقد قالوا لنا : إن مشكلتنا هي الدين ، فأخرِجوه من الدولة ، والمجتمع ، ومن مختلف الشؤون . ونحن نستطيع ترتيب الوضع بعيداً عن الدين . ثم قالوا : بالعلمانيّة التي رأيناها في ما بعد تتحوّل عند الشرقيين إلى دين يصادر بقيّة الأديان ، فلم تعش فكراً يحاول أن يحاور ويلتقي .. وحتّى أنها أخذت المصطلحات والمفاهيم في حركة الصراع الديني نفسها في نعت الآخرين : زنديق، ملحد ، كافر ، متخلّف ، متعصّب ، ورجعي ّ..
فهل عرفنا لماذا ؟ لأن الشرقيّ يعيش الذهنيّة نفسها.. سواءً أحتضنت الدين وعلّبته ام عصّبته وغلّفته ..
إدمان التجزئة :
إنّ واقعنا الشرقيّ يدفعنا لأن ندمن تجزئة الواحد ، والإختلاف دون معرفة أسس الخلاف والحوار .. ودون وعي مواقع السموّ والإنفتاح الموجود في المنهج الديني .. فهل درسنا كلّ ما في الإنجيل والقرآن من قيم منفتحة على الحياة ؟ لأنّنا لن نرى شيئاً في الحياة لم ينفتح عليه إنجيل هنا وقرآن هناك …!! فمن أين منبع القيم؟ حتى التي كانت حركتها بعيدة عن الدّين؟ إنّ القيم هي رواسبنا، وما عندنا من نبضة الخير ، والحق ، وما يسمّى فينا بالضمير .. وحين تجفّ كلّ هذه الرواسب والينابيع فهل نستطيع أن نطيق الحياة ؟ فالدين ليس شكليّات أو طقوساً وعادات وتقاليد ، إنّه قصّة القيمة الروحية والإنسانية والتي تجعلك تنفتح على الآخر ، فإذا كان الله محبّة فهل يمكن طرد المحبة من حياتكم وواقعكم ؟ لأن الذين طردوا المحبة المنطلقة من الله والمنفتحة على الله جعلوا السياسة حقداً ، وأمنهم حربا ً، واجتماعهم فرقة وفرقاً متناثرة

إن الحديث عن المحبة في عنوان المسيحية يقودك للإلتقاء مع الرحمة في عنوان الإيمان الإسلامي، فالنبيّ هو الرحمة (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) والله تعالى هو (الرحمن الرحيم) ، والناس (رحماء بينهم). لهذا فتّشوا لي في كلّ مواقعنا الإنسانية فهل سنجد موقعاً لا يحتاج للرحمة والمحبة ؟ لقد أنتجنا الكثير من الأيديولوجيات والتحليلات ولكن تبقى القضية هي ما ينفتح العقل عليه ، وما ينبض القلب به ، وما تتحرّك إنسانيتنا في دروبه ….
لماذا هذه الغيبوبة عن كل الواقع ؟ والموت عن المستقبل؟ هذه الغيبوبة التي تجعلنا نستغرق في نفاياتنا السياسية عندما نواجه الأرض التي تهتزّ تحت أقدامنا حيث القوى التي تحيط بنا تعمل على قاعدة مصادرة إنسانيتنا لنبقى على هامش إنسانيتهم _ إن كان لهم إنسانية_ نستغرق في هذه الخصوصيّات لنعمل على تسجيل النقاط على بعضنا البعض دون روح رياضية ينبغي أن تحكم هذا التسجيل ..
صناعة المأساة :
إنّ كل المفردات الداخلية اللبنانية التي نثيرها الآن ، ونحاول أن نصنع لها مصطلحات جديدة من إحباط هنا ، وغبنٍ هناك وخوف هنالك .. والسؤال إحباط ماذا ؟ وغبن وخوف ماذا ؟ ونشعر أن هناك ضباباً يمنعنا من أن نعرف ماذا هناك؟ وماذا استفاد المسلمون والمسيحيّون في هذا البلد من كلّ الكلمات التي قيلت وأطلِقت فأخافت وغبَنَت وأحبطت؟
إنّ الذين يصنعون مثل هذه المآسي يستغلّون نقاط ضعفنا وهم الذين يقهقهون ونحن نبكي ونتعب ونعيش تداعيات المشكلات كلّها ..
ونبقى نلفّ ونبقى ندور
ونحن نفتش عن قافية
ألا قُتِلَ الضعفُ فينا
فقد أضاع الرعيّة والراعيـا..
إننا نشعر بما يعاني وطننا ، ومواطنينا به ، وبأن ما نحن فيه لن يستطيع أن يبني لنا عنفوانا ً، وأن يُحقق لنا طموحاً ، فنحن شعب يخاف من أن يناقش قضاياه بصراحة ، لأننا نعجّ بالحساسيّات والمشكلات. فلماذا نخاف من بحث هذه القضايا ونحن أحوج ما نكون إلى فهمها ومعالجتها ووضع الحلول لها.؟
الاحباط والخوف :
إننا نعيش مشكلة الإحباط والخوف في هذه الأيام ، ولكنّي بعد كلّ قراءاتي لم أجد كلمات توضح لي ما هي مفردات الإحباط بشكل دقيق جداً يسمّي الأشياء ويحدّدها بأسمائها. وكذلك قضية الخوف بالمعنى اللبناني للخوف ، ومعها مسألة الغبن اللبناني هنا وهناك ؟
فلماذا لا نبحث القضايا ونسمّيها بأسمائها، وعندنا مجلس نيابي فيه المسلمون والمسيحيون ، وكذلك مجلس الوزراء ، والنوادي الثقافية والروحية والإجتماعية والرياضية ، والأحزاب والحركات والتجمّعات.. ؟؟
لماذا لا نحدّد القضايا بشكل صريح لنعمل ميدانياً على إزالة كلّ ما يثير الحساسيات بين اللبنانيين، ومشكلتنا أننا لا زلنا نعمل في داخل لبنان على أن نصنع لهذه الطائفة أعداءها ولهذا الحزب أعداءه ، ولهذا الفريق أعداءه وخصومه .. فهل نحن مولعون بصنع العداوات؟ لأنّ الواقع الذي نعيش فيه في هذا العالم واقع يصنع العداوات …؟؟؟
أيها الأحبة ..
لبنان ليس للموالين وحدهم ، وليس للمعارضين وحدهم ، ولبنان ليس لرئاسة الجمهورية أو الحكومة أو النوّاب … إذا اختلفوا فعلى لبنان أن يندب حظّه .. وإذا اتّفقوا فعليه أن يبتسم حذرًا ..
إن لبنان لنا جميعاً وهو للشعب العادي ، الشعب الذي لا يستهلك السياسة ولكنه يعيش كل همومه وتطلّعاته .. فلماذا لا نحاول البحث عن المشكلات وحلولها موالين ومعارضين .. ؟ أن تنطلق المعارضة لتقدّم للموالاة برنامجها، وأن تنطلق الموالاة لتقدّم للمعارضة برنامجها، وينطلق الآخرون لا لأجل أن تنتصر موالاة هنا، ومعارضة هناك ، بل لينتصر الإنسان في لبنان .. فهل نحب أن ينتصر الإنسان أو الطائفة ؟ الإنسان أو المذهب؟ الإنسان أو الحزب والتيار والتنظيم والحركة والتجمّع ؟ وعندما ينتصر الإنسان فإننا ننتصر جميعاً، وعندما ينهزم الإنسان فإننا سننهزم جميعًا …
لبنان الإنسان
لننطلق من الخير ، فليس في الإختلاف مشكلة، بل علينا أن نعرف كيف نختلف ونتحاور حتى لا يسقط الهيكل على رؤوسنا .. لنختلف على قاعدة السعي للوصول إلى الإتفاق، حتى نثبت كلبنانيين أننا نستحق لبنان الإنسان ، لا لبنان الجبل والسهل والشاطئ ، واننا نستحقّ لبنان الإنسان الحضارة والعلم والثقافة والإبداع…”

شاهد أيضاً

أبو ستة للميادين: منع دخولي إلى أوروبا هدفه ألا أدلي بشهادتي أمام “الجنائية الدولية”

الطبيب الفلسطيني، غسان أبو ستة، يؤكد أنّ الهدف وراء منعه من دخول أوروبا هو منعه …