علي الدهيني: الكتاب هو عقل غيرك في عقلك.. والمعارض تكشف الشرخ بين العناوين والواقع

“مثقفو البلاط” يتبعون لغة أسيادهم، وهناك أقلام وقحة في تبريرها للسقوط!

حوار: روعة يونس


.
لشد ما سررت بالحوار معه، وددت لو كان القراء جميعهم أمامه يستمعون إلى آرائه ورؤاه. فالرجل بحق هو أستاذ أساتذتنا وثقافتنا وذائقاتنا. ليس فقط بوصفه رئيس تحرير مجلة ثقافية فكرية. ولا كناشر ومهتم بالكتب والكتابة. بل أيضاً بفضل كنزه المعرفي وثقافته العالية وصوابية طروحاته.

علي أسدالله دهيني، الأديب والكاتب ورئيس تحرير مجلة “مدارك ثقافية” الذي يشع فكره من لبنان إلى العالم العربي، أخذنا في الحوار إلى مناطق عديدة لا تقتصر على الكتابة والكتاب، بل أيضاً شملت الثقافة وأهلها ومن انجرف منهم إلى كل ما هو منكر، ومن صمد والتزم. إذ راى الدهيني أن “سورية بشعبها وقياتها ونخبها الثقافية ورواد فكرها، وحدها التي التزمت بالقضايا العربية وبالأطروحة القومية ومارستها وتمارسها، رغم كل ما واجهته”. وعرج في حوارنا الممتع معه إلى لبنان وطنه الجميل، يخبرنا ما ينقصه على الصعيد السياسي والثقافي.. وما ينقصنا جميعاً.

علي أسدالله دهيني.. قامة وقيمة، يدفعني حضورها الثقافي والأخلاقي أن أعلن مبهجتي بهذا الحوار…

“كتب وكتابة”


أبدأ الحوار معك أستاذ علي بسؤال أرجو أن لا أكون مخطئة به: أليس غريباً أن تكون كاتباً وشاعراً ومثقفاً وحاضراً في المشهد الثقافي وليس لديك الكثير من الإصدارات الخاصة بك؟


– أعتقد أن الحضور الثقافي من حيثياته البديهية، السعي لإشباع الذات بما غاب عنها من معرفة، وهذا لا يكون إلا من خلال الحضور في المطارح التي تتنوع فيها المشارب الثقافية والأطروحات الفكرية، لأن العقل مهما تحصّل أو نال من معارف، يبقى بحاجة إلى الاستزادة التي لا يجب أن تنقطع عنه، لأن النضوج الفكري بحاجة دائمة إلى ذلك. في هذا الجانب أنا جائع دائماً.
أما فيما يتعلق بالتأليف والمؤلفات، قدمت إلى القارىء ثلاثة كتب بعناوين متفرقة في موضوعاتها، في أواخر التسعينيات واوائل الألفين، كان أولها “هجرة الطيور في الرواية العربية” وموضوعه يتعلق بكتّاب الرواية المهاجرين من بيئاتهم التي تربوا على ثقافتها واختاروا بيئات أخرى للكتابة سعياً للحرية في التعبير، إلا أن ذلك لم يعدُ كونه مجرد انتقال مكاني. وكتاب آخر بعنوان ” الديمقراطية الوليدة في عالمنا العربي”، وموضوعه سياسي أتحدث به عن مراهقتي السياسية ونماذج من العالم العربي. وآخر بعنوان “المستظرف من الحكايات والطُّرف” وفيه كم من اقتباسات الكتب التي تنقل نوادر العرب وأشعارهم. هذه العناوين تمت طباعتها أكثر من مرة إلى حين عزفت عن إعادة طبعها لاعتقادي أن الفكر ينضج من جهة، ومن جهة ثانية أستشعر أن مجتمعنا مجتمع سُماع والتقاط برقيات، يملّ من القراءة. كذلك عندي أكثر من مؤلَّف لكنني أحجم عن نشرها لما ذكرت من أسباب.

تتصف مقالاتك بأنها إلى جانب كونها تحمل رأيك الخاص، تنتهي دائماً بفائدة للقارئ. وهذه الثنائية (الرأي والفائدة) أشبه بمعادلة، كيف تحققها؟

  • أنا فرد من أبناء هذا المجتمع، وشعوري ومعايشتي لما يدور حولنا وفي مجتمعاتنا، لا يختلف عمّا يستشعره أي فرد في هذا المجتمع، لذا حين أكتب وأبدي رأيي، أشعر أنني أنبّه نفسي وأحاكي وعيي، وهذا يوجب عليَّ أن أستخلص مما يدور حولي وما أكتب عنه، بأن أجعله حديث نفس أو همساً مسموعاً من الآخرين.

“حضور ثقافي فاعل”


لديك مشاركات دائمة في فعاليات ثقافية وندوات فكرية. لو قيض لك تقديم محاضرة، ما هو الموضوع الذي تختاره ولماذا؟

  • دون أن أفكّر كثيراً في هذا الموضوع، أختار الحب/ المحبة. لأن هذا العنوان يندرج في تفاصيله كل الموضوعات التي يمكن أن يحاكيها العقل بما أوتي من معرفة، لأنه العنوان الأبرز للعلاقات البينية مع الآخرين، وهو القبس النوراني الذي من خلاله يمكن أن يُكتب في أي موضوع، فنحن حين فقدنا هذا الأقنوم الإنساني في فلسفة وجود الإنسان، فقدنا كل شيء معه، (هذا الأقنوم هو واحد من ثلاثة حددته الفلسفة الأفلاطونية: الواحد، العقل، النفس الكلية) حتى في الدين والسياسة والمواطنة، حيث طغت الأنانية وأخذت نتاج العقول إلى الأناوية.

من يتابعك يدرك مدى علاقتك مع الكتاب والقراءة -وبعيداً عن الإجابات التقليدية- : ماذا قدّم لك الكتاب؟

  • هذا السؤال كأنه يقول لي ماذا تعشق؟ الكتاب والكلمة هما عشقي وهما رئتاي وهما أنسي. مشكلتنا في عالمنا العربي هي هجرة الكتاب، وهجرة الكتاب تعني هجرة العقل، وهجرة العقل تعني الانكماش على الذات والانحباس في دائرة المكان دون التطلع نحو التطور. إن ما قدمه لي الكتاب ـوما يقدمه- هو معرفة لماذا خلق الله لِيَ العقل، بهذا المعنى قدم ـويقدمـ الكتاب العقل. الكتاب صنع للبشرية وعياً وإدراكاً، بدءاً من الكتب السماوية وليس انتهاء بكتب أصحاب الفلسفات والنظريات الأيدولوجية الوضعية. والكتاب هو عقل الآخر في عقلك.

.
“مدارك ثقافية”


تقدّم مجلة “مدارك ثقافية” الإلكترونية، التي ترأس تحريرها، خدمات عديدة للمبدعين المخضرمين والشباب. وبصراحة لو سمحت: هل تحدوك الآمال بهذه الأجيال؛ حين تنشر (النصوص والأبحاث)؟

  • مجلة مدارك، منذ أسستها، وبداية وكانت ورقية، كان الهدف منها البحث عن العقول الجديدة، بمعنى البحث عن أثر مناهجنا الفكرية ومنابرنا الثقافية السالفة، وما أسهمت به من تطور في مجال الوعي عموماً والثقافي بخاصة. من هنا كان السعي لتقديم وتشجيع كل عمل ثقافي وأدبي جديد، كما وتقديم نتاجات العقول المخضرمة، بخاصة تلك التي واكبت واستجابت لتطور العصر، وكمشاركة للجيل الجديد في المجالات الأدبية كافة من جهة، ودورهم في تشجيع الجيل الجديد الذي سينفتح فكرياً أكثر حين يجد نفسه بينهم. وقد تواصلت وأتواصل مع كثير من الوجوه الثقافية الجديدة في الجزائر وتونس وسورية والأردن وغيرها وأفتح منبر المجلة لنتاجهم. أكانوا مخضرمين أم جدداً على الساحة الثقافية.

تشارك في العديد من معارض “الكتاب” الدولية، كاتباً وناشراً ومهتماً. كيف تقيّم لنا وضع هذه المعارض “العربية” ما لها وما عليها؟


*اسمحي لي هنا أن أزفر نفساً عميقاً مؤلماً بتأفف. للأسف في معارض الكتب هناك شرخ كبير بين العنوان والواقع. في الماضي كان لهذه المعارض دور هام وفاعل في الجمع بين الكتاب ومؤلفه والمتلقي، حين كان هذا المتلقي يحصل على ما يريد من الكتب، أمّا اليوم بات رواد المعارض يشترون ما يُسمح لهم من عناوين، لأن الرقابة المفروضة في بعض البلدان تمنع الكثير من العناوين من العرض، وهذا المنع تطور مع الأوضاع السياسية، ولا أبرىء بعض الأقلام التي تستغل الأوضاع لتقدم سيلاً من الكتب التي تفرغ العقل من أي قدرة على النضوج أو التقدم في الوعي الفكري. وهذا عزز دور الرقيب وذريعته، من أن يمنع الصالح مع الطالح. حتى أن بعض الرقابات لا تقرأ الكتاب، بل تمنعه لمجرد معرفة اسم الكاتب!. في المعارض “العربية” للكتب، يعاني المشاركون العرب الأمرين لعرض كتبهم نتيجة الرقابة الصارمة ومنع بعض الكتب ذات القيمة الفكرية، فيما الكتاب الأجنبي يسمح له دون أن يفتح حتى غلافه.

.

“اصطفاف وشللية”


هل ترى أنه في السنوات العشر الأخيرة! بات اصطفاف بعض المثقفين العرب (وقحاً وفظاً) إلى جانب الغطرسة الأميركية والغربية، بوقوفهم ضد مصالح العروبة و- إن شئت – الإسلام؟

  • في مضمون هذا السؤال حدّث ولا حرج. الاصطفاف والشللية والتبعية وما يسمى بمثقفي البلاط.. وكل هذه التوصيفات المشابهة، موجودة للأسف، وأعتقد أن السبب الأول في هذا هو عدم وجود اطار أيديولوجي قومي. ولا أريد أن أحدد “مصالح” الإسلام، لأنني أعتبر الثقافة كتاب العقل المفتوح وليس الدين أو العقيدة المؤطرة لأن الطائفية والمذهبية مزقت الشعور بالانتماء القومي.. نحن في عالمنا العربي ليس بين ظهرانينا ما يمكن أن نسميه أيديولوجيا قومية، عندنا جُزر بهذا المعنى، وأفكار وبيانات وأطروحات، ولكن ليس إطاراً أيديولوجيا. فعالمنا العربي غير موحد إلاّ باللغة بسبب غياب الوعي القومي. كيف يمكن أن نفهم على سبيل المثال، أن المواطن العربي يحتاج إلى تأشيرة دخول إلى بلد عربي. والأوروبي -ومؤخراً الاسرائيلي- لا يحتاج إلى هذه التاشيرة؟ “مثقفو البلاط” باتت لغتهم لغة أسيادهم في التبعية، تصوري أن تنبري أقلام وأسماء لامعة في “الثقافة” في وقاحتها وصلفها، لا ترى في التطبيع مع إسرائيل عملاً منكراً، بل تشجع عليه وتجد له التبريرات، وكل عربي مخلص يدرك أن وجود إسرائيل هو العصا الغليظة التي ترفعها أميركا والغرب بوجهنا، فيما نجد في أوساطنا الثقافية والإعلامية من يدافع عنها. لن أحمّل منبركم الكريم ما يؤلمني ويهجس في نفسي في هذا المجال. وفقط أريد أن ألفت إلى أن الدولة العربية الوحيدة، وأشدد على الوحيدة، هي الجمهورية العربية السورية وحدها التي التزمت، بشعبها ونظامها ونخبها الثقافية ورواد فكرها، بالقضايا العربية وبالأطروحة القومية ومارستها وتمارسها، رغم كل ما واجهته، بعيداً من الإثنية والمذهبية. عودي إلى الأعمال الأدبية للعديدين من مثقفي سورية، كتابها وفنانوها، وراجعي التزامهم بالقضايا العربية.

ببساطة أسأل سؤالي التالي، وأثق أنك ذاهب في الإجابة بعمق: ما الذي ينقص لبنان الثقافي والسياسي؟

  • ينقصه الوعي.. نعم غياب الوعي الوطني والانطواء على التبعية المللية ـالطائفية والمذهبيةـ مهما قدم بعض مثقفيه من أطروحات فكرية، وهؤلاء منقسمون إلى قسمين: واحد مع ملّته والثاني مع مموّله، أكان هذا المموّل داخلي أم أجنبي، حتى أنهم شعوبيون في أطروحتهم. إلى جانب بعض آخر من المثقفين ينازع ويجهد في تقديم أعمال تخدم الوعي الثقافي في المجتمع. وللأسف أن المنبر الثقافي هو نتاج سياسي وليس العكس، إذ ليس في لبنان سياسي نتاج ثقافي، وإذا وُجد فهو ينتمي إلى غير ثقافته وقوميته، وأستثني هنا بعض الأسماء من الأدباء الأوائل الذين أثْروا وأثّرت نتاجاتهم في الثقافة العربية عموماً رغم أنهم عاشوا خارج لبنان ـوربما هذا أمر حسن ـ.
  • أما في الحاضر، قد يكون هناك أطروحات وطنية، لكنها مؤدلجة من حيث تربية الفرد فيها في بيئته الدينية ـ ولا أعمّم إنصافاً للموضوعية ـ، فكما في سورية، عندنا أقلام ونتاجات أدبية روائية وقصصية وشعرية برزت بإيجابية وقدمت أعمال تساهم في الوعي والنتاج الأدبي والالتزام القومي رواية وشعراً.
  • في السياسة ينقصنا الإخلاص والعمل للوطن وليس للمصلحة الشخصية، أو التبعية للأجنبي، مشكلتنا في هذا أنه لا يوجد في نظامنا استراتيجية سياسية، عندنا تكتيكات سياسية، وخصوصية لبنان في واقعه السياسي أنه الدولة العربية الوحيدة التي يرأس جمهوريتها المسيحيون ـ كعنوان لدور المسيحيين في الشرق ـ في وسط عالم عربي مسلم، لكن ذلك لم يمنع أن يكون لبنان في وقت من الأوقات، منبراً وممراً ثقافياً ليبرالياً التقى على منبره جهابذة الفكر والثقافة العربية أكانوا دينيين أو ليبراليين. ولكن للأسف الاستعمار الفرنسي والبريطاني القديم الذي ما زال يستميل بعض الفئات، والأميركي الحديث، اشتغلوا كثيراً على هذا الأمر من خلال إسرائيل التي تسعى أن يكون لبنان سبيلاً لتحقيق أطماعها وتوسعها، فجيشت العملاء في كل اتجاه لتفكيك المجتمع اللبناني، ونجحت في مواضع وفشلت في أخرى. والإعلاميون هم طبقة من المثقفين، وبعضهم اليوم ـ كما أقرانهم في بعض الدول العربية ـ يرى في إسرائيل جاراً يمكن التعايش معه، بل أكثر من ذلك ، منهم من يجد فيها صديق، وغابت القضية الفلسطينية عن محاور اللقاءت أو الكتابات إلا ما ندر، وساهم في ذلك التسلُّط الإعلامي وتنميط المجتمع على سلوكيات هذا الاستعمار.

“دور المثقف”


أريد أن أقف معك على الأدوار التي يُفترض أن يضطلع بها المثقف العربي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه الأمة؟

  • باختصار شديد تحت هذا العنوان “دور المثقف العربي”، نحتاج إلى العودة في تفكيرنا وبناء أفكارنا، إلى الشعور القومي والانتماء القومي. فلا إنقاذ دون هذا الشعور والعمل عليه وبموجبه. وهذا الشباب العربي في سورية ولبنان وفلسطين والجزائر وتونس والعراق ومصر واليمن وغيرها من الشباب العربي، ما زال يجهد في الارتقاء والعمل لصالح قضايا الأمة. وأعطي هنا مثال عن الشعب العربي في مصر بخاصة، كم من السنين مرّت على التطبيع مع إسرائيل، ولكن الشعب ما زال مقاطعاً، وهذا التطبيع كان فقط في الوجه السياسي للنظام. لذا أملي كبير.

سؤالي الأخير.. كمثقف ومعني بالحركة الثقافية: هل أنت متفائل بأن الثقافة ستنقذ عالمنا العربي؟

  • التفاؤل والقنوط هما وليدا ثقافة: تعيش الواقع وتستشرف المستقبل. وأنا كنت وما زلت وسأبقى مؤمناً بأن الوعي سوف ينطلق في عقول شباب أمتنا، وسوف ينقذون الأمة مما تتخبط به. فالإنسان دون أمل وتفاؤل يفقد الشعور بالوجود

“فكر الإنسان”


لابد أن هناك سؤال ما أو فكرة، كنت تتوقع طرحها عليك، ما هي؟ وما إجابتك عليها (مساحة حرة تقول فيها ما تشاء).

  • لقد أغنيتِ ووفيتِ أستاذة روعة، ولا مزيد على ما تفضلتي به، سوى أنني أود أن أوجه الشكر والاحترام إلى منبركم الكريم “صحيفة الوسط” والقيمين عليه عموماً، وإليكِ خاصة، لمعرفتي بمقامك الأدبي في أكثر من مجال، إضافة إلى امتهانك العمل الصحفي الذي لا شك أن بصمتك واضحة المعالم فيه في كل أدبياتك.
    كما ألفت إلى أنني لم أغُص في إجاباتي بالأسماء في ما تقدم من إجابات، لأن ما يعنيني فكر الإنسان وما يقدمه من نتاج ثقافي، ولذا أشرت إلى خلفيات أعمال هؤلاء. وعذرا على الإطالة في بعض الإجابات.
  • المصدر: “صحيفة الوسط”

شاهد أيضاً

من القدس الله أكبر لبيك يا حسين وانتصرت ايران

بقلم ناجي أمهز صوت في قلب فلسطين بعد 1400 عام يشعر أنه ينتصر بكلمة لبيك …