ملحم بركات.. العبقري المتمرد(!) حارس الأغنية اللبنانية ومجددها

زياد سامي عيتاني*


ملحم بركات.. شخصية فنية عبقرية وإستثنائية، مثيرة للجدل، مشهود عنه أنه موسيقار شقي ومتمرد وثائر على الفن والسياسة والحياة بأكملها، كذلك هو معروف بمزاجه المُحتد والمُتقلّب، لدرجة أن مواقفه غالباً ما كانت تثير الرأي العام وتستفز شرائح واسعة من فنّانين ومُستمعين عرب ولبنانيين، لكنه كان يرفض أن يُنعت بالمغرور، ويؤكد أن قلبه أبيض ودمعته سخيّة، بينما يجمع المقرّبون منه على طيبته وحنانه…


بنى ملحم بركات شخصيته الخاصة وفقاً لنموذج المُغنّي الدراماتيكي، المُستحضر في فرنسا السبّعينيات، فوسامة بركات المتوسطيّة إضافة على لغة ومقاييس جسده، ذكّرت بـ شارل أزنافور، حتى أن أغنية بركات “وحدي أنا” توحي بوحدة حال لافتة مع أغنية أزنافور، “أنتظرك”.


بركات جسّد الأغنية صوتاً وتمثيلاً، مكّنه من ذلك حنجرته الخارقة للعادة، حيث يعتبر الموال من أشهر مميزاته الموسيقيّة، إذ كان يلهب جمهوره أيّا كان، عندما يسمع صوته يصدح طويلاً في الغناء عن الحبيب والرحيل والهزيمة ثم النصر…
كل هذه العوامل المتناقضة في شخصية ملحم بركات جعلت منه نجماً من نجوم الأغنية اللبنانية، وصاحب صوت رخامي يجمح بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد، وموسيقار تسكن ألحانه الجميلة في ذاكرة الملايين.
كذلك فهو أيضاً رائد من رواد الجيل الثاني للأغنية اللبنانية، وصاحب فضل كبير في نشرها في سائر أنحاء العالم العربي، لا سيما وأنه لم يغن إلا باللهجة اللبنانية، دون سواها من اللهجات العربية، رغم أنه يحظى بمحبة جمهور عربي واسع…


•مطرب ضيعته وملحن كلام الصحف:


ولد الموسيقار ملحم بركات في بلدة كفرشيما (العام 1942) في كنف عائلة بسيطة، وإنما في وسط بيئة غنيّة بالعطاء الفني، في بيت العائلة تعرّف باكراً إلى سحر العود، فوالده أنطوان بركات كان يجيد العزف على هذه الآلة، وكان الصبي الممتلئ بالموهبة، ينتظر غياب أبيه حتى يتناول العود، ويحرك أوتاره بعبث مميز، إذ ورث “ملحم بركات” حب الفن والموسيقى من والده الذي مارس الفن كهواية وتعلم منه العزف على العود، حيث كان يدندن وسط أصدقائه في بلدته “كفرشيفما” حتى أُطلق علية لقب “مطرب الضيعة”، ويذكر أصدقاءه أنه قام في إحدى المرات بتلحين بعض الكلمات من أحد الجرائد اليومية والتي قام بغنائها في إحدى المناسبات المدرسية، (محققاً بذلك ما كان يعلنه الموسيقار الاستثنائي سيد درويش نظرياً عن إستعداده لتلحين كلام الجرائد)! وليضع بعد ذلك نشيداً لمدرسته.


•أبوه يمنعه من الموسيقى بوجود عبد الوهاب:


في مطلع شبابه طلب ملحم من والده ان يسمح له بدراسة الموسيقى، فكان جواب الأب:”هناك عبد الوهاب في الساحة وتريد ان تصبح فنانًا؟!”
ومع ذلك ترك ملحم المدرسة وكان في السادسة عشرة من  عمره عام 1960، وقرر الإلتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، فإنتسب إليه، دون معرفة أبيه، فكان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يخفيه أمام مدخل منزله، إلى أن إكتشف والده الأمر الذي عاد وقبل الأمر، نظراً لإصرار إبنه وموهبته الواعدة.


•فيلمون وهبي ينصحه بمسرح الرحابنة:


درس ملحم النظريات الموسيقيّة والصولفاج والغناء الشرقي والعزف على آلة العود مدّة أربع سنوات في المعهد الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار)، وكان من بين أساتذته، سليم الحلو وزكي ناصيف وتوفيق الباشا.
وترك المعهد قبل إكمال دراسته، عندما نصحه فيلمون وهبي بأن يتوجه إلى مسرح الرحابنة، وهكذا كان. فقد تعرّف إلى إبن بلدته الفنان عصام رجي، الذي سمع عنه الكثير، فإنضم بواسطته إلى فرقة الأخوين رحباني.
وقد عمل بركات مع الأخوين رحباني والسيدة فيروز عدة سنوات قبل أن ينصرف إلى بناء شخصيّته الفنية الخاصة. أول مشاركة له في هذا السياق كانت ضمن مسرحية “الليل والقنديل” ومن ثمّ “بيّاع الخواتم” و”سفر برلك”، و”الشخص” و”فخر الدين”، وصولًا إلى “الربيع السابع مع رونزا. وخلال هذه الفترة كانت له أكثر من أغنية من كلمات عاصي ومنصور الرحباني ومن ألحانه، (بلغي كل مواعيدي مواعيدي، شو بعدو الناطر، وشباك حبيبي…).
لكنّه بعد أربعة أعوام،في عام 1968  تركهما لكي يشقّ طريقه الفنيّة ويبني شخصيّته الموسيقيّة الطربية والتلحينيّة المتميّزة لما يمتلكه من موهبة في هذين المجالين.


•مدرسة في التلحين:


كان لموهبته الموسيقية المتجذرة أن منحته ثقة بنفسه قلّصت من حاجته إلى الاعتماد على الوجبة الغنائية الجاهزة. سرعان ما تحول جواز مرور لعبور الآخرين نحو معترك النجاح.
يكفي لنص ما، مهما كان متواضعاً، أن يقترن بألحانه الساحرة حتى يصير علامة إبداعية مسجلة.
لحّن لكثيرين، وكان حصول أحد المغنّين على لحن منه يعني دفعة مؤثرة نحو عالم الشهرة.


وبدأ مسيرته التلحينيّة لعدد كبير من المطربين، نذكر منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ.
كانت أولى ألحانه، “بلغي كل مواعيدي” (ثنائي بينه وبين جورجيت صايغ)، ثم ألحان مسرحية “حلوة كتير” للمطربة صباح، ومن بينها: “المجوز ألله يزيدو”، و”صادفني كحيل العين”، و”ليش لهلق سهرانين”.
عندما لحّن أغنية “أبوكي مين يا صبيّه” للفنان وليد توفيق، كرّت بعدها السبحة وإنطلقت شهرته، فقدّم: “علواه يا ليلى”، “عود يا حبيب الروح”، “يا لايمة ليش الملام”، “على بابي واقف قمرين”، إلخ…
ولحّن بركات للعديد من الشعراء من بينهم منير عبد النور ونزار فرنسيس، وقد جمعته بالأخير صداقة قوية، وكان من آخر أعمالهما معًا «عدّ الأيام» و«ما في ورد بيطلب مي».
ولملحم بركات عشرات الأغاني التي تصدح في ذاكرة اللبنانيين والعرب: “على بابي واقف قمرين”، “تعا ننسى”، “حمامة بيضا”، “شباك حبيبي”، “شو بعدو الناطر”، “علواه يا ليلى”… نماذج لأغانٍ جعلت «أبو مجد» كما أحب أن يسمّي نفسه، نجم المسارح والحفلات ومطرب الملايين، بل واحداً من أهم المطربين والملحنين في العالم العربي.
في المسرح، إضافة إلى أعماله مع الأخوين رحباني، شارك في العديد من المسرحيات، فقد قام ببطولة «الأميرة زمرد» لروميو لحود، ووقف أمام الشحرورة صباح في «الفنون جنون» و«حلوي كتير» و«ست الكل»، كما كانت له بطولة «ومشيت بطريقي» التي شاركت فيها الراقصة الراحلة داني بسترس.


•مجدد الأغنية اللبنانية وناشرها:


موسيقيّاً، ينتمي الراحل بركات إلى الجيل الثاني من روّاد الأغنية اللبنانية، ومساهم في تجديدها ونشرها، إذ أن ولادته الفنيّة جاءت في وقت غدا لُبنان مرسى الحداثة في العالم العربي، ونافذته المُشرعة على رياح العصر وآخر صيحاته التجديدية والتحديثية.
وعليه، يعتبر ملحم بركات مجدّدًا للأغنية العربية واللبنانية، وقيل عنه بأنّه “سابق عصره” إذ قدّم نماذج من الأغنية العربية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
فقد أعاد بركات الاعتبار للأغنية الكلاسيكية بصورة عصرية، وأخرجها من جمودها وغنائيتها التي قد تستمر لساعات.
وهو لم يغنّ إلاّ في اللهجة اللبنانية، ليس لعدم إهتمامه باللهجة المصرية أو غيرها من اللهجات العربية، بل قناعة ووفاء للذين صنعوا الأغنية اللبنانية


وأوصلوها إلى كلّ الأقطار العربية والأجنبية، أمثال الرحابنة وفيلمون وهبة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ووديع الصافي وسامي الصيداوي ونقولا المنّي وغيرهم.
ويقال في هذا السياق أن ملحم أخذ عن فيلمون وهبي التمسّك بالهوية اللبنانية الصاعدة في وجه اللهجة المصرية، رغم أنه شبّ في بيت أولى محمّد عبد الوهاب منزلة كبيرة، حيث أن والده كان مولعاً به لدرجة القداسة، فتأثر بألحانه التي تخطت زمانها، إلى أن جاهر بركات بموهبته، وطرح سمات التحدي التي تميز شخصيته.


رحل ملحم بركات في 28 تشرين الأول 2016، تاركاً مساحة شاسعة من الفراغ العاطفي والفني والموسيقي لا يبدو أنها قابلة لأن ترمم بعده، دون أن يتمكن من تحقيق أمنيته الأخيرة بأن يتمكن إكمال مقطوعة موسيقية بدأ تأليفها، وحلم بأن ترافقه من منزله الى مثواه الأخير ومدّتها نصف ساعة، وهو الوقت الذي تستغرقه المسافة بين المكانين.


*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

شاهد أيضاً

ردود فعل نيابية وحزبية ومجتمع مدني بين مؤيد ومعارض للتمديد للمجالس البلدية والمخاتير لمدة سنة، من قبل المجلس النيابي في جلسة عقدت برئاسة الرئيس بري وحضور ٧٢ نائبًا

عارض التمديد 15 نائبًا وخروج 6 نواب من التغييريين والمستقلين من الجلسة النيابية إعداد وتنسيق …