ماذا بعد التطبيع السُّعودي الإيراني وتداعياته على ملفات المنطقة وأزمات لبنان؟

 

الجُزء السابع
مدير تحرير صحيفة الجمهورية الأستاذ طارق ترشيشي : الحاجة إلى الاستقرار الأمني في المنطقة، وإلى تحقيق مكاسب وإنجازات اقتصادية لكلا الطرفين قد يكونان من أحد أهمّ الأسباب التي دفعت إلى هذا التقارب الذي ستنعكس تداعياته على معظم دول المنطقة. الصين انطلقت إلى الساحة الدبلوماسية الدولية بجدارة، وهناك نكسة كبيرة أصابت الدور الأميركي في منطقتنا، والإسرائيلي خسر الرهان وهو مأزوم داخلياً.

حمُّود:
شهدت منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي تحديداً في العاشر من هذا الشهر حدثاً سياسياً ودبلوماسياً تاريخياً تمثّل في إعلان كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران عن عزمهما على عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية والأمنية بينهما، وعلى إعادة تفعيل كل الاتفاقات التي كانت قد وُقّعت بينهما في السابق منذ أيام الزيارة الشهيرة التي قام بها الرئيس الإيراني محمد خاتمي إلى المملكة في العام ١٩٩٨. ولا نزال حتى اليوم نعيش ونتتبّع تداعياته التي بدأت بالظهور إلى العلن شيئاً فشيئاً على امتداد دول المنطقة، بحيث إن التطوّرات على هذا الصعيد تتسارع بشكلٍ يومي فاجأ الجميع بسرعة وتيرته، بالثَّبات والإيجابية والجِدّية التي اتسمت بها حتى تاريخ اليوم طبعاً؛ هذه الصفحة الجديدة من تاريخ العلاقات بين الجارَين القويَّين في المنطقة، لأن قوى التعطيل المتضررة من هذا المشهد الجديد سوف تتحرَك عاجلاً أو آجلاً لمنع هذا التقارب، ووضع العوائق أمامه. وكنا قد بدأنا منذ أيام بنشر الأجزاء الستة الأولى من هذا الملف الذي حاولنا فيه استشراف آفاق هذا التطبيع “الحدث”، وإلى أين يمكن أن تسير هذه العلاقات بين خصمي الأمس اللدودين؟ وما ستكون تداعياته على لبنان والمنطقة؟ وما ستفرضه هذه المعادلات الجديدة التي أطلقها “التنين الصيني” الذي خرج بقوة على المسرح السياسي والدبلوماسي الدولي على “الواقع الجيوسياسي العالمي”، وعلى كل التوازنات التي كانت سائدة فيه في ظل هيمنة القطب الأميركي الأوحد الذي كان هو المسيطر بلا منازع في كل زمان تقريباً، والذي يفرض كل السياسات والمعادلات في منطقتنا طَوال السنوات الماضية، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
في ظل كل تلك التطوّرات المُتسارعة في المنطقة، والتي فرضها هذا الحدث السياسي والدبلوماسي المهم، نكمل اليوم مشوارنا حول التداعيات السياسية والدبلوماسيَّة والأمنية والاقتصادية المُحتملة لملف تطبيع العَلاقات السياسية بين المملكة العربية السُّعودية وإيران، والآثار التي قد تتركها على كل ملفات المنطقة، بدءًا من اليمن، مرورًا بالعراق وسورية ولبنان وفلسطين المحتلة؛ وكذلك ما هو الدور المستقبلي للصين في السياسة الدبلوماسيَّة الدَّوليَّة؟ وهل انتهى فعلًا عهد القطب الأميركي الأوحد؟ وللإجابة عن كل هذه الأسئلة المهمة ننشر اليوم المداخلة القيّمة لمدير تحرير صحيفة الجمهورية الأستاذ طارق ترشيشي، وهو من الإعلاميين المخضرمين، الواسعي الاطلاع على كل ملفات المنطقة ودهاليز ملفاتها، وعلى معظم خفايا وكواليس السياسة الداخلية اللبنانية.

ترشيشي:
مدير تحرير صحيفة الجمهورية الأستاذ طارق ترشيشي رأى أن الاتفاق إذا سلك عملياً كما تمّ الاتفاق عليه في بكين؛ سيؤدّي إلى تفكيك جميع الصواعق في المنطقة، وإزالة كل بؤر التوتر فيها. وهو حدث مهم جداً ستكون له انعكاساته على مستقبل معظم دول المنطقة ومصيرها. أما بالنسبة إلى أفق التعاون بين طِهران والرياض فهو أفق واسع جداً، وللطرفين مصلحة مُشتركة في هذا التعاون على جميع الصعد، لكنه يفترض وجود بيئة آمنة ليتحقق، ورؤية المملكة العربية السعودية للعام 2030 ، والتي وَضع خطوطها العريضة، ويتولّى تنفيذها فعلياً، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والمستشارون المقرّبون منه، أظهرت نيّته وتصميمه لتنفيذ سياسة تصفية المشكلات مع الآخرين. ولذلك قد يكون السعي والتحضير الحثيث للوصول إلى تحقيق هذه الرؤية هو من الأسباب الأساسية التي دفعت المملكة العربية السعودية للتوجّه الى تطبيع العلاقات وتصفية معظم المشاكل مع جارتها القوية إيران؛ وعلى المقلب الآخر، فإن إيران مع ما تعانيه من حصار أميركي وغربي، تطمح بأن تكون قوّة اقتصادية وإقليمية وعالمية أيضاً، وهي تعمل على ذلك، كونها تملك التكنولوجيا النووية، وتملك صناعات وتِقنيات مُتقدّمة، وفي مجالات مُتعدّدة، خصوصًا في المجال العسكري. إذاً، من هنا يمكن القول: إن هناك مصلحة مشتركة للبلدين في إنهاء العداوة والخصومة القديمة بينهما؛ ولذلك، فإن الخلفية أو الدوافع الأمنية والاقتصادية التي تنطلق منها الدولتان لها أهمية قصوى، وستنعكس التداعيات الإيجابية لهذا الاتفاق على المنطقة بكاملها؛ فبمجرد تقارب بلدين بهذا الحجم سينهي نزاعاتنا الطائفية والمذهبية، والتي عملت إسرائيل عليها، واستثمرت فيها طَوال السنوات الماضية لتفكيك المنطقة، وتصوير إيران بأنها العدو اللدود والأوّل لدول الخليج.
وأكمل ترشيشي قائلًا: من الطبيعي أن ينعكس هذا التطبيع في العلاقات إيجاباً أيضاً على حرب اليمن التي كانت تشهد أصلاً منذ مدة طويلة حالة تبريد للجبهات ومفاوضات سعودية مباشرة مع الحوثيين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوضع في لبنان الذي قد يشهد تنفيسًا للاحتقان الكبير الذي كان موجودًا، وبداية حوار قد يؤدّي إلى نتائج قريبة، خصوصًا على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية. وسينسحب الأمر نفسه على الأوضاع في سورية التي قطفت منذ أيام أولى ثمار هذا التقارب، عبر إعلان مصادر موثوقة عن إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين دمشق والرياض بعد عيد الفطر، وهي خطوة لم تكن لتحصل لولا أجواء التقارب والتطبيع بين السعودية وإيران التي تحدّثنا عنها؛ كذلك سوف يكون هناك تداعيات إيجابية لهذا الاتفاق في العراق، وهي ستظهر تباعاً، وستتمظهر بأشكال مختلفة خلال الأسابيع المقبلة، وفي المحصّلة، فإنّ كل ما شهدناه سابقاً من نزاعات بين عدد من دول المنطقة هي انعكاس لنزاعات غير مباشرة بين الدولتين، ثمَّ إن تطبيع العلاقات بينهما سوف يؤدّي إلى تبريد معظم ساحات النزاع؛
أما فيما يخصّ الملف الرئاسي في لبنان، فمن الوارد جداً أن يؤدي ذلك إلى تسهيل وصول الوزير السابق سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، لأن علاقته متينة مع سورية، وهو بذلك يستطيع حلّ مُشكلات عديدة معها حول ملف الترسيم البحري والبري للحدود وملف النازحين، فضلاً عن أن علاقته الجيدة بحزب الله؛ تُمكّنه من مناقشة الاستراتيجية الدفاعية ودور سلاح المقاومة مع قيادة الحزب.
وأضاف ترشيشي قائلًا: إن الاتفاق يمكن أن يُوجد سلّة حلّ مُتكاملة لإخراج البلاد من الانهيار ، فيكون الاتفاق حول الرئيس الجديد للجمهورية، وحول اسم رئيس الحكومة، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني فاعلة ذات صلاحيات واسعة تتمثّل فيها القوى الأساسية والفاعلة لانتشال الوضع الذي وصلنا إليه.
وختم ترتشيشي كلامه بالقول: إن قوة الاتفاق تكمن في وجود الرعاية والضمانة الصينية لما تمّ التوقيع عليه، وكلنا نعرف أنها قوة عالمية اقتصادية وسياسية لها وزنها، ولذا، فإن الاتفاقات الاقتصادية والسياسية للصين مع كلتا الدولتين، ستدفع إيجابياً في تطوير المنطقة. والصين تُعبّر عبر قدرتها على تقريب وجهات النظر، وصياغة هذا الاتفاق التاريجي المهم بين الدولتين، فضلًا عن دورها الاستراتيجي والمهم في المنطقة، وعلى المستوى الدولي، خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وللصين مصالح مع أوروبا وأميركا، وهي لا تسعى للخلاف معهما؛ فالجميع باتوا يعلمون أن منحى الصين في العالم ليس صدامياً مع أحد، وهو يعتمد على مبدأ الدبلوماسية الناعمة، وتعطيل فتائل النزاعات في العالم، وهذا ما تجلّى في محاولتها إيجاد حلول للحرب الأوكرانية.
وختم: إن أميركا تعيش انقسامًا داخليًا يوازي الانقسام داخل إسرائيل، من هنا فهي ستحاول أن تُفشل هذا التقارب، وأن تمنع استكماله بين السعودية وإيران، ولكن كلنا نلاحظ أنه لم يعد لأميركا ذلك النفوذ في المنطقة كما في السابق، خصوصاً بعد الوضع القائم، وبعد ظهور رغبة عند حكام دول المنطقة بالسعي للخروج من تحت مظلة الحماية الأميركية التي ظهر لهم، وبعد التجربة نرى أنها لم تحمِهم في الكثير من المراحل؛ وكذلك في رغبتهم في تنويع مصادر السلاح، وتوسيع شبكة العلاقات الاقتصادية، خصوصًا مع العملاق الصيني الذي يتقدّم يوماً بعد يوماً، في حين أن أميركا وأوروبا تعانيان من أزمات اقتصادية خطرة. كذلك فإن سياسة “فرِّق تسد” لم تعد تنفع مع دول المنطقة التي أصبحت تعي تلك السياسة، أملاً أن تتخذ كل الدول التي كانت قد انخرطت في المحور المعادي لإيران، وقامت بخطوات تطبيعية مع العدو قرارات وإجراءات جريئة لإعادة تصحيح المسار في هذا الصدد. وأنهى ترشيشي كلامه مؤكّداً أننا اليوم نشهد نكسة كبيرة أصابت الدور الأميركي في منطقتنا، والإسرائيلي خسر الرهان على افتعال الصراعات وتأجيجها بين العرب وإيران، وهو مأزوم داخلياً بشكلٍ خطير، بسبب كل ما تواجهه حكومة نتنياهو المتطرفة. مضيفاً: إن سياسة العدوان والغطرسة في المنطقة إلى تراجع، وإن سياسة واشنطن لم تنجح، وقد أصيبت الدبلوماسية الأميركية بسبب هذا الاتفاق بانتكاسة كبيرة، وموجعة جداً، سوف تترتّب عليها تداعيات خطرة في المستقبل؛ وقد ترتدّ عليها سلباً وخيبةً كل السياسات المتغطرسة التي اعتمدتها في السابق في منطقتنا، وكذلك سيكون عليه الأمر بالنسبة إلى شريكتها إسرائيل التي حاولت طَوال عقود زرع الفتنة بين دول الخليج العربي وإيران، وتخويفهم من هذا البعبع الإيراني، فهل انقلب السحر على الساحر، وخسر الأعداء أوراقًا كثيرة كانوا يلعبونها لضعضعة أوضاع المنطقة، ومنع اتفاق وتعاون شعوبها، والقضاء على فرص ازدهار وتقدّم دولهم؟

د. طلال حمُّود – رئيس ملتقى حوار وعطاء بلا حدود، ورئيس جمعيَّة ودائعنا حقُّنا.

شاهد أيضاً

الشارقة تتصدر المشهد اليوناني مع الاحتفاء بها ضيف شرف الدورة الـ20 من “معرض سالونيك الدولي للكتاب”

بدور القاسمي: لسنا مجرد ممثلين لدولنا ولكننا مسؤولون عن قصة إنسانية مشتركة ● عمدة مدينة …