لماذا دمشق بكين موسكو؟.

أحمد رفعت يوسف

يثير التحرك السياسي والدبلوماسي النشط هذه الأيام، التساؤلات حول مكانة وقدرة دمشق على أن تكون زاوية من زوايا مثلث أطرافه الأخرى موسكو وبكين، في هذا الحراك الذي يرسم معالم المنظومة الإقليمية والعالمية التي تتشكل في عالم اليوم.
فإذا كانت بكين تعتمد على قوتها الاقتصادية، وموسكو على قوتها العسكرية، وتتعاون العاصمتان معا لإقامة عالم متعدد الأقطاب، بديل عن نظام القطب الواحد برأسه الأمريكي، فالتساؤل يدور من أين لدمشق أن تكون الركيزة الثالثة في هذا المثلث؟.
لا شك أنه سؤال مشروع، لكن جوابه ليس صعبا عند المدركين للعبة الأمم، والتوازنات الإقليمية والدولية التي تحدد دور ومواقع وحجوم الدول، في أي منظومة إقليمية أو دولية قائمة أو تتشكل.
فمكانة دمشق لم تأت من فراغ، وإنما من خلال موقعها الجيوسياسي كعاصمة لبلاد الشام، التي تعتبر قلب العالم، والمنطقة التي شكلت على مدى التاريخ المقياس والمؤشر على صعود وهبوط الدول العظمى والامبراطوريات، فما من امبراطورية سادت إذا لم تسيطر على بلاد الشام أو على الأقل تحييدها، وما من امبراطورية فقدت سيطرتها على بلاد الشام، إلا وكانت مؤشراً على بداية انهيارها، وهو ما يحدث حاليا في موازين وتوازنات القوى والقوة في المنظومة الإقليمية والدولية، التي ترتسم اليوم وبشكل متسارع، تارة على الساخن بالحروب، وأخرى على البارد بالوسائل السياسية والدبلوماسية.
وما يؤكد دور دمشق هذا، هو أن الانعطافة الحادة في التوازنات الإقليمية والدولية، التي أسست للتغيرات الدراماتيكية المتسارعة التي نراها في عالم اليوم، حيث تتراجع المنظومة الأمريكية الرأسمالية، وتتقدم المنظومة المشرقية برأسيها الصيني والروسي ومعهما الإيراني، بدأت من الميدان السوري، ومن صمود سورية، ومن فشل الولايات المتحدة الأمريكية ومنظومتها الاستعمارية الغربية وبإدارتها الص.هيو.نية في إسقاطها والسيطرة عليها، ولو تم لها ذلك كانت ستفتح أمامها الأبواب مشرعة للسيطرة على كامل المنطقة ومحيطها الحيوي والجيوسياسي، وعلى منابع وخطوط انتاج ونقل النفط والغاز الرئيسية في العالم، في الخليج ووسط آسيا والأهم الآن في سواحل شرق المتوسط، وكنا سنرى عواصم ومدن المنطقة تتساقط بعد دمشق كأحجار الدومينو، وليعاد تشكيل المنطقة والعالم كما كانت تنص مخططات وخريطة مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي كان يستهدف إعادة تشكيل المنطقة على أسس عرقية وطائفية، ومحاصرة الصين وروسيا، وصولاً إلى الهدف الكبير بتجديد البنى والهياكل المأزومة للمنظومة الرأسمالية الأمريكية الاستعمارية الغربية، لكن صمود دمشق حوّل هذه الأحلام إلى كوابيس، والمشاريع إلى أوراق محروقة، وليبدأ بالمقابل مسار آخر، وهو صعود المنظومة المشرقية برأسيها الصيني والروسي ومعهما الإيراني، حيث تحقق حلم موسكو بالوصول إلى المياه السورية الدافئة، ولتنطلق بكين بمشروع الحزام والطريق، ولتضبح طهران واحدة من ركائز المنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل، وصولا إلى ما نراه اليوم، من مشاهد حراك سياسي دبلوماسي نشط، يتنقل بين دمشق وموسكو وبكين، لإعادة صياغة المنطقة والعالم، ورسم الأدوار، وتحديد الحجوم والمواقع والمواقف في هذه المنظومة، وعلى أسس مختلفة تماما عن مخططات ومشاريع مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي الص.هيو.ني.
هذا المشهد الجيوسياسي، الذي يوضح مبرر تموضع دمشق كزاوية من زوايا المثلث الذي يرسم معالم العالم الجديد الذي يتشكل، إلى جانب بكين وموسكو، يؤكد أن غاية الحركة باتجاهها، تقف خلفها طموحات وأهداف للبحث عن دور ضائع، أو للعب أدوار قيادية وإقليمية، لا يمكن أن تستكمل بدون دمشق، وفيها عودة عربية إلى دمشق، أكثر مما هو عودة سورية إلى الحضن العربي، كما يحاول البعض تمريره، ورغم حاجة دمشق لهذه العودة.
والسؤال الأهم الآن هو كيف ترى العواصم العربية والإقليمية والدولية موقع دمشق، وماذا تريده منها ومن توجهها إليها؟.
** السعودية التي تبحث عن دور ضائع، حتى بات يهدد النظام السعودي نفسه، مع الفشل في سورية واليمن ولبنان وفلسطين، ولحساب المنافسين الرئيسيين لها في المنطقة وهما إيران وتركيا، تسعى اليوم لتعزيز موقعها، وبما يتوافق مع سياسات ولي العهد محمد بن سلمان ومشروعة (2030) وباتت تدرك أنه من المستحيل عليها تثيبت الدور المركزي هذا بدون التصالح مع سورية، وهذا سيمهد الأجواء لاستكمال مشهد بكين لنراه في دمشق.
** الإمارات التي تقود اليوم تيار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ومنطلق الديانة الإبراهيمية، وتعيش صراعا على الأدوار مع السعودية، وتخشى من مخاطر فشلها مع السعودية في اليمن، تدرك ترابط الميدانين السوري واليمني، وأهمية البوابة السورية في الحفاظ على دور لها في المنطقة.
** مصر التي تكاد تفقد أي دور مؤثر لها منذ توقيع اتفاقية كانب ديفيد، تدرك قوى الدولة العميقة فيها، القاعدة المعروفة منذ بدء تشكل الدول والتي تقول “مصر هي العمق الاستراتيجي لسورية – بلاد الشام – والعكس صحيح، لكن بوصلة مصر هي دمشق، وأي اتجاه آخر سيكون مجرد تيه وعلى حساب دورها ومكانتها” وبالتالي لا بد من دمشق إذا ما أرادت استعادة هذه المكانة والدور.
** العراق الموزع اليوم بين النفوذ الأمريكي – السعودي من جهة، والإيراني من جهة ثانية، تدرك كل مؤسسات الحكم فيه أن سورية هي العمق الجيوسياسي للعراق، والعكس صحيح، ولا يمكن أن يكون للعراق دور ما لم يمر عبر دمشق.
** الجزائر التي عملت المستحيل لدعوة دمشق إلى القمة العربية الأخيرة التي استضافتها قبل أن تدرك – وتفهمت موقفها دمشق – بأن التحولات لم تنضج بعد لهذه الخطوة، هي بدورها تدرك أنها مستهدفة بسبب تموضعها – مثل دمشق – خارج المنظومة الأمريكية، وأن صمود دمشق قوة لها.
** ووحدها قطر بقيت تعاند حقائق التاريخ والجغرافيا، لتحافظ على دورها “بلوعة” الصرف الصحي للنظام العربي الرسمي.
** وفي المواقف الإقليمية والدولية: تركيا التي تعيش أزمة نظام، وأزمة هوية عميقة، تدرك (حكومة ومعارضة) أن كفة دمشق تعادل كل عواصم المنطقة، وأنها مهما دارت حول دمشق، لن تعيش استقرارا حقيقياً، ولن يستكمل أي دور لها مالم تفتح نافذتها السورية، التي تشكل بوابتها على العرب، وبوابة الخليج وبقية العرب عليها وعلى أوروبا.
** إيران التي تبني قوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية بخطى ثابتة وواثقة، تعتبر علاقاتها الاستراتيجية مع سورية منذ انتصار الثورة الإيرانية، هي أحد أهم ركائز وثوابت هذه السياسة، وهذه العلاقة حاجة مصيرية للطرفين، وأي تفريط فيها سواء من دمشق أو طهران سيكون بمثابة انتحار، وهو ما يجعل طهران الأكثر راحة واطمئنانا على دورها ومكانتها في سورية والمنطقة.
** أما روسيا وحاجتها للركيزة السورية، فهي تتجاوز حتى السياسة والاقتصاد، لتصل إلى المنبع الروحي لروسيا التي جاءتها الارثوذكسية من دمشق، لتأتي سطوة الجغرافيا وحاجة روسيا للمياه السورية الدافئة، لتجعل العلاقة بين موسكو ودمشق محكومة بقاعدة استراتيجية للدولتين تقول “لا روسيا عظمى بدون سورية ومياهها الدافئة، ولا أمن ولا أمان لسورية بدون روسيا” وهذه العلاقة المصيرية بين البلدين ليست وليدة روسيا البوتينية، ولا حتى الاتحاد السوفييتي، وإنما موجودة حتى في عمق روسيا القيصرية، والتي جعلت الامبراطورة كاترينا تقول كلمتها المشهورة “إن مفاتيح الكرملين موجودة في دمشق”.
** أما الصين فهي تدرك أن مشروع الحزام والطريق لن يستكمل بدون فتح الطريق أمامه حتى الشواطئ السورية “تحديدا” على المتوسط، حيث فشلت كل محاولات إسرائيل لجعل ميناء حيفا في فلسطين المحتلة المنفذ الرئيسي للمشروع الصيني على المتوسط، رغم أنه يستثمر من قبل شركة صينية، وتم تدمير مرفأ بيروت لهذه الغاية، لتأتي الاعتداءات الإسرائيلية على مرفأ اللاذقية كمحاولة لاستكمال مهمة تدمير مرفأ بيروت، وكان سيتم الانتقال بعده إلى مرفأ طرطوس، لو لم يتم تدارك الأمر، باعتبار أن هذا العبث يتم في قلب المصالح الحيوية لروسيا قبل سورية.
وتدرك الصين أن هذا الوصل لمشروعها الاستراتيجي إلى المرافئ السورية، لن يتم مع الوجود الأمريكي غير الشرعي في سورية، لأن قطع الطريق الصيني هو أحد أهم أسباب هذا الوجود، وهو الموقف الذي سيكون له تأثيره عند التعامل مع الأمريكي في سورية، سواء بالسياسة أو بالمقاومة.
** أما الموقف الأمريكي حيث لا زالت واشنطن تستفرد في قيادة العالم حتى اليوم، تبدو وكأنها المتحكم الأكبر في قواعد اللعبة في سورية، وتدرك قوى الدولة العميقة فيها أن خروجهم من سورية يعني خروجهم من كامل منطقة شرق المتوسط وغرب آسيا، حيث مؤشر انهيار وصعود الامبراطوريات، ولذلك يتمسكون بهذا الوجود، ومنعوا الرئيس ترامب من الانسحاب منها، لكن فشل محاولة إسقاط سورية أو – كما يقول المسؤولون الأمريكيون – محاولات تغيير سلوك النظام، جعل واشنطن تعطي “الضوء الأصفر” لخطوات التقارب والانفتاح على دمشق، والتي تحمل معها سلة من عروض الترغيب والترهيب، بانتظار معرفة موقفها، وقابليتها للقبول بما يطرح عليها تحت تأثير الحصار والعقوبات والزلزال، ونتيجة 12 عاما من العدوان عليها، لكن ما يجري من تحولات جيوسياسية في المنطقة، سيجعلها تصل في لحظة ترى نفسها وهي مضطرة للخروج من سورية، وهذه الخطوة ستكون حال حصولها، البوصلة والمؤشر الحقيقي (وليس أوكرانيا) على انتهاء عصر هيمنة المنظومة الرأسمالية الأمريكية الغربية، وحقبة القطب الواحدة، والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، وانتقال الثقل السياسي والاقتصادي للحضارة البشرية من ضفتي الأطلسي، إلى المنظومة المشرقية الناشئة برأسيها الصيني والروسي.
ويبقى الكيا.ن الص.هيو.ني وهو محور وأساس ما يجري في سورية والمنطقة كلها، فستبقى علاقته مع سورية محكومة بصراع وجود لا حدود، قاعدته (إما أن تموت سورية لتحيا إسرائيل، أو تموت إسرائيل وتحيا سورية) وكل ما رأيناه وسنراه من أحداث ومشاريع ومخططات وعلاقات وتحالفات وتشابكات تندرج تحت هذه القاعدة.
القيادة السورية التي تدرك قوة هذه الأوراق التي بيدها لا نعتقد أنها ستقبل العروض – وخاصة الأمريكية – التي رفضتها وهي على شفير الهاوية، وهي تدرك أن ما يقدم لها من إغراءات ستدفع ثمنها من موقعها وموقفها، وسيفقدها هويتها الوطنية والقومية، وهو الخط الأحمر الذي لا يمكن القبول به في سورية.
كما أن هذه الأوراق وقوتها تمكن الرئيس الأسد والقيادة السورية، من اتخاذ مواقفها الاستراتيجية بما يتناسب مع مصالحه الوطنية فقط، حتى لو تعارضت في بعض جوانبها مع حلفائها الاستراتيجيين، وهو ما رأيناه في تأجيل زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لدمشق، بسبب الخلاف على بعض النقاط في جدول أعمال رئيسي، وجعلت الرئيس الأسد يرفض فكرة توسيع المحادثات مع تركيا من الجانب التقني إلى السياسي، تمهيدا لعقد اللقاء المنتظر مع الرئيس أردوغان، قبل تنفيذ أنقرة لشروط دمشق، رغم أن الحليفين الروسي والإيراني يعملان بقوة بهذا الاتجاه.
أما الخوف لدى المجتمع السوري بشكل عام، ونخبه بشكل خاص، من أن يتم تضييع هذه الفرصة التي لن تتكرر، وسط زواريب الفساد وسوء الإدارة المرعب، وهو ما يؤكد الحاجة إلى إدارة ومقاربة صحيحة للوضع الداخلي قبل أي ملف خارجي، لأنه هو المنبع الحقيقي لقوة سورية وحصانتها وأمنها وأمانها، وهو الذي يعطي سورية القوة والقدرة على استعادة دورها ومكانتها، وبناء مستقبل يليق بالشعب السوري، وبما يمتلكه من قدرة خلاقة وطاقات كامنة، يمكن أن تجعله في موقع القيادة والريادة وفي مقدمة شعوب العالم.

 

شاهد أيضاً

NADIN JEWELRYافتتاح محل للمجوهرات

مصطفى الحمود السيدة نادين مكي جابر تحتفل بإفتتاح باكورة اعمالها في محافظة النبطية برعاية وحضور …