تقنيّات الزّمن في رواية تميمة العاشقات وأثرها في تقديم رؤية الحبّ والحنين والفقد

أ.د درية فرحات
الجامعة اللبنانية

رواية “تميمة العاشقات” للكاتبة لانا عبد الرّحمن رواية تجمع الحنين والفقد والحبّ والتّمرّد والتّدين والرّغبة في الانعتاق، والمغامرة والرّحيل والتّيه والخروج من التّيه، رواية قد نرى في ملمح منها أنّنا أمام رواية تاريخيّة، تجول الكاتبة في أزمنة غابرة، فتعود إلى زمن الفراعنة، ونراها تغوص مع أسبانيا في زمن العرب التي تحوّلت إلى الأندلس المفقود، وتمرّ مرورًا على ما فعله المغول في بغداد، وتنقلنا إلى صراعات الأتراك مع الأرمن في اذربيجان، لترحل إلى بغداد في زمن الطّاعون، ومنها تعرج إلى جبل لبنان في حقبة زمنية كان العثمانيون قد تركوا أثرهم فيه، وما نتج بعد ذلك من وقوع المنطقة تحت الانتداب، ثم نعود إلى مصر في حالة زمنيّة راهنة، ومنها ننتقل إلى الهند بحثًا عن الحكمة والمعرفة. وفي طيّات ذلك نكون قد اخترقنا الزّمن وسافرنا عبر الزّمن، فنشعر وكأنّنا مع روايات الخيال العلميّ واستخدام آلة الزّمن.

حكايات متعددة نقف أمامها حائرين في تحديد هوية الرّواية والرّابط الذي يجمع بين هذه الأزمنة المختلفة، وتعدد الأمكنة. ولعل العنوان يعطينا الدّلالة الأولى، تميمة العاشاقات، إذًا نحن أمام تميمة تجمع عدّة عاشقات، والتّميمة هي خرزات أو عظام أو كتابات أو خيوط أو غيرها وقيل إنّ التَّمِيمة: خَرزة رَقْطاء تُنْظَم في السَّير ثم يُعقد في العُنق، وقيل:هي قِلادة يجعل فيها سُيُور وعُوَذ؛ والتَّمِيمةُ: عُوذةٌ تعلق على الإِنسان، وكما يبدو فإنّ هذه التّميمة هي التي جمعت هؤلاء العاشقات، اللواتي انتقلن من جيل إلى جيل، وكانت التّميمة في هذه الرّواية هي قرط ياقوتي ربط مصير بطلات الرّواية.
إذا الرّواية هي حكاية المرأة التي تقدّمها لنا زينة فهي الراوي الأوّل الذي يظهر معنا، لنتبين بعد ذلك أنّ الرّواية تعتمد تعدّد الأصوات، أي الرّواية البوليفونيّة التي ظهرت مع مع دويستفسكي – حسب المنظر الروسيّ ميخائيل باختين، وهي سمة من سمات السّرد القصصي للرّواية الحديثة، فعشنا مع أكثر من صوت في الرّواية مع التبديل في استخدام الضمير بين الغائب والمتكلّم، ووجدنا أنفسنا أمام سبع روايات متصلة منفصلة في رواية واحدة، منفصلة لأنّها تدور في عدّة أزمنة وأمكنة، ومتّصلة لأنّها حكاية زينة ابنة المستقبل تروي لنا حكايات جدّاتها، أو تروي لنا حكايات سلالة العشق في حبّ رجلّ غريب.
ونكتشف أنّ العتبة النّصيّة التي بدأت بها الكاتبة روايتها تربط الحكايات، “لا تمضِ إلى الغابة/ ففي الغابة غابة/ ومن يمضي إلى الغابة/ لا يُسأل عنه في الغابة”، اقتباس من الشاعر والرّوائي الألماني غونتر غراس، وما هذه الغابة إلّا الحياة التي علقت فيها ألارا وحفيداتها أو زينة وجدّاتها.
وتمتدّ الرّواية عبر خيوط متعدّدة في كلّ منها تفصيل ما يحدث، وإن اختلف المكان والزّمان لكنّنا قد نرى وحدة خيط سارٍ في كلّ الحكايات، فبالإضافة إلى التّميمة أي القرط الياقوتي نرى أنّ فكرة وجود طير يحوم حول صاحبة الحكاية، مثلا في حكاية ألارا الفرعونيّة كان الطائر الذي اوصلها إلى قارب النّجاة، ونراه أيضا مع شمس الصّباح “في بيتنا في إشبيلية كان هناك طائر هدهد دائم الزّيارة للنّافورة، اشاهده عبر النّافذة وهو ينقر الحبّ الذي أتركه له عند حوافها، كنت أحبّ رؤيته، ويبتهج قلبي لتأمل ريشه. لمّا أخبرت أبا الوليد قال لي عجبًا إنك تشاهدينه، وما لمحته قط. الطّائر الذي فارقنا طوال إقامتنا في بغداد والموصل وشاهدته حين جئنا إلى الشّام”.
ومن العلاقات المشابهة بين حكايات العاشقات أنّهن أحبين رجلًا غريبًا، أو عشن التّناقض في علاقاتهن، فكانت حكايات العشق تنطلق من التّوتر أو أن يكون من دين مختلف أو بيئة اجتماعيّة مختلفة، وهذا ما يعود بنا الى العتبة الافتتاحيّة من يمضي إلى الغابة، لا يُسأل عنه في الغابة، ما يؤكّد أنّ الإنسان يتحمّل نتائج اختياراته.
وما يجمع الحكايات هو الهروب دائما من الأوبئة والفقر والمجاعة والحروب والضّياع، والوقوع بالتّيه ثم السّعي إلى الخروج من هذا التّيه.
وإذا عقدنا مقارنة بين حكاية ألارا كاهنة المعبد وألارا الحسيني نكتشف الكثير من التّشابه بين الحكايتين، لكن نظرًا لاختلاف العصر والزّمان تختلف المشهديّة، فالمعبد كان مصدر المعرفة والحكمة في مقابل الهند، والكاهنة الأم النّاصحة الموجهة في مقابل استاذة ألارا الحسيني التي قدّمت التّوجيه والنّصح لها في الرّسم، وجيم في مقابل عدنان، جيم أوقع ألارا في المحظور فخرجت من عطف المعبد، وعدنان فرض على ألارا الحجاب واخرجها من عالمها الفنيّ الخياليّ.
ولو تتبّعنا هذه الخيوط الدّقيقة نراها في كلّ الحكايات، واستطاعت الكاتبة أن تعتمد التّنقل بين الماضي والحاضر والمستقبل لهذا تداخلت الأزمنة، فلم يكن زمن السّرد يسير سيره الطّبيعيّ منذ البداية إنما كان هناك التّكسر والانقطاع. ولأنّ الكاتبة تلعب على الزّمن نراها تعتمد في روايتها كلّ تقنيات الزّمن السّرديّة، فنرى الاسترجاع وفيه ذكر أحداث وقعت سابقًا، وعبرها يكتمل الحدث المطلوب، فمثلا في حكاية آني داديان، نفهم حكايتها مع مراد عبر الاسترجاع. أو عبر استرجاع ألارا الحسيني حوارها مع أستاذتها “تذكرت لقائهما الأخير، وحثّها لها على المضي نحو طريق مختلف وتذكّرت يوم وضعت الحجاب بضغط من عدنان كيف قالت لها يومها بلا مواربة: هذه قناعتك وحدك، لو كان يحبّك لما وضع حبّه لك في مقابل الحجاب، ولما ساومك عليه، هو يريد أن يتحكّم بك استيقظي”.
وبرز بشكل لافت تقنية الاستباق، وعبره اكتشفنا أوّل خيط من خيوط تعدّد الحكايات فتقول آلارا الفرعونية “لن يكتب أحدٌ قصتي. ستظل مجهولة ما لم أحكها. قيل إني سبع مرات سأحيا، وفي سبعة أجساد سأموت، وإن حكايتي ستظل محجوبة لألف عام وألف”، وقد نرى هذا الاستباق مع رحمة التي تقول بعد رحيل هوفان من حياتها “تلك كانت ابنتي الصّغرى مريم التي ستكرر حكايتي في مكان آخر ستمضي لتكمل سلالة العشق في حبّ رجل غريب فتغيّر اسمهما وبلدها وترتد لدين أبيها”.
​ومن التّقنيات المرتبطة بالزّمن ما له علاقة بالدّيمومة ومن خلال ذلك يمكن الإسراع في السّرد، وفي الدّيمومة زمن دوام الحدث، وتتفاوت في الرّواية بين لحظات تستغرق عدة صفحات وبين أيام أو شهور لا تأخذ إلا عدة أسطر، وتأخذ الديمومة تقانات متعدّدة، فكان اعتماد الكاتبة على الإضمار أو الحذف وبرزت هذه الإشارة في قولها “وكما رحلنا عن إشبيلية، غادرنا بغداد بعد زخف المغول إليها، كانت تلك كارثة الكوارث التي لم تخمن حدوثها، نيران المغول وصلت إلى بيت الحكمة، أعظم مكتبات بغداد. مياه دجلة والفرات اختلطت بالدّماء وحبر الكتب. ألقيت الجثث في الشّوارع، واهلك الغزاة معالم المدينة واحروقوها، كما أعدموا رجال العلم والفكر، ومن نجا من الموت منهم أخذوه إلى فارس. انتشرت الأمراض والأويئة في هواء بغداد، ومن تمكّن من الفرار ارتحل ناجيًّا بحياته”.
​وفي ثنايا هذه القراءة لا بدّ أن نتساءل ماذا تريد أن تقول لانا عبد الرّحمن من وراء روايتها، إنّها رواية المرأة بامتياز، فالمرأة هي الخصوبة في الرّواية هي التي تبني وتكمل المسيرة، هي البناءة القادرة على تقديم المعرفة، هي حاملة المسيرة.
​تميمة العاشقات هي التّعويذة التي تريد الكاتبة من خلالها حماية المرأة بكلّ فئاتها، ومن كلّ الطّبقات وفي كلّ العصور.

شاهد أيضاً

حـ.ركة أمل ودّعت المجاهد الراحل الحاج عاطف عون بمأتم مهيب في الشبريحا

مصطفى الحمود بمأتم مهيب، شيّعت حـركة أمل أحد قادتها المؤسسين عضو المكتب السياسي في الحركة …