سردية التضحية وكلاسيكية البناء الفنّي فيرواية خلف ستائر فيينا للروائية لوريسالفرح

إبراهيم رسول

الروايةُ التي تعتمد على التراجيديا, هي الرواية التي تقترب من الذات الإنسانية في كل زمانٍ ومكانٍ, فقد قرأنا رواياتٍ عالمية , إلا أن التي بقيت عالقة في داخلنا , هي تلك الروايات التي تفاعلنا معها تفاعلًا إيجابيًا, نتيجة السرد والثيمة التي لا مست الروح الإنسانية في داخلنا, ومن هذه القصص والحكايات, نشأت موضوعة مهمة هيمنت على العديد من الأعمال الأدبية الروائية , منها رواية خلف ستائر فيينا. نلمحُ ثيمةً مهمةً ومركزيةً ألا وهي ثيمة التضحية, التي تكون في قمة الإيثار. سردية التضحية أيّ العنوان الذي وردَ بصيغةٍ مركزيةٍ ومهمةٍ في الرواية, نلاحظُ أن تقنيات البناء السردي لهكذا نوع, اعتمد على قطبين اثنين, وهما ذات الشخصيات الأبرز في الرواية ( ريم العاشقة المضحية_ تيم العاشق المُضحى لأجله), بلاغة الاستعارات في لغة السرد, مكّن الكاتبة من إسباغ نوعٍ جماليٍ ممتعٍ على القصّة في أسلوبٍ أنيقٍ. بلاغة التضحية بدأت من تمهيدٍ مشوقٍ عن علاقةٍ بريئةٍ بين حبيبين, عاشا قصّةَ حُبٍ عُذريٍ, التمهيد هو إعدادٌ وتهيئةٌ لألمٍ سيقوم بناء الفكرة الروائية عليه, فالعقدةُ الروائيةُ بدأت من لحظة معرفة هذا الألم, الذي كان وقعهُ مؤلمًا على الحبيبين!

 

أن تدخلَ لعالم الرواية, وأوّل ما يُصادفك هو الأقوال التي تذهب مذهبًا فلسفيًا ما, فيكون النصّ يحملُ شيفرة لما ستقرأ, فمن أتقن البدايات لا بدَّ أن يُتقنَ النهايات, فالعتباتُ مُرغبات أو نافرات, قد تكون العتبة الأوّلى تُقربك أو تشدّك للعمل الفنّي كُلّه أو قد تنفر منه غير مأسوفٍ عليه, وبهذا تُوفر على نفسك عامل الوقت الذي يكون ضائعًا في قراءةِ عملٍ غير فنّي, فمن هذا المنطلق, ندخلُ إلى رواية خلف ستائر فيينا للروائية لوريس الفرح, الصادرة في طبعتها الأولى لسنة 2012عند دار مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع, فالتأسيسُ لعمليةٍ فنّية بدأ من التمهيد الأوّل الذي أعربت من خلالهِ عن الرؤى الفنّية والفلسفية التي سترد في المتن الداخلي. العتباتُ الداخليةُ كانت تمثل الصورة الفنّية التي ستكونها الرواية في قادم الصفحات, فالروايةُ لعبة التذاكي والمهارة, فالاهتمام بالعتبات الأولى هو نوعٌ من الجمال الذي يفرض على المتلقي أن يستشعر فنّية وجمال ما سيقرأ, الصورةُ البلاغية الأولى هي تلك الصورة التي تُشبهُ فيها أو تُقارب بين صورة الحياة والأنثى بتقاربٍ يكاد أن يكون متطابقًا تمامًا, فالاعتمادُ والاتكاءُ على بلاغة الصورة المعنوية للأنثى مع الصورة المادية الحسّية للحياة , جعل الصورة التشبيهية تكون متطابقة جدًّا, فكان ناتج التشبيه جميلًا, إذ تقول في أوّل البدايات: إن دعتك الحياة فلا تقطب لها جبينك, أترع كأسك وأتبعها , رافقها وكأنها حسناء تعدك بليلةٍ حمراء, مخضّبة بالشغف, وأمنحها كلك لتمنحك عذريتها, وتصيرا جسدًا واحدًا, هي الحياة.. كالأنثى لا تقبل أنثى سواها فيك. ( الصفحة 7).
هذه الكلمة تنفتح على صور كثيرة من الدلالات التي تُوحي بسعة المعاني لها, والبداياتُ مهمةٌ لأنها ترسمُ البناء الجمالي الذي ستتصف به الرواية. أّسلوب البناء الفنّي , كان أسلوبًا تتابعيًا, تسلسليًا, كلاسيكيًا, وهذا الأسلوبُ يعتمدُ في القصص العاطفية الرومانسية, فالقصةُ تدور بين حبيبين, تدور بينهما قصة حُبٍ عذريٍ شفيف, تمتحنهما الحياة بإمتحانٍ عسيرٍ, تبدو التضحية عندهما صفة يتقاربان في درجتها, فالحُب كان في أعلب مستواه الوجداني, الساردةُ كانت تتدخل كثيرًا في بناء الشخصيات وحتى في الأحداث, فالشخصياتُ لم تكن حرّة في تفكيرها وسلوكها, هذه الميزة تكثر حينما تكون القصة أخذت حيّزًا في نفس المبدع الذي أبدعها سواء من وحي خيالهِ أم من خلال نقلهِ وخلقهِ بهذه الصورة, فالتركيبُ العام يشي أن تدخلًا واضحًا سافرًا, مارسته المبدعة على شخصيات الرواية, الأسلوب الأقربُ لوحي القصص من قُبيل هكذا نوع, يكون الأسلوب التناوبي الذي يعد من أقدم الأساليب البنائية إلا أنه يكاد يكون الغالب في كل السرود الروائية, فلا يمكن لأي رواية أن تخلو من هذا الأسلوب, إنه يمثلُ أهمية كبيرة في الحفاظ على التسلسل الموضوعي للقصة, وإلا فقدت الرواية عنصري الزمن, أي الزمن الأحداث وزمن السرد, فهذا الأسلوبُ يحافظ على الزمن. اعتمدت الكاتبة على بلاغتها وسعة الجملة العربية عندها, فالمفردات أو بناء الجمل كان ينفتحُ على العديد من الصور التأويلية التي تكثر كلّما كان بريق الجملة يحتاج إلى تدفق المعاني والمفردات التي تتناسب وقوة الحدث.
القصّةُ اعتمدت المنولوج الداخلي, الذي يفتحُ الباب مشرعًا للكاتبةِ أن تمارسَ سردها, فالحديثُ الداخليُّ للشخصّية كثير , لا تتفق الظروف مع الحالة التي يعيشانها معاً, من خلالِ ثيمة التضحية, تسردُ لنا الروائية المبدعة لوريس الفرح, حكاية الحُب العذريّ الشفيف, فالحبُ أساسهُ التضحية, إذ لا حُبّ بدون تضحية, من خلالِ هذه الحكاية, بدأت الرواية الحدثية, التي تعتمد على الأحداث لا على الوصف فقط, بداية الرواية كانت وصفيةً , لكن الوصف بدأ بالأفول ليحلّ محلّهُ الحدث , الذي يمثل عنصر التشويق ومسار الرواية, فالروايةُ الوصفية لا تقدم لجنس الرواية التطور والديمومة في التقدم, فهي تحتاجُ إلى مهارات فنّية, ومخاتلة مع المتلقي ليستشعر فنّية وجمال ما يتلقى عن المبدعة.
ريم تبدو أكثر حركية وفاعلية في تقدم الرواية, وتطور أحداثها بما تطورت فيه, فالشخصية الأنثوية , هي الرمز الفاعل في الرواية, الذي تدور المعاناة حوله, العقدة هي في ريم وليس في تيم, عقدة البطلة الرئيسة هي الثيمة الأبرز في كل الرواية, تحاولُ أن تقدمَ المبدعة, صورة للأنثى المضحية, وصفة التضحية, هي صفة أثيرة ومركزية عند المرأة في كل العالم, لذا دارت عقدة الرواية على هذه التضحية والمقارنة بين تضحية الرجل وتضحية الأنثى, ريم, العاشقة, المخلصة لحبيبها, تدعوه لتركها والزواج من غيرها, لينجب الأطفال الذي كان يحلم بأن يكون عددهم خمسة! ريم تقرر أن تتركه ليمضي يشق طريق حياته, بعيدًا عنها, فهي لا تتحمل أن تجده لإمرأة غيرها! إلا أن السرد قدم لنا صورة التضحية بصورة عجيبة, الكاتبة قدمت لنا حوالي أربعين صفحة من الرواية البالغة عددها ثلاثمائة وأربعة عشر صفحة مقدمةً تمهيديةً لحالة الحب العذري بينهما, لتبينَ حجم هذه التضحية الكبيرة!
سردية التضحية تقترب من سردية الألم, فكلاهما يعبران عن ألمٍ دفينٍ في النفس الإنسانية, حافظت الساردة على نسق البناء الفنّي, فلم نجد تناوبًا في الرواية ولا توازيًا وهذا يرجع إلى طبيعة تلك السردية التي قدمتها بلغة راوٍ عليم, يمد شخصياته بالمعلومات العامة والشاملة, ولكن هناك اشتغالٌ نفسيٌ داخل الشخصيات المركزية المهمة ( ريم_ تيم), فهما عاشا صراعًا نفسيًا حادًّا من لحظة الصدمة التي صدمتهما وذلك لحظة معرفة أن ريم لا تستطيع أن تنجب الأطفال.
تقدم المبدعة لوريس الفرح في هذه الرواية, حكاية التضحية التي هي قمة الإيثار, كأنها بهذه السردية , تُعيد النظر بمسالةٍ مهمة, ألا وهي أن الأدب يغسل الأدران التي تعترض النفوس التي تجعلها ماديةً كمادية العالم في وقته الراهن هذا.
نسق التتابع أو البناء التسلسلي , يتناسب مع سردية مثل هذا النوع, كونها تعتمد حكاية واحدة مركزية وثيمة واحدة, البناء السرد التسلسلي , يحافظ على تسلسل أحداث الحكاية على ترتيبها السردي, الاشتغالُ السردي على هكذا نوع من السرد, يحتاجُ إلى لُغةٍ أنيقةٍ, وإلا فقدت الرواية عنصر التشويق والدهشة الذي لولاه لما قُرأَ العمل الإبداعي, فلغة الرواية, كانت متناسقة تمامًا مع طبيعة السردية العامة للرواية. إنّ حكاية ريم وتيم, حكاية التضحية في عالم الماديات الذي غابت فيه مشاعر الصدق والمودةِ الحقيقية, هذا عملٌ يعيد للذاكرة سرديات التضحية التي كنا نقرأها في بدايات القرن العشرين وكنا ننبهر ونتفاعل مع تلك الحكايات, فالكاتبة تحاول أن تضعَ لهذه الثيمة المركزية في علاقات الحُبّ.
إن اعتماد أسلوب البناء التتابعي, راجعٌ إلى عدم تلاعب الكاتبة في الزمن, فالزمن السردي يكاد أن يكون متطابقًا مع الزمن الحقيقي للحكاية, فنحن إذن نقرأ الرواية بأحداثها على أنّها تعتمد الواقعية في طريقة سردها للأحداث, في نسق التسلسلي يكثر الوصف في الرواية, وقد تكون الكثرة غير موفقة في أحايين كثيرة إلا أن رواية خلف ستائر فيينا, لجأت إلى الوصف لا إطنابًا ولا اختصارًا, فهي جعلت من الوصف , لحظةَ استراحة من تتبع السرد, فهي لا تتكلف ولا تبالغ في الوصف الذي هو في كثيرٍ من الأحيان غير حقيقي, ويعتمد الانطباع الذاتي الذي يحفظه المبدع في خيالهِ, ولأن الرواية واقعية في أحداثها وطريقة السرد فهي لا تطنب في الوصف ذلك الإطناب الذي يُنفر المتلقي من التكلّف.
لعلَّ مقولة الناقد ميخائيل باخيتن, التي رددها خلفه أجيال من النقاد: نقد رواية يجب أن يكون عبر سرد رواية, وهذا القول ( بما معناه), أن نقد الرواية , يجب أن يكون وفقَ رواية مبدعة, وإلا فالنقدُ الذي لا يقترب من جوهر العمل الفنّي لا يقدم الفائدة والمنفعة التي يريدها المتلقي من قراءته النقد, وقراءتنا النقدية في هذه الرواية, هي تعتمد على القراءة الإيجابية للرواية وقراءة القيم الفنّية التي اتصفت أو وردت فيها, فأنت واجدٌ في هذه الرواية, اعتماد الأسلوب الذي يتناسب وثيمة الرواية, أنت واجدٌ لغةً غير مصنعة ولا منمقة, بل لغة تروق للمتلقي الذي يبحث عن الجمال فينجذب إليه. كانت الروائية لوريس الفرح, تكتب للإنسانية عبر خطابٍ مباشرٍ, فهي لا تريد أن تكون روايتها مستهلكة في القراءة الأولى! إنّ كل ما يُكتب للإنسانية سيبقى خالدًا ما بقيت الإنسانية, وهذه سنةٌ معروفة, فبطلة الرواية , لم تكن محض ريم فحسب, إنها الأنثى في كل مكان وزمان, الأنثى التي ينبغي ان تكون هكذا, وما يجعل شخصّية ريم, تقترب من المتلقي, هو نزوعها نحو الإيثار والتضحية, فجاءت لغة السرد مناسبة لثيمة الإيثار.

شاهد أيضاً

الخولي: “لإجراءات حازمة تمنع أي مظاهرات او تحركات سياسية للنازحين السوريين”

  كشف المنسق العام”الحملة الوطنية لإعادة النازحين السوريين” النقيب مارون الخولي “عما حصل في مدينة …